لكيلا تخسر المزيد .. بالمهاترات

استعرض الشيخ حسن الصفار تجربة المملكة في التواصل بين النخب الدينية، والثقافية من السنة والشيعة، مشيرًا إلى أنها تجربة ثرية، وإيجابية ومشجعة، وذلك بحضور نخبة من الأكاديميين، والمثقفين في مجلس الشيخ «عبد الله دشتي» في دولة الكويت حسبما ذكرته صحيفة اليوم السعودية الأسبوع الماضي. وسلط "الصفار" الأضواء على تجربة التواصل مع علماء السنة في المملكة، مبيناً أن التواصل والتقارب بين أبناء الأمة على اختلاف مذاهبها يجب أن يكون مبدأ واستراتيجية يعمل من أجلها كل الواعين والمخلصين.

ورغم اختلافي ليس فقط المذهبي مع الشيخ الصفار إلا أن الحق ما قال وأراه صدق فيما ذهب إليه وأنا أتفق معه جملة وتفصيلا خصوصا في رغبته في قبول بعضنا باختلافاتنا فهذا هو المعنى الحقيقي للحضارة الإنسانية والعلاقة بين الناس، حيث قد يختلف الناس ولكن يظل كل فرد وكل فئة تحترم غيرها وتقبله بعلاته ويظل الاختلاف قائما إلا في وحدة الوطن والقضايا الجوهرية للأمة، فهذه خطوط حمراء لا نقبل بها.

كلام كهذا وحديث كالذي نسمعه من الشيخ الصفار يجب الوقوف عنده والإفادة منه. فالسني قد تربى بمبادئه وقيمه ولا يمكن أن يتشيع وكذلك الشيعي له طقوسه وعبادته ومعتقداته التي تشابه وتختلف مع أخيه السني ولا أظنه سيتبع المذهب السني طوعا أو كرها إلا ما شاء الله خصوصا في ظل الحملة الشرسة لتوسيع الفجوة بين المذهبين، الذي سعى إليه الكثيرون من الطرفين السنة والشيعة خلال العقود الماضية. فرغم محاولة الدولة في رأب الصدع إلا أن بعضنا يريد أن يرغم الطرف الآخر على تغيير مذهبه بالقوة وهذا هو السخف بعينه، فالعقيدة صعب تغييرها ولو بالقوة، فما علينا سوى قبول بعضنا باختلافاتنا ولننظر إلى نقاط التلاقي، وما أكثرها ولنغض الطرف عن الاختلافات، وما أقلها! ولا نسمح لأحد من الجانبين أن ينتقص من الآخر سرا كان ذلك أم علانية، ولنطهر منابرنا ووسائل إعلامنا من كل ما يسيء إلى أي طرف، فالدين كله لله والوطن لنا جميعا يحتضننا بسنتنا وشيعتنا.

لقد خسرنا كثيرا من هذا التناحر فأشغلنا أنفسنا بمهاترات وقضايا في زمن لم نعشه، طهر الله منها سيوفنا، أفلا نطهر ألسنتنا، كما بين ذلك الخليفة الورع عمر بن عبد العزيز. علينا أن ننظر إلى التجارب الحضارية العملاقة عن إيماننا وعن شمائلنا، بدأت تنميتها بعدنا بعقود، إلا أنها تعدتنا وتركتنا وراءها نجتر إخفاقاتنا ونتذوق مرارة فشلنا ويذيق بعضنا بأس بعض، فهذا سني، وهذا شيعي، وهذا أصولي، وهذا ليبرالي. لننظر إلى تلك الحضارات التي وقعت على معضلة نهضة الأمم مبكرا فعالجتها قبل أن تبدأ خطط تنميتها، فسدت الثغرات بين فئات المجتمع وبنت الاحترام بين الطوائف والديانات المتباينة والمتناحرة وأخرست كل صوت يقيض للفتنة حتى خمدت في مهدها وألجمت كل من ينادي بالنيل من الآخر. ومن تلك الأمثلة ماليزيا درة الشرق وبريقه وقبلة العالم في الصناعة والسياحة والتجارب الناجحة. انظر إلى تلك العبقرية التي ألفت بين السكان باختلاف أديانهم وعقائدهم وأعراقهم وجنسياتهم، فلا يجرؤ الماليزي أن يعير مواطنه بدينه أو عرقه أو مكان هجرته، بينما بعضنا يصعد منبر الجمعة ويقدح ويشتم فيصعر للحروب ويؤلب للفتن النائمة.

لقد ترك الماليزيون اختلافاتهم جانبا وبنوا وطنهم في عقدين من الزمن وجلبوا العالم إلى حضارتهم حتى لم يجد الماليزي الملاي "أهل البلاد الأصليين" الوقت ليتصيد مثالب الماليزي الهندي أو الصيني لأنه استفاد من هذا التآلف وعلم أن التناحر سيعيده إلى أيام الجاهلية والفقر ويفقده البريق الذي يراه حتى أصبحت بلاده كعبة العالم في التنمية. كما أن المواطن الماليزي الهندي يجد في نفسه غضاضة عندما تذكره بموطنه الأصلي ولا يقبل إلا أن يكون ماليزيا، فقد أسهم في صناعة وتألق ماليزيا الحديثة ولا يربطه بموطنه الأصلي إلا بشرته السمراء ولو استطاع أن يتخلص منها لفعل. هل تتوقع أن يقدم المواطن الماليزي المسلم على تتبع مواطنه البوذي ويتهمه في دينه أو يحتقر طقوسه رغم سذاجتها. يرى الماليزي المسلم مواطنه الماليزي البوذي يسكب اللبن الطازج والحليب العذب على صنم فيغسله ويطهره كل يوم ست مرات فلا يتحرك لأن حرية الدين قد كفلها القانون. كل يمارس دينه بطريقته ويدعو إلى معتقده بكل وسائله إلا أنه لا يتجرأ ويرغم غيره على قبول معتقده. لقد وعت مثل هذه الأمم المتحضرة مخاطر الاختلافات وضرر التناحرات والانتقاص من الغير ولم تسمح لمواطنيها أن يُزجّ بهم في وحل الطائفية المقيتة التي سيخسر منها الجميع فألفت بين مواطنيها رغم تعقيد التركيبة السكانية والثقافية لبعضها.

بينما بعض شعوبنا في الطرف الآخر أشغلت نفسها بالطائفية وأشعلت الاختلافات المذهبية وتركت تنمية بلادها جانبا حتى رأت نفسها في مؤخرة الركب. الاختلاف بين أبناء الوطن الواحد يجعل العقل يبحث ويعمل في الفرضيات فيفترض أن الطائفة الأخرى تخطط له وأن الديانة الفلانية تتصيد عثراته وأن المذهب الفلاني لا هم له إلا تحين الفرصة للانقضاض عليه. لقد خسرنا كثيرا من هذه الاختلافات حتى دخل بيئتنا تيارات وجدت التربة صالحة فاستوطنت بيئتنا واستثمرت تفرقنا. دعونا من المبالغة في تصور خطر الآخر فلا نريد أن نحتضن الاختلافات ونصعر لها فهذا نهج أخرق لا يبني حضارة ولا يؤسس دولة ولا يحمي مجتمعا فننشغل باختلافاتنا وننسى تنمية بلادنا. ولنتصور لو أن كل الشعب أصبحوا سنة أو كل الشعب أصبحوا شيعة هل ستنتهي مشكلاتنا ونوجه طاقتنا إلى تنمية بلادنا وبناء حضارتنا؟ أبدا.. لا أظن ذلك.. فسنسعى نصنع قضية أخرى واختلافا آخر نضعه أمامنا ونبدأ نلوك به الألسنة ونقدح ونهمش ونقسم الناس إلى فئتين متناحرتين وسنقضى حياتنا ونعيش ساعاتنا من اختلاف إلى اختلاف ومن صراع إلى آخر. هذه معضلتنا وتلك هي أزمتنا فإن تغلبنا عليها فقد بدأنا أول الخطوات الحقيقية نحو التنمية الحقيقية.

رابط المقال الأصل: http://www.aleqt.com/2014/03/20/article_834875.html