الطائفية بين السياسة والدين ( قراءة في كتاب)

الكتاب: الطائفية بين السياسة والدين.
تأليف: حسن بن موسى الصفَّار.
الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت (لبنان).
سنة النشر: الطبعة الأولى، 2009م.
عدد الصفحات: 192 صفحة.

 
الطائفية من الأمراض المزمنة التي تنخر في جسد الأمة وتفتك بها، ولا يلبث هذا الوباء المتوحش أن يخبو، أو يكاد يخفت، حتى يعاود الظهور مرة أخرى بشكل شرس، نتيجة لأسباب ذاتية أو لأسباب موضوعية، مما يؤدي إلى إنهاك جسد الأمة وضعضعته. ومع هذا الإنهاك والضعف، ما زالت هذه الأمة تتعرض إلى المزيد من عمليات الفتك والإبادة والتشويه، بسبب عدم الورع عن استعمال سلاح الطائفية المدمر، والاستخدام السيئ والمفرط لها، من خلال التحريض المذهبي والطائفي، إلى العمل على تغذية حالات الإقصاء والنبذ والتخويف والتشكيك وغيرها من أسلحة فتاكة مزقت حاضر الأمة وضيَّعت مستقبلها.

إن كتاب «الطائفية بين السياسة والدين» لمؤلفه «الشيخ حسن بن موسى الصفار» والصادر عن «المركز الثقافي العربي» يحاول أن يرصد الكثير من المظاهر التي تتجلى فيها أمراض هذه الطائفية، وتوجيه النقد إليها، وتقديم الرؤى والحلول التي تساهم في تنفيس هذه المشكلة، وتسهم في حلها. ومع أن المؤلف يشير إلى التبعات والأسباب التاريخية التي تكمن خلف هذه المشكلة، ومسؤولية التراث في ترسيخ ثقافة الطائفية، إلا أن المؤلف لا يذهب بعيداً في مساءلة هذا التراث، أو العمل على تفكيكه، فالكتاب غير معني بالماضي وتحليله وتفسيره ونقده، بقدر ما هو معني بالحاضر والتعاطي مع إشكالياته ومشكلاته وأحداثه التي تثقل كاهل الأمة.

والكتاب وما ورد فيه من موضوعات هي عبارة عن مجموعة من الكلمات والخطب والمقالات والحوارات التي كتبت أو قيلت أو ألقيت في مناسبات حوارية وطنية أو دينية وتقريبية، وفي ظروف حساسة وصعبة من تاريخ الأمة، خصوصاً بعد احتلال العراق، وانفجار المسألة الطائفية فيه وتفاقمها، وخطر انفلاتها وانتقالها إلى بيئات أخرى مجاورة، إن لم يتم حصارها ووأدها في مكانها ومهدها، وتحصين البيئات الوطنية الأخرى من الانجرار إلى متاهاتها المظلمة، من خلال رفع مستوى المناعة الدينية والأخلاقية، التي تمنع جميع القوى والأطياف من الوقوع في شراكها البغيضة.

إن مشكلة الطائفية وما يرافقها من أذى وضرر يصيب الإنسان والمجتمع، لن يتم فهمها ومعرفة أبعادها وانعكاساتها، بالإضافة إلى مصادر نشأتها، والسعي إلى اجتثاث جذورها والتخلص منها، إلا من خلال طرق وأساليب الحوار المختلفة، على أن المشكلة هنا تكمن في أن أهل الحوار والمؤمنين به، والمنتسبين إلى مدرسة الحوار، والمنتمين إلى ثقافتها، هم قله، على الرغم من دعوة الدين وحثه الدائم على التمسك بهذا النهج والاقتداء به، لما يختزنه مفهوم الحوار من ثروة هائلة لا تنضب، حيث تحتاج إلى من يكتشفها ويستثمرها الاستثمار الأمثل، ليس فقط من أجل حاضر هذه الأمة ومستقبلها، وإنما أيضاً من أجل ماضيها، ماضيها الذي يحتاج منا إلى المراجعة والتقييم والنقد واستخراج العبر، وكل ذلك بالطبع من خلال التفكير والتفكر، والحوار النقدي الخلَّاق.

من الممكن والطبيعي أن يختلف أي أحد مع الكاتب وأفكاره ورؤاه، وهو أمر طبيعي ولا ضير فيه، بل هو أمر مستحسن ومطلوب ومرغوب فيه، لما في الاختلاف والتعدد من فوائد جمة لا تحصى، وما يميز المؤلف ضمن هذا الإطار أنه شخصية حوارية، ومتمرسة في هذا الشأن وذات خبره عالية، وتجيد أصول الحوار وفصوله، نتيجة ما راكمته من تجربه وممارسه امتدت على مدى سنين طويلة، تحولت إلى خبره عريقة، قلّ أن تجدها عند غيره ممن لم يخوضوا مثل هذه التجارب الحوارية، أو لم يطوروا إمكانات وأدوات الحوار في ذواتهم وشخصياتهم.

إن من الأشياء الأخرى التي تميز الكاتب أنه صاحب رؤية ومشروع واضح المعالم والخطوط، ولا يصعب على أي متابع إمكانية معرفة هذه الرؤية ومعاينتها وتلمسها من خلال أقواله وكتاباته وممارساته وأفعاله، وهو الأمر الذي يمكِّن الجميع من رصده ونقده ومحاسبته حين نحاسب ونحتسب، سواء كان ذلك بالكلمة والقول والكتابة، أو بالحوار المباشر والصريح مع صاحب هذه الروية، فالذين يتصدون للشأن العام وقيادة المجتمع وتوجيهه ليسوا ملائكة، ولا ينبغي لهم أن يكونوا كذلك، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، وما علينا إلا أن نراقب ونرى وننتقد ونحاسب، بعيداً عن لغة القوة والتجريح والتسفيه، بل من خلال الكلمة الطيبة والقول الحسن وقوة المنطق، لا بمنطق القوة.

لقد أثار الكتاب عدداً من القضايا والمسائل، أو المشكلات والإشكاليات التي تمر بها الأمة، بالإضافة إلى ما ضمه الكتاب بين دفتيه من أفكار متعددة، تناثرت وتوزعت على طول الكتاب وعرضه، والتي يمكن أن توضع ضمن محاور منفصلة. وقد حاولت في هذه المقاربة أن أرصد أبرز الأفكار الواردة فيه، وإبرازها وتصنيفها والإضاءة عليها، ليس حسب فصول الكتاب وموضوعاته، وإنما حسب تنوع الأفكار الواردة فيه، وجمعها ووضعها ضمن محاور وخطوط عريضة، مع التعقيب عليها من خلال إثارة ما يمكن من تساؤلات عنها وفيها وحولها.

1 - مشكلة الطائفية بين ما هو سياسي وما هو ديني

يتحدث المؤلف حول أزمة الطائفية في مجتمعاتنا بشكل واضح وصريح ومباشر، ولا يخلو من الجرأة. ويمكن تلخيص رؤية الكاتب في هذه المسألة على الشكل التالي: وهو أن تراثنا وتاريخنا مليء بالكراهية والبغضاء بين أتباع الطوائف والمذاهب والملل والنحل، وهذه الأرضية من الخلاف والنزاع تظل خافته وكامنة. إلا أن هذا التراث الخلافي، لا يعمل ويثار ويفعّل ويتم تحريكه، إلا بتأثير القرار السياسي، الذي يتحكم في مسألة إثارة التوتر والتشنج المذهبي، والدفع بها إلى درجة الفتن. أما إذا ارتأت القوى والأطراف السياسية المتصارعة والمتقاتلة أن هذه الفتن ليست في صالحها أو من مصلحتها، فإنها سوف تضع حدًّا لها، وتسعى إلى الاتفاق فيما بينها على وضع حل لإخماد أوار الفتنة، ووضع الحلول المناسبة لحلها، والتخفيف من حالة التوتر المذهبي، والميل إلى ضبط الأوضاع حتى لا تنزلق إلى مستويات يصعب التحكم بها أو السيطرة عليها.

لذلك فإنه حين تكون العلاقة بين أتباع المذاهب توافقية وطبيعية، فإن تقارب الآراء السياسية والبرامج الاجتماعية، والتوافق في المصالح، سيكون هو المؤثر في تشكيل التحالفات والتجمعات، بغض النظر عن الانتماء المذهبي والاختلافات العقائدية، ففي أتباع المذهب الواحد، هناك تنوع في الاتجاهات السياسية، واختلاف في المدارس الفكرية، وتضارب بين مصالح الفئات لهذه الجماعة أو تلك.

إلا أن هناك من يوظف الدين في إذكاء النزاع الطائفي، وفي إذكاء أواره، وصب الزيت على النار، باسم الدفاع عن العقيدة والمذهب، وذلك من أجل أهداف ومصالح سياسية؛ لذلك فإن مسألة العنف الطائفي مرتبطة ومحكومة بالقرار السياسي أكثر مما هي مرتبطة بالحالة الأهلية الشعبية ذات الخلفيات الدينية المذهبية. والمؤلف يشير في مقدمة كتابه إلى أن مشكلة الطائفية في مجتمعات الأمة يصنعها ويمدها عنصران رئيسيان، الأول سياسي، والثاني ديني. ويتمثل العنصر الأول في اعتماد سياسة التمييز الطائفي بين المواطنين، وتشجيع حالات الصراع المذهبي لأغراض سياسية، بينما يتمثل العنصر الآخر في نهج الخطاب الديني حين يعتمد التعبئة المذهبية، بالتركيز على نقاط الخلاف، والاستدعاء الدائم للتاريخ والتراث من أجل تغذية المشاعر المذهبية، والتحريض ضد الآخر، ومما يثير قلق الكاتب أن هذين العنصرين، يعملان اليوم بشكل محموم لتأجيج الصراع الطائفي في أكثر من موقع في ساحة الأمة، متسائلاً: هل ما حدث في العراق لا يكفي للعظة والاعتبار؟!

وعلى الرغم من أن الكتاب يحمل عنوان الطائفية بين السياسة والدين، إلا أن الأفكار الواردة حول هذه الإشكالية لا تنحصر ضمن محور أو فصل معين ومخصص لهذه القضية، حيث يمكن قراءة رؤية الكاتب مبثوثة وموزعة على كثير من صفحات وموضوعات الكتاب، ومع ذلك فإن القارئ يلحظ دقة التوصيف للمشكلة، وجذور مرض هذه الطائفية، ومكامن الخلل في واقع الأمة اليوم، وعمق الأزمة التي تعيشها. المؤلف يعتقد بأن عجز مجتمعاتنا عن التعايش والتحضر والتقدم والتطور كالمجتمعات الأخرى المتقدمة، على الرغم من تنوعها القومي والعرقي والديني والمذهبي والثقافي والتاريخي، يرجع إلى وجود خلل عميق يتمثل في أمرين، الأول يتمثل في فقدان النظام العادل الصالح، الذي يساوي بين الناس في الحقوق على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم، والأمر الثاني يتمثل في ثقافة التحريض على الكراهية، والتعبئة المتبادلة في أوساط أتباع كل مذهب تجاه المذهب الآخر، حيث تخفت وتختفي ثقافة التسامح، ويرتفع منسوب حالة التشنج والتعصب والكراهية للآخر المختلف في المذهب، والاتجاه الفكري، وإيغار الصدور ضده.

إن من أهم المشكلات التي تواجه عالم المسلمين وتبعدهم عن التقارب، هي مشكلة الاستبداد السياسي والديني، كما يستنتج المؤلف، ودائماً ما تتعثر خطوات الوحدة والتقارب بسبب العوامل السياسية، من خلال إثارة الخلافات وتغذيتها خدمه لأهداف مبطنة، حيث يساهم العامل السياسي أو المصلحي بشكل عام في تحويل اختلاف الرأي إلى مبرر للنزاع والاحتراب، حيث ينحاز إلى بعض الآراء ويسعى إلى فرضها على الناس، ويقمع الرأي الآخر، أو يستخدم بعض العلماء والفقهاء كواجهات لإضفاء الشرعية على حكمه، أو يستفيد من افتعال الخلافات الدينية لإشغال الأمة بها عن واقعها السياسي. كما أن العامل المذهبي أو التوجهات المذهبية ذات النزعة المتطرفة أيضاً دائماً ما تكون حجر عثرة وتقف دون التلاقي والتعاون والتعاضد، وتعرقل مسيرة الوحدة والعمل الجماعي المشترك، عبر فرض آرائها ومحاربة الرأي الآخر بأساليب الإرهاب الفكري، والتسقيط الاجتماعي، أو باستخدام القوة والعنف، كما أنها لا تكف عن التركيز على قضايا الخلاف وتضخيمها، وخلق أجواء من الشحن والتعبئة الجماهيرية، ضد الآخرين ممن لا يتفقون معها أو لا ينسجمون مع خياراتها.

عندما لا يتقي علماء الدين وفقهاء المذاهب الدينية ويتورعون من خدمة الأجندة السياسية، ويضعون حدًّا لثقافة التعبئة المذهبية، ويستبدلونها بثقافة التسامح والوحدة والتقريب، والدفع باتجاه خلق واقع التواصل والتداخل والتعاون بين أبناء الأمة، وإلا فإنهم سيصبحون أدوات صغيرة في خدمة العامل السياسي وخططه ومآربه.

إذا كانت المشكلات الطائفية والأمراض المصاحبة لها، لا تترعرع إلا في ظل الاستبداد السياسي والإرهاب الفكري، فإن أجواء الحرية والانفتاح، وارتفاع مستوى المشاركة الشعبية السياسية، وتحقيق مفهوم المواطنة، وقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر كلها كفيلة بتبديد أجواء الطائفية الملبدة بكل الأمراض الخبيثة والمؤذية، وستكون هذه القيم النبيلة والرفيعة والالتزام بها هي الأرضية والضمان لحالة التقارب والوحدة، كما يمكن تلخيص وإجمال وجهة نظر المؤلف حول طرق وأساليب تفكيك غلواء المشكلة الطائفية وتبديدها.

2- في مظاهر المشكلة الطائفية

يمكن ملاحظة مظاهر المشكلة الطائفية التي تطفوا على سطوح مجتمعاتنا من خلال تصاعد نبرة الخطاب المذهبي المتطرف، عبر فتاوى التكفير، وبيانات التخوين، وشيوع خطابات التحريض على الكراهية، وتبادل الاتهامات وحالات العداء بين أبناء الدين الواحد، وانتهاك حقوقهم المادية والمعنوية، وحوادث العنف والعدوان، واتساع حالات النزاع والاحتراب والإرهاب والعنف الداخلي والخارجي. بالإضافة إلى ما نشاهده من تمييز بين المواطنين على أساس قومي ومذهبي، وسياسات الإلغاء والإقصاء والتمييز بين المواطنين على أساس انتماءاتهم.

بالإضافة إلى ذلك، ما نشهده من انتشار واسع في المواقع الكترونية التي تمارس دور التحريض المذهبي الطائفي، وتعبئة أبناء الأمة ضد بعضهم بعضاً، وكذلك الدور السلبي الذي يقوم به الإعلام الفضائي المذهبي الذي ينشر ثقافة التعبئة المذهبية، من خلال ما يبثه من برامج تساهم في تأجيج الفتنة والخلاف والنزاع.

والسؤال إلى أي مدى أصبحت هذه الأمراض متغلغلة في روح وجسد هذه الأمة؟ وهل هناك من أمل يُرجى في شفائها من هذا المرض العضال؟

3- في جذور أمراض الطائفية

هناك إشارات متعددة في الكتاب تشير إلى أن أساس وجود المشكلة الطائفية وبذورها، يكمن فيما ورثناه من تراث وثقافة وأنماط علاقات، حيث يمتلئ تاريخنا وتراثنا الإسلامي بالأوراق الصفراء، والجراح الدامية، حيث هناك تراث ضخم من الجدل المذهبي، والسجالات والمساجلات والمماحكات والمناظرات والجدل الكلامي العقدي التي شغلت الأمة قروناً كثيرة، وأنتجت ثقافة من التعبئة المتبادلة، كما أنتجت النزاعات والصراعات، وهو الأمر الذي تجد فيه الاتجاهات المتعصبة فرصتها المناسبة في تمزيق صفوف الأمة، عبر التعبئة وإثارة الضغائن والأحقاد، وفتح ملفات الخلافات العقدية والفقهية، مستدعية كل ما في التراث والتاريخ من رصيد للكراهية المتبادلة والصراع المذهبي.

ومن هنا تبرز أهمية مراجعة هذا التراث، كما يشير المؤلف، وتنقية الثقافة المتداولة بين المسلمين، من آثار وشوائب عصور التخلف، والصراعات الطائفية. إلا أن السؤال ونحن نتحدث عن هذه المشكلة: هل نحن اليوم ضحايا هذا التراث وأسارى له؟ وكيف يمكن لنا مراجعة هذا التراث، ومن أين نبدأ، ومن هو المناط به عملية المراجعة؟ وهل يمكن اليوم فعلاً مراجعة هذا التراث؟ ألا يمكن أن تسبب لنا هذه المراجعة مشكلات أكثر، ومصاعب اكبر مما هو موجود؟

4- في الحلول لمشكلة الطائفية

يشير المؤلف أن خريطة الطريق لحل مشكلة الطائفية لن تتحقق إلا من خلال نشر ثقافة التسامح والتعايش السلمي، والتعارف الموضوعي، والفهم المتبادل، وقبول التعددية، والاعتراف بالآخر، والقبول بالتنوع والتعدد المذهبي، واحترام الرأي الآخر، والاحترام المتبادل بين الطوائف، وحسن الظن في الآخرين، وإقرار حقوق المواطنة والأخوة الإسلامية، واعتماد مفهوم المواطنة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتبني قضية حقوق الإنسان، ونبذ المشاحنات والمهاترات المذهبية والطائفية، وإقرار التعددية الفكرية والسياسية، بالإضافة إلى تجريم التحريض على الكراهية، والتأكيد على حرمة دم كل مسلم وعرضه وماله، أو الإساءة من أي طرف للآخر بالتكفير، أو التحريض، أو النيل من رموزه ومقدساته، مع حق كل طرف بأن يطرح رأيه ورؤيته.

إنه لمن الجميل أن تشيع هذه المفاهيم والرؤى بيننا، وتتحول إلى جزء من ثقافة الفرد فينا ومن سلوكه أيضاً، فمن الناحية النظرية لا أحد ينكر أهمية العلاقة والتعايش بين أتباع المذاهب والتعاون فيما بينها لخدمة الجوامع المشتركة والمصالح العامة، وذلك عن طريق إشاعة روح التسامح، وثقافة التعددية، والتزام أخلاقيات الحوار العلمي، والاختلاف المشروع، إلا أن السؤال الملح ونحن نطرب لهذه المفاهيم، هو الخوف من أن تظل مجرد مفاهيم مجرده ومتعالية يمكن أن تقال أو تكتب وتدغدغ المشاعر، وتشطح بالخيال والأحلام، لكن من جانب آخر يصعب تنزيلها على أرض الواقع، والذي يشهد انشقاقات وتمزقات لا تبشر بأن تتحول هذه المفاهيم والرؤى إلى نهج حقيقي يتبع، أو تصبح منهجاً للحياة يقتدى، وإنما هي مجرد أقاويل وأحلام من الصعب الوصول إليها ويستحيل تحقيقها؟

5- أصالة المفاهيم الحديثة

تصم أسماعنا اليوم مقولات ومفاهيم جديدة وحديثة، ودائماً ما تستعمل على نطاق واسع على ألسن أكثر النخب بكل أنواعها وأشكالها، وتقام لها الندوات والمؤتمرات، ولا تخلو وسائل الإعلام المختلفة من التحدث عنها وتسليط الضوء عليها، وتقديم التحقيقات حولها، والسؤال: لماذا هذا الاهتمام المبالغ فيه حولها، هل هو نتيجة تأثير الحضارة الغالبة في هذا الزمن الذي يضطرنا إلى اقتباسها واستيرادها والتزود منها، نتيجة ما نعانيه من تردٍّ حضاري وتخلف ثقافي، أم أن الأمر هو حالة طبيعية تحدث بين الشعوب والأمم من خلال الاحتكاك والتبادل الثقافي، خصوصاً في ظل انتشار وقوة وسائل الإعلام والاتصال الحديثة؟

عندما تطرح اليوم وتثار مفاهيم وموضوعات التعددية والحرية والتسامح وحقوق الإنسان، وغيرها من مفاهيم، تقفز إلى الذهن الكثير من الأسئلة حول مدى أصالة هذه المفاهيم، ليس فقط في تراثنا الديني، وإنما أيضاً في الدين ذاته، وهل النصوص الدينية المعتبرة تحتوي على هذه المفاهيم وتزخر بها، وهل هذه المفاهيم الجديدة تمتلك جذوراً راسخة في الفكر الإسلامي، خصوصاً ونحن نعرف أن المساحة الأوسع من تاريخنا كانت مسرحاً للاستبداد والآحادية، كما يؤكد المؤلف ذلك، وأن القسم الأكبر من الثقافة الرائجة في أوساطنا تغذي حالات التشدد، وإقصاء الآخر وإلغائه، حيث إن ذلك يترك الانطباع والتصور أن ذلك هو الأصل والطبيعي في تراثنا الإسلامي كفكر وتشريع؟!

يقول المؤلف: إنه بحث موضوع التعددية والحرية في الإسلام، ووجد أن هناك عدداً هائلاً من النصوص الدينية من آيات محكمات وأحاديث وروايات تؤكد هذا المفهوم كمنهج ومسار في نظام الاجتماع الإسلامي، إلا أنه عندما سادت عصور التخلف اختفت عناوين كثيرة لمبادئ وتشريعات إسلامية أساسية، تحت ضغط هذا الواقع المتخلف المناقض لتلك القيم والمبادئ والتشريعات، لكن حين أفاقت الأمة على واقعها الفاسد، كما يضيف المؤلف، وتحركت تطلعات التغيير والإصلاح في نفوس أبنائها، وانفتحت الأمة من جديد على مفاهيم دينها، عادت لساحة الأمة تلك العناويين الغائبة والمغيبة، كعنوان حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والديمقراطية، والتعددية، والحرية، والشفافية، وسيادة القانون، وإلى غيرها من عناوين إسلامية أصيلة قد أُغفلت، وأصبح البعض ينظر إليها بريبه، كأنها أفكار دخيلة، ومفاهيم مستوردة.

والسؤال: لماذا غابت هذه المفاهيم والقيم، أو لماذا غُيِّبت واندثرت طوال قرون عديدة، ولماذا ساد وانتشر الطغيان والاستبداد والجور السياسي والديني، وسادت المفاهيم المغلوطة وانتشرت الظواهر السلبية، وهل الابتعاد عن القيم وانتهاكها هو أساس المشكلة التي تنخر في البنية التحتية لبناء هذه الأمة، وما هو العمل من أجل استعادة هذه القيم من المجهول وإعادة زرعها في نفوس وقلوب وعقول أبناء هذه الأمة؟

يؤكد المؤلف دائماً على أن الدين يدعو إلى الرحمة والسلم والسلام والتسامح والإخاء والمحبة، وأن هذه القيم هي قيم أصيلة في الدين. والسؤال: أين يذهب هذا الدين، وها نحن نرى انتشار قيم التشدد والغلو والتعصب والتطرف والإرهاب باسم الإسلام والدين، فمن أين جاء هذا الفهم ولماذا انتشر؟ وهل هناك في الدين ونصوصه ومفاهيمه ما يحث ويشجع ويستحسن هذا السلوك، أم أن المسألة هي مجرد فهم واجتهاد في فهم الدين، وهل هذا الاجتهاد مقبول وله مؤيدوه، أم هو فهم خاطئ للنصوص الدينية، وهو اجتهاد غير مقبول ومنبوذ جملة وتفصيلاً، وكيف يمكن تعرية وتحجيم هذا الفهم الخاطئ للدين من جانب، ونشر وتوسيع قاعدة الإسلام الوسطي من جانب آخر؟

6- الطائفية بين الأمس واليوم

يقارن الكاتب بين حال الطائفية السائدة اليوم، وما يحدث من جدل مذهبي وصراع طائفي وإثارة للفتن والصراعات، بما حدث منها في سابق العصور والقرون السالفة بقوله، إن المقارنة تكشف عن وجود اختلاف كبير بينهما، ففي سابق العصور كانت هذه النزاعات تحدث في ظل حضارة إسلامية صاعدة ومتطورة ورائدة حيث كانت الأمة في موقع الصدارة والقوة بحيث إن مثل هذه المشكلات لم تكن تطفو أو تبرز بتلك الحدة أو ذاك الصخب، أما اليوم وفي ظل هذا الواقع المتردي والمتخلف والهزيل الذي تعاني فيه الأمة من نقص المناعة الدينية والأخلاقية والحضارية، فإنه يؤدي إلى إصابتها بالعلل والأسقام مع أدني هبة ريح، والانجرار والانزلاق إلى متاهات الطائفية البغيضة.

فإذا كانت الدولة الإسلامية في عصور صعودها وقوتها لم تتأثر بذاك القدر من تداعيات المشكلات الطائفية، واستطاعت احتواءها، كما قال المؤلف، فلماذا لم تعمل هذه الدولة على حل هذه المشكلات في حينه، وتضع الحلول الجذرية لها أثناء مرحلة قوتها، ولماذا ورّثتنا تلك الدولة هذه المشكلات ونحن الذين نعاني اليوم من الذل والهوان والضعف الداخلي والعدوان الخارجي، حيث تتكالب علينا الأمم الأخرى. وإذا كانت الأمة لم تحل مشكلاتها وأزماتها أثناء قوتها، فهل يمكن لها أن تحلها في ظل ضعفها وتخلفها؟

7- الاستثمار الخارجي في الضعف الداخلي

عندما تعاني أمة من الأمم ضعفاً داخليًّا مزمناً، وعدم قدرة على حل مشاكلها، ووضع الحلول لها، بل تزداد وتستفحل يوماً بعد يوم، فإن هذه الحالة من التردي هي البيئة المناسبة التي تغري الآخرين للتسلل والتغلغل واحتلال أرضها واستغلالها والطمع في خيراتها وثرواتها، خصوصاً عندما تكون هذه الأرض زاخرة بالثروات الهائلة والإمكانات الضخمة.

إنه لمن الطبيعي أن تتربص القوى الأجنبية بنا الدوائر، وتكيد لنا المؤامرات، من أجل الهيمنة على إرادتنا والسيطرة على أراضينا وثرواتنا، إلا أن السؤال: لماذا تتيح أمتنا الفرصة للإرادة الخارجية، للنفاذ إلى قلب نسيجنا الاجتماعي، والتلاعب بإرادتنا وإمكاناتنا وثرواتنا وخيراتنا؟

وعلى الرغم من حقيقة وجود مؤامرات الأعداء، وعدم الشك في خطط الاستكبار والاستعمار، إلا أن ذلك الاختراق لم يكن ليتحقق، كما يشير المؤلف، لولا وجود الأرضية الخصبة التي تتقبل تلك البذور السيئة، والتي تمنحهم الفرصة لتحقيق مبتغاهم، ثم يضيف، إنه ما لم يكن هناك استعداد داخلي، فإن المؤامرات والخطط تفشل، لذا فمن الواجب التركيز على حل المشكلات الداخلية، وأن نكون على قدر كافٍ من الحصانة والاستعداد للتصدي ومواجهة الفتن، وعدم إتاحة الفرصة للأعداء للنفاذ من خلال نقاط ضعفنا والثغرات التي ترهق كاهلنا، فالمجتمع الصحيح من الأمراض والأسقام، والذي يملك الوعي والنضج الروحي والثقافي، لا يجد هؤلاء الأعداء طريقاً ومنفذاً يعبرون منه لإلحاق الأذى أو الضرر به.

أما في حالة ما كانت جبهتنا الداخلية تعاني من الضعف والهوان والتشوه، وتنتشر فيها أمراض الطائفية، ويسودها الشحن والتعبئة الطائفية والمذهبية، من خلال رواج فتاوى التكفير وبيانات التشكيك والتجريح وخطب التحريض وإثارة الضغائن، والتي تخلق أجواء التشنج والخصام والتباعد بين أبناء الأمة الواحدة، فإن هذه الأمراض كما يؤكد المؤلف، هي الأرضية الخصبة الحاضنة لبذور الفتن التي تساعد الأعداء على تحقيق هدف تمزيق الأمة وإشغالها بخلافاتها.

لذلك من المهم سد المنافذ والثغرات داخل ساحة الأمة، وتعطيل دور قابلية الاستجابة، من خلال نبذ الخلاف والفرقة وعقلية الاستحواذ والوصاية وفرض الرأي على الآخرين، والتعامل مع الواقع كما هو دون إلغاء طرف لآخر، بل بالتعاون في الأصول والمشتركات، وفي تحقيق المصالح المشتركة، مع احتفاظ كل طرف بقناعاته ومتبنياته، مع العمل بشكل مشترك في بناء مجتمعاتنا وأوطاننا بعيداً عن الانشغال بالخلافات المذهبية على حساب التنمية والتقدم العلمي والتكنولوجي.

يتساءل المؤلف في نهاية المطاف، إن كان يقبل منا الشرع أو العقل، أن نبقى منشغلين بخلافات أكل عليها الدهر وشرب، وأن نعطي الفرصة للأعداء ليشقوا صفوفنا من خلال هذه الخلافات، وليغزوا أوطاننا بشعار حماية هذه الأقلية المذهبية أو تلك، أو بمبرر الدفاع عن الحريات الدينية وحقوق الإنسان؟

عندما يكون النزاع والاحتراب الداخلي سبباً يؤدي إلى توقف مسيرة التنمية، وضياع الثروات والإمكانات والقدرات والطاقات، ويعطي فرصة للقوى الأجنبية للتدخل والهيمنة على مقدرات أمتنا، وبسط النفوذ فيها، فكيف يمكن جمع وتوحيد أبناء هذه الأمة، المتعددة الطوائف والمذاهب، على مشروع إنساني وحضاري واحد، يستهدف بناء مجتمع متماسك، ويحمل في مضمونه رسالة الحرية والعدل والكرامة لكل البشرية، ويبشرهم بها ويدعوهم إليها؟

8- في النقد الذاتي

لعل من المسائل المهمة التي يقاربها الكتاب هي مسألة النقد الذاتي، وأهمية مراجعة الذات واكتشاف شوائبها، ونقاط الضعف والثغرات فيها، وأن يكون هناك جرأة في مناقشة الثقافة المذهبية، والتراث الذي تنهل منه وتستند إليه، خصوصاً بما يرتبط بمسألة التحريض على الآخر والعلاقة معه؛ لأن ثقافتنا الدينية السائدة -كما يشير المؤلف- مشبعة في طرحها المذهبي بما يدعو إلى التباعد والتنافر بين أتباع المذاهب الإسلامية. ومع أن نقد الآخر وإبراز عيوبه وأخطائه والتشهير بها يعتبره البعض عملاً بطوليًّا وفتحاً مبيناً ودفاعاً عن الدين والعقيدة، إلا أنهم من جانب آخر يتجنبون نقد ذواتهم ولا يجرؤون على مساءلة ومراجعة تراثهم، حيث يكاد يكون ذلك خطًّا أحمر لا يمكن تجاوزه، ويصل الأمر إلى حد تجريم النقد الذاتي، أو ممارسة حرية التعبير عن الرأي داخل كل مذهب، وإذا ما تجرأ أحد على التصريح برأيه ووجهة نظره، عُدَّ ذلك نوعاً من التنازل للطرف الآخر، ومساومة على العقيدة والمبدأ.

9- العقلية الآحادية

لعل أحد الإشكاليات التي يعاني منها العقل المسلم، هي في الادعاء بامتلاك مطلق الحقيقة، وأنه ينفرد دون غيره بها. إن سيادة العقلية الآحادية التي تلغي الآخر وتهمشه، من الكوارث التي أهلكت الحرث والنسل، وفاقمت من المشكلات الحضارية في مجتمعاتنا، وأدت بها إلى التراجع والتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية، ويرى المؤلف أن المشكلة في الصراع والتنافس المذهبي يتمثل في الموقف من وجود رأي آخر، حيث يرى كل في نفسه الأهلية والمكانة والحق في فهم الدين وتفسير نصوصه، وأن على الآخرين الانقياد له، والإذعان لأمره، والأخذ برأيه، وإلا فإنهم مخالفون وخارجون عن العقيدة، ويجوز التصدي لهم ومواجهتهم بشتى الوسائل والطرق، والمؤلف يذهب إلى أن الخلاص من مثل هذه العقلية يحتاج إلى إقرار مبدأ التعددية والاعتراف بالرأي الآخر واحترامه، واعتماد نهج الحوار ومقارعة الحجة بالحجة، دون إساءة أو عدوان، بل بالحوار والجدل بالتي هي أحسن.

والسؤال: إذا كانت هذه هي العقلية السائدة والمهيمنة والمتغلغلة في النسيج الفكري والثقافي، وفي الوعي العام في مجتمعاتنا، فكيف يمكن تصور الخروج من هذه الكارثة من خلال الدعوة إلى تغيير نمط التفكير وإقرار هذه المفاهيم الجديدة، وهو الأمر الذي يعني تغيير شامل للثقافة السائدة واستبدالها بأخرى تتواءم والتطورات الفكرية والثقافية الحادثة في عالم اليوم؟، على أن السؤال الأكثر أهمية هو: كم من الوقت نحتاجه من أجل الوصول إلى هذه الثقافة الجديدة؟

إنه لمن المؤكد أن مسألة المراجعة ونقد الذات من الأمور الصعبة والموضوعات الحساسة التي تحتاج إلى الجرأة والشجاعة لسلوك هذا الطريق المحفوف بالمكاره، إلا أن السؤال: ما قيمة العودة إلى الماضي واستدعائه، وما هو المردود المرجو من هكذا مراجعه قد تُكلِّف الكثير من الوقت والجهد، وأيضاً للثمن الكبير الذي يمكن أن يدفعه من يجرؤ على دخول عش الدبابير؟ وهل المردود من هذا النقد يستحق كل هذا الثمن المدفوع؟

10- دور النخبة الإيجابي في التصدي للمشكلات الطائفية

دائماً ما يشير الكتاب ويتطرق إلى دور النخبة في مسألة الطائفية، وحساسية وخطورة هذا الدور وأهميته، حيث يؤكد المؤلف أن من واجب العلماء والدعاة أن يُنذروا من تصل لهم دعوتهم من خطر الطائفية الزاحف، وأن يجهروا بكلمة الحق في الدعوة إلى الوحدة والتقارب والتآلف ومجابهة باطل التفرقة والتمزق والانقسام، والمساهمة في نشر الوعي والتبشير بثقافة الوحدة والتقارب بين أبناء الأمة والوطن، ووضع حد للتعبئة المذهبية، والعمل على عدم ترك الساحة للمتشددين والجاهلين من الذين يثيرون المشاكل والفتن، وتوجيه أنظار أبناء الأمة لهموم الحاضر وللبناء والتنمية الشاملة في أوطانهم. كما أن من واجبهم تحمل مسؤولية تذكير الأمة بمبادئ دينها وتوعيتها بأخطار التحديات المحدقة بها، وتبصيرها في مواجهة الفتن والشبهات. كما تلعب اللقاءات والتواصل بين النخب دوراً مهمًّا في تنقية الأجواء فيما بينها، وخلق حالة من الود، وتفتح المجال لخلق حوارات معمقة وجادة تتمخض عن توصيات وتوجهات وقيم يمكن التبشير بها في أوساط تيارات كل فئة.

11- في دور النخبة السلبي

إذا كان هناك دور إيجابي يجب أن تمارسه النخبة المسؤولة، فإن الواقع المعيش لا يخلو من نخب لا هم لها إلا إثارة الشكوك والاتهامات ضد دعاة الوحدة والتقريب، لتبرير تقاعسها وكسلها وانكفائها، أو لاستفادتها واستغلالها الواقع السيئ والفاسد والسلبي الذي تمر به الأمة من أجل تمرير أغراضها وتنفيذ مآربها، فهي لا تجيد غير لغة التعبئة الطائفية، وإنتاج خطابات تعبوية مغرضة، وإثارة المشاعر ودغدغة العواطف المذهبية، حيث ترى أن إصدار الفتاوى التكفيرية، وإثارة الكراهية تكليفاً شرعيًّا، مما يؤدي إلى تأجيج المشاعر وتعبئتها، وإثارة الضغائن والأحقاد، وفتح ملفات الماضي السحيق وخلافاته العقدية والفقهية، وتجميع أوراق السقطات والأخطاء، وكل هذا يؤدي في نهاية الأمر إلى خلق وإيجاد مناخات تبعث على الفرقة وتعمق الخلافات، وتدفع باتجاه التصادم بين أبناء الأمة، والانزلاق إلى أوحال الفتنة ومتاهاتها السوداوية الكالحة.

ولعل السؤال بعد أن رأينا هذين النموذجين هو: كيف يمكن التصدي لدعاة الفرقة والفتنة وتعريتهم وفضحهم والتحجيم من دورهم، وفي المقابل كيف ينمو ويزداد عدد أفراد النخبة المسؤولة والجادة، وما هي طرق وأساليب تطويرها وتنميتها والرقي بممارساتها وأدوارها؟

12- دور النخبة في التواصل

يشير الكتاب إلى أن هناك إشكالية في التواصل بين علماء ومثقفي المذاهب الإسلامية، وأنها ضيقة وفي حدودها الدنيا، حيث لا تتناسب مع تطلعات وحدة الأمة، في ظل الانتكاسات الصعبة والانكسارات المؤلمة التي تمر بها، حيث تنكفئ النخبة على ذاتها، حيث تستغرقها وتستهلكها قضايا وشؤون مجتمعاتها الداخلية، وتتذرع بمختلف الأسباب والمبررات الفكرية والنفسية والاجتماعية للعزوف عن الانخراط في هذا المجال الحيوي. والمؤلف يدعو إلى التفكير في هذه المسألة ومعالجة هذه الحالة من خلال برامج الحوزات والجامعات والمراكز الدينية، وأن يكون مجال التقريب والتواصل جزءاً من برامج ودروس هذه الجامعات والمجمعات الدينية.

والسؤال: لماذا تفضل النخبة، المُعوَّل عليها ممارسة دور التواصل والتقريب، حالة الانكفاء على الذات، وما هي أسبابها ومبرراتها في عدم الاهتمام والعزوف عن العلاقة مع الآخر، وإقامة العلاقات والصداقات وتبادل الزيارات؟ وما هي جدوى الانفتاح والتواصل مع الآخرين، وما هي آثار ذلك الآن ومستقبلاً؟

إذا كان هناك من أهمية وضرورة للعلاقة مع الآخر والتواصل معه، لانعكاسات هذا الأمر الإيجابية على أوضاع الناس الحياتية والأمنية، فلماذا هذا العزوف عن الانخراط في ممارسة هذا الدور، هل هو نتيجة النقص في ثقافة التواصل والتقريب، أو بسبب الانطباعات السلبية عن مؤتمرات ومحافل التقريب، أم أن هناك نقص في الكوادر المؤهلة لممارسة هذا العمل، وكيف يمكن العمل على تأهيل وتطوير الكفاءات المناسبة للقيام بهذا الدور؟

إذا كان هناك عزوف وانكفاء وعدم رغبة أو حماس عند الكثير من النخب للمشاركة في جهود التقريب ونشر ثقافة التسامح، بالإضافة إلى النقص في الكفاءات المؤهلة، أو قلّة عددها، فهل يعني ذلك أن حلم التقارب والتقريب والتسامح والتعايش في سِلم وحب ووئام، هي مجرد أحلام طوباوية لن تتحقق مهما عمل العاملون وسعى الساعون، وأن الجهات الأكثر تطرفاً وتعصباً هي التي سوف تملأ الساحة بحركتها وفعلها وصوتها؟

13- ازدواجية الخطاب

كم هو مقدار التناقض الذي تعيشه الكثير من النخب، والازدواجية التي تمارسها في سلوكها وممارساتها وأقوالها، وكم هم هؤلاء الذين يقولون أشياء في العلن، إلا أنهم لا يلتزمون بها في ممارساتهم، أو يمارسون أشياء تتناقض مع ما يدعون إليه من قيم وفضائل، أو تراهم يقولون أشياء لك وأمامك، لكنهم من خلفك يقولون ما يخالفه. إن هذا السلوك عمل ممقوت من أي أحد، إلا أنه أكبر مقتاً عندما يصدر من النخب التي تدَّعي توجيه الناس وإصلاحها، وتدعو في العلن، أو في الغرف المغلقة إلى الالتزام بقيم التقارب والتعايش والتسامح والتآخي والتآزر، إلا أنها عمليًّا لا تلتزم بأقوالها، وهو الأمر الذي يفقد هؤلاء المصداقية عند عامة الناس، وتجعلهم يتشككون في أقوالها وخطابها، أو في أعمالها وسلوكها.

إن هذه الحالة من الازدواجية في الخطاب والتناقض في السلوك والممارسات من القضايا التي أثارها المؤلف في بعض فقرات الكتاب، مشيراً إلى أنه ليس مقبولاً أن يتحدث البعض منا في جلسات الحوار بلغة الوحدة الدينية والوطنية، وأن يظهر الاحترام للرأي الآخر، ويدعو إلى مواجهة الأخطار المحدقة بالدين والوطن، فإذا ما عاد إلى وسط جمهوره وتياره، خضع للأجواء السائدة، من تجاهل الآخر، والدعوة إلى إلغائه، واستخدام لغة التشدد والتزمت، مضيفاً أن تياراتنا تعيش آثار ثقافة التعبئة ضد الآخر، وأن على النخبة مواجهة هذه الثقافة بنشر ثقافة التسامح، والتزام العدل والإنصاف، والتحلي بالجرأة للارتقاء بمستوى الناس إلى آفاق أخلاق الإسلام، لا الانجرار مع التوجهات الهابطة والخضوع لضغوطها.

إن تجاوز مشكلات الخلافات الدينية والمذهبية، والسعي إلى حلها وتجاوزها، من خلال الالتقاء والتحاور، سيكون أمراً صعباً على تلك النخب التي نهلت من ثقافة التحريض على الكراهية والتعبئة والتجييش ضد الآخر والمختلف، والذين سعوا إلى تربية الأتباع وتثقيفهم على هذه الثقافة سنين طويلة، حيث يصعب عليهم الإعلان عن آرائهم بشكل علني وجريء وصريح؛ لأن هذا الأمر سيؤدي إلى إثارة الأتباع وغضبهم ونفورهم، بسبب كونه، من وجهة نظرهم، خروجاً عن الدين والثوابت والمعتقد، أو لكون هذه النخبة مارست الخداع والتضليل معهم.

الانسجام مع الذات والصدق معها يتطلب الجرأة على إعلان الحقيقة والتمسك بها على الرغم من الثمن الذي يمكن أن يدفعه الإنسان من رصيده وسمعته وحجمه ومكانته، فعندما يكون الإنسان أو العالم واثقاً من نفسه ومن الاستنتاجات التي وصل إليها بعد البحث والمراجعة والتدقيق، فلن يكون من النزاهة إخفاء الحقيقة وحجبها، حتى وإن كان هناك الكثير ممن يختلفون مع هذه الاستنتاجات الجديدة؛ لأنه بالتأكيد لن يعدم الأمر ممن يمكن أن يسمعوا القول الجديد ويحاوروه ويناقشوه وإذا اقتنعوا به أخذوه، إلا أن المهم سواء قبل الناس هذا الرأي أو رفضوه، ألَّا يتم ذلك إلا بالحوار والجدل بالتي هي أحسن، بعيداً عن لغة العنف، وعنف الكلمة، لأن القناعة التي تأتي بالقصر والإكراه، لا تلبث أن تتلاشى بعد حين.

إذا كان أمر إعلان الحقيقة والإعلاء من قيمتها شيئاً يحتاج إلى جرأة وتضحيات صعبة، إلا أن خوف النخبة من فقدان الشعبية وتشتت المريدين من حولها، من الأسباب التي تحول دون هذه الجرأة، والمؤلف كونه رجل دين وصاحب خبرة وتجربة في هذا المجال يكشف أن الساحة الدينية لا تخلو من حالات المنافسة الداخلية بين الاتجاهات والشخصيات الدينية، حيث يخشى العلماء الراغبون في الانفتاح على الآخر، استغلال منافسيهم للأمر في ساحتهم الداخلية، للتشكيك في صلابتهم المذهبية، ويشرح ذلك بقوله: إنه التقى شخصيًّا مع عدد من علماء السنة والشيعة، ووجد لديهم رؤية طيبة في هذا الاتجاه، لكنهم يعتذرون عن عدم إعلان رأيهم، أو إظهار علاقتهم وتواصلهم مع علماء من المذهب الآخر، مراعاة لمشاعر جمهورهم، وخوفاً من استغلال منافسيهم.

إن ما يحول بين المرء والتصريح بالحقيقة والجهر بها، هو ضعف الثقة بالذات، أو لعدم امتلاكها ما يكفي من الخلفية الثقافية والعلمية التي تسند قناعاتها، أو ضعف المنطق الذي تتكئ عليه في تناولها للقضايا المطروحة، أو هشاشة اللغة والأسلوب والتجربة الحوارية التي لا تمتلك من عدتها وأدواتها ما يؤهلها لقابليه النجاح والتفوق في التعاطي مع الحوار بكل جدارة واقتدار.

14- من الأقوال إلى الأفعال

دائماً ما يعاب علينا أننا ظاهرة صوتيه، نكثر من الكلام والصراخ بعيداً عن الفعل والإنجاز، نتيجة عجزنا وكسلنا، وعدم بذل الجهد في تحويل ما نقوله إلى أفعال. والمؤلف يقول: إننا دائماً ما ننشغل كثيراً بالكلام عن الوحدة، كمفهوم وفكرة عامة، وكعنوان وشعار عريض، إلا أننا لا نقترب من الحديث عن آليات وأدوات الحالة الوحدوية، فإذا لم نجتهد في وضع خارطة طريق توصلنا إلى الوحدة والتقارب، ولم نبحث في الخطوات العملية التي يجب اتخاذها لإنجاز الهدف المطلوب، فإن المسألة ستبقى مجرد حبر على ورق دون أن يتحقق شيء على أرض الواقع.

والكاتب يؤكد أنه دون الانتقال إلى البرامج العملية، والخطوات التنفيذية، لتفعيل مكاسب اللقاءات والحوارات، وتطبيق توصياتها، وبلورة إرادة التقارب والوحدة، بالمناقشة الصريحة، والحوار الموضوعي، فإنها ستصبح مجرد كلام في كلام، وعملية روتينية مكررة في تبادل كلمات الإطراء والمجاملة، حيث تفقد هذه الاجتماعات بعد ذلك وهجها، وتضعف مصداقيتها أمام كل المتطلعين للإصلاح والتغيير والتطوير.

15- نتائج العمل

إن عملية التغيير الاجتماعي، ونشر ثقافة التعدد والتسامح والتعايش، وقبول الآخر واحترام رأيه، ونقل مستوى الوعي إلى مستوى الحصانة الفكرية والثقافية، التي تمنع الانجرار إلى حالة التخاصم والتباعد والجفاء والإقصاء والإلغاء وممارسة التطرف والعنف والإرهاب، هي ليست أموراً يمكن تحقيقها بين عشية وضحاها، وإنما القضية تحتاج إلى زمن ووقت حتى تبدأ عمليات التحول والتغيي. وفي الكتاب يمكن ملاحظة هذه الرؤية من خلال إشارة المؤلف إلى أنه ليس من المتوقع إنهاء آثار ومضاعفات فترة طويلة من سوء الفهم والجفاء بين عشية وضحاها، لأن هناك من تربَّوا على منهج التعصب، وارتبطت مصالحهم بالآحادية والغلو.

ومع إدراك المؤلف هذه الحقيقة، وصعوبة تحقيق التغيير المرتجى، واحتمال أن يستغرق فترات طويلة من الزمن، إلا أنه وفي عديد من مواضع الكتاب يصر ويؤكد ويحث على العمل والكفاح والنضال في سبيل تحقيق هذا الهدف مهما كان تواضع النتائج، ومهما عظمت المشكلات وكبرت المصاعب. وتتحلى نبرة المؤلف في هذا الإطار دائماً بالتفاؤل وعدم الإحباط، والمهم كما يقول ألَّا نسمح للانتكاسات التي تحدث بين فترة وأخرى أن تتحول إلى حالة إحباط ويأس في النفوس، أو أن تؤدي إلى التراجع في العزيمة، أو الخفوت في مستوى التطلعات التي يؤمن بها شريحة من أبناء هذه الأمة.

إذا كانت الأهداف والرؤى والمشاريع لا تتحقق إلا من خلال وجود برامج وخطط تحدد الوسائل والطرق لتحقيقها، بالإضافة إلى وجود الكوادر المؤهلة للقيام بتنفيذ المشروع، ومع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية حدوث مشكلات ومصاعب ذاتية وموضوعية تؤدي إلى تعطيل أو تأخير التنفيذ، أو حتى إلقائه، إلا أن السؤال هو ماذا سيكون عليه الأمر والوضع في حال لم يكن هناك، لا مشاريع ولا خطط ولا كفاءات ولا هم يحزنون؟

16- التشدد الشيعي

هل التسامح والتعايش والتقريب والوحدة وغيرها من مفاهيم وقيم هي أمر مستجد وطارئ ومستحدث، أم هي أمور متأصلة في بنية ثقافة الإنسان المسلم وحياته، أم أن القضية هي على العكس من ذلك، حيث إن هذه القيم ذات جذور عميقة وصلبة في ثقافة الإنسان المسلم، وأن أمر التشدد والغلو والتطرف وكل هذه القيم السلبية هي الأمر الطارئ والدخيل على فكر وثقافة الأجيال الجديدة، وهل يمكن القول أيضاً: إن الدين يمتلك قيماً رفيعة وخلاقة، إلا أن المشكلة تكمن في هذا الإنسان الذي لم يستطع استيعاب وفهم هذه القيم وتربية نفسه عليها وممارستها بشكل إنساني في الواقع المعيش؟

عندما عاشت أمتنا في غابر الأزمان فترات مليئة بالصعاب والمشكلات الناتجة عن الاحتراب الداخلي والفتن بين أطيافها المتعددة، حيث سادت وهيمنت وخيمت أجواء الظلام والتخلف وشريعة الغاب، فإنه بالتأكيد لا يخلو هذا التاريخ، وما فيه من تراث، من فترات عمَّ فيها النور الضوء، وساد وانتشر فيها الضياء. على أن هذا الماضي بكل ما فيه من نور أو ظلام، يحتاج منا إلى المعرفة والدراسة والعلم والمراجعة، من أجل القيام بعمليات الفرز والتقييم، ومن ثم الإجابة عن كل الأسئلة التي يمكن أن ترد على العقل، ليمكن بعد ذلك الأخذ والترك من هذا التراث والإرث المنقول.

والحاضر هو أيضاً لا يخلو من المشكلات والعيوب، سواء كانت مستجدة تفرزها حركة الواقع المعاش، أو كانت نتيجة انتقال إرث ثقافي ورثناه من السابقين، الذين عاشوا فترات وظروف حتمت عليهم اجتهادات واستنتاجات تتوافق والمراحل التي عاشوا فيها، إلا أنها قد لا تتفق مع العصر والزمن الحاضر، الذي حدثت فيه الكثير من التطورات والتغيرات المادية والثقافية، ما يجعل أمر فهم الحاضر واستيعابه ضرورة ملحة حتى يمكن القيام بعملية المواءمة بين الدين والدنيا بطرق خلاقة.

إن عمليات المراجعة والتقييم أمر مطلوب ليس فقط من جهات دون أخرى، وإنما هو أمر مطلوب وملح من الجميع دون استثناء، ولا يحسبن أحد أن هذه المراجعة وعمليات محاسبة الذات تعني تدمير الذات، أو أنها تراجع، أو تنازل عن القيم والمبادئ، وإنما هي مراجعات لا تأتي إلا من موقف قوة واقتدار، لإزالة ما علق بالذات من شوائب وآثار من تلك الفترات الخاوية من تاريخ أمتنا الكبرى.

والمؤلف يلاحظ في أحد موضوعات الكتاب أن الساحة الشيعية، حيث هو ينتمي إليها، لا تخلو من اتجاهات متشددة مذهبيًّا، لقناعاتها الفكرية، أو لنهج تعصبي، أو رد فعل لتطرف من الجهة الأخرى، هذه الاتجاهات الشيعية المتطرفة، تشكل ضغطاً على خط الاعتدال الشيعي العام، بدغدغتها للمشاعر الطائفية، وطرح نفسها كسور حصين للدفاع عن العقيدة وحمايتها، وهي بطروحاتها المغالية، ونيلها من رموز الطرف الآخر، انطلاقاً من فهمها لقضية التولي والتبري، تعطي المبررات والأوراق لجهات التطرف السني، وهكذا تستمر لعبة الفعل ورد الفعل، بين جهتي التطرف الشيعية والسنية، على حساب مصلحة الدين والأمة، مما شكل ضغطاً على دعاة التقريب والاعتدال، ويعوق مسيرتهم.

من الممكن فهم واستيعاب ما أشار إليه المؤلف من أن التشدد والغلو والتطرف من جهة ضد أخرى، يولد رد فعل مقابل من الجهة المقابلة، يتسم أيضاً بالعنف والتطرف، إلا أن ما ينبغي فهمه وتوضيحه وشرحه من قبل المؤلف: ما هو المقصود بالقناعات الفكرية، أو النهج التعصبي، والطروحات المغالية الناتجة عن فهم قضية التولي والتبري، الذي يولد التطرف في الساحة الشيعية، فهل هذا التشدد هو أمر طارئ ومؤقت، أم له أسس بنيوية متوارثة صعبة التغيير؟

لقد أشار المؤلف في موضوع آخر من الكتاب، إلى أن هناك انبعاثاً لتيار سلفي شيعي، يركز على قضايا الخلاف ويضخمها، ويجدد طروحات الغلو والمبالغة، في بعض القضايا الولائية الشعائرية، مما يربك الساحة الشيعية الداخلية، ويقدم صورة منفرة عن المذهب للآخرين، ويعطي الذرائع للمتطرفين من الجهة الأخرى، ضد أتباع أهل البيت في مختلف المواقع، ويضيف المؤلف إن نمو هذا التيار سيكون على حساب أصالة مدرسة أهل البيت، ويزيد في تعقيد العلاقة مع بقية المسلمين، كما سينفر الشرائح المثقفة الواعية من أبناء الشيعة.

كما أشار المؤلف إلى أن النيل من رموز الطرف الآخر يعقّد من العلاقة بين أبناء هذه الأمة، ويسبب الحرج الشديد، ويعطي الفرصة والمبرر للجهات المتطرفة لتعميق الشرخ والهوة بين الطوائف. وإذا كان من حق الشيعة أن تكون لهم رؤيتهم وقناعتهم كما يقول المؤلف فإنه ليس من حقهم الإساءة إلى رموز ومقدسات الطرف الآخر؛ لأن ذلك يشكل انحرافاً عن تعاليم الدين وآدابه، ويؤدي إلى الفتن وتخريب وحدة الأمة. ودعا إلى معالجة جريئة لهذا الأمر من قبل المرجعية الدينية والجهات القيادية، وإلا فإن مسيرة التقريب تبقى متعثرة، وأرضية الفتنة ستبقى خصبة أمام الطامعين والمغرضين.

وقد دعا المؤلف إلى تسليط الأضواء على بواعث هذا التيار السلفي في البيئة الشيعية ودوافعه، والحذر من تغلغله في الحوزات والمؤسسات الدينية، ودعم توجهات العقلانية والاعتدال والانفتاح. وأن يكون للعلماء وكبار المرجعيات دور في ترشيد توجهات الجمهور، وتشجيع جهود التقريب والوحدة، والدعوة إلى التسامح والتقارب والتعايش، والانتصار لخط الاعتدال، وكبح جماح جهات التطرف والتشدد.

17- هل التقارب والتعايش يعني تقديم تنازلات على حساب العقيدة والمذهب

هذه من الإشكاليات التي أثارها الكتاب وحاول المؤلف معالجتها ضمن أحد موضوعاته متسائلاً: هل الوحدة بين المسلمين لا تتحقق إلا بإلقاء طرف لآخر، أو اندماجه فيه، وهل هذا الأمر يمكن أو يعقل، وعندما تخبرنا تجربة القرون الماضية منذ بزوغ شمس الإسلام إلى يومنا هذا، أن هذا الأمر لن يتحقق، فهل نظل نصر ونقضي أوقاتنا وحياتنا في أمر وقضايا سوف تستهلك كل حياتنا وأعمارنا دون أي مردود يذكر، أم أن المسألة تحتاج منا إلى التفكير والوعي وبُعد النظر، والتخطيط لحاضرنا ومستقبلنا بطرق يكون مردودها الإيجابي لصالح الدين والإسلام والإنسان مهما كانت عقيدته وانتماؤه؟

يذكر المؤلف أن هناك متحفّظين على دعوات الوحدة والتقريب في الوسط الديني، يثيرون مشاعر القلق من تقديم التنازلات للطرف الآخر على حساب العقيدة والمذهب، إلا أن المؤلف يدحض هذا القلق والتوجس غير المبرر بقوله: إن العلماء الوحدويين منذ بداية مسيرة التقريب في هذا العصر تحدثوا بأن غرض الوحدة والتقريب هو تحقيق التعايش بين أبناء الأمة، وتوفير أجواء الاحترام المتبادل، والسعي للتعاون في خدمة المصالح المشتركة.

لذلك فإن الوحدة والتقريب لا تعني التحول من مذهب إلى آخر، ولا هي تنازل من أحد عن معتقداته وآرائه، لأن أمور العقيدة والدين لا تقبل المساومة، وهي شأن قلبي يستعصي على الإخضاع، وإذا كان هناك من شيء يجب التنازل عنه فهو الإساءة والعدوان وإثارة خطابات التحريض والكراهية والتكفير، وكل الممارسات والأفعال والأقوال، التي تؤدي إلى إضعاف الأمة وتشتيتها، وينزلق بها إلى الدرك الأسفل من الهاوية.

إذا كانت الوحدة والتقارب والانفتاح لا تعني التنازل عن أي شيء من المعتقدات على الإطلاق، إلا أنه يمكن تقديم التنازلات، كما يقول المؤلف، في الممارسات العبادية والخارجية، اتقاء للسوء والأذى، أو من أجل صيانة أجواء التعايش، وجلب المحبة وحفظ وحدة المسلمين ودفع الضغائن، ومع ذلك فإنه من المهم في هذا العصر على دعاة الوحدة والتقريب نشر ثقافة حرية الاعتقاد، ومعارضة أي قيود على الشعائر والممارسات الدينية، لأن عالم اليوم لا يقبل تقييد الحريات الدينية.

إنه لمن المؤكد أن تغيير نمط التفكير عند عامة الناس، ودعوتها إلى تقبل الآخر واحترام آرائه ومعتقداته، يحتاج إلى عمل كبير وجهد فعَّال ومتواصل، لا ينحصر في النقاشات والحوارات بين النخب داخل الغرف المغلقة فقط، وإنما تحتاج إلى ممارسات عملية على أرض الواقع، من خلال نزول هذه النخبة إلى الناس وتوعيتهم، ليس فقط من خلال إخبارهم وإعلامهم بنتائج هكذا مؤتمرات، وإنما أيضاً من خلال ربط هذه النتائج والأفكار والرؤى الجديدة بتأصيلها دينيًّا، وذكر الحوادث والشواهد التي تثبت أن الدين أو التراث الديني، يزخر بالقيم والأفكار والممارسات الإنسانية الخلاقة، التي عاش فيها أبناء الدين الواحد في ظل أجواء المحبة والتعاون والتكاتف والتآزر من أجل مصلحة هذه الأمة.

18- تجديد الخطاب الديني

إن وصف واقع حال الأمة والتحدث عن ظواهرها السلبية وتحديدها لهو أمر بالغ الأهمية، إلا أن الأهم من ذلك هو البحث عن الجذور التي تكمن خلف هذه الظواهر ومعرفة مصادرها، فهل مشكلة الأمة اليوم تكمن في النصوص أم هي تكمن في النفوس؟ أم أن المشكلة تكمن في فهم النصوص وتفسيرها، أم في عودتنا إلى ما ورثناه من تفسيرات للنصوص قدمها الأسلاف والأوائل؟

إن كثير من الإشكاليات والصراعات الطائفية التي تعانيها الأمة اليوم، ناتج عن الإرث الثقافي الذي خلفته النخب الدينية التي تصنع الأفكار والاجتهادات والرؤى، حيث اتسمت هذه الثقافة بطابع التعبئة والتحريض ضد الآخر، وإيغار الصدور بالأحقاد، مما يؤدي إلى زيادة التباعد والفرقة بين الناس، وتقف حجر عثرة أمام أي جهود للتقريب والوحدة، إلا أن هذه الإشكاليات المزمنة والراسخة في الثقافة لن تحل إلا من خلال تحديث الخطاب الديني وتجديده، وهو الأمر الذي يتطلب كما يقول المؤلف تحديث عقليات المنتجين للخطاب الديني. وهذا يقودنا كما يضيف المؤلف للحديث عن أوضاع الحوزات العلمية والجامعات، والمعاهد الشرعية التي تخرج القضاة والدعاة والمبلغين، حيث إن المناهج الدراسية في الحوزات والمعاهد الدينية تحتاج إلى الكثير من التطوير، بحيث تعيد الإسلام إلى أصالته وتتجاوز تراكمات الخلافات والصراعات المذهبية، وتتجاوز عقلية الأسر لآراء السلف والعلماء الماضين، وأيضاً أن يكون في هذه المناهج انفتاح على الفكر البشري، فليس كل ما أنتجه البشر في المجتمعات الأخرى باطل وكفر، وإنما فيه ما هو مفيد وعلينا أن نستفيد منه.

فهل تقر المؤسسة الدينية بوجود نقص في تكوينها وبنيتها، وهل تتقبل هذا الطرح وتتجاوب معه، وما هي ردود فعلها على ما يمكن أن يُوجَّه لها من نقد؟

مجلة الكلمة، العدد 69، خريف 2010م، الصفحات: 163 – 181