العبادات والتربية على الأخلاق والنظام

 

﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزادِ التَقوى[سورة البقرة، الآية: 197].

عندما نتأمل فلسفة تشريع الحج، وكذا جميع العبادات الدينية، ونستقرئ الأحكام والآداب المرتبطة بها، نجد أنها تستهدف غرضين أساسين:

الأول: توثيق صلة الإنسان بربه، عبر ذكر الله، وحمده، ودعائه، وتأكيد حالة العبودية والطاعة له تعالى.

الثاني: التربية على التزام القيم والأخلاق، ورعاية النظام في إدارة شؤون الحياة.

فكلّ عبادة من العبادات لها توقيتها ونظامها، فلا تؤدّى حسب المزاج، وفي أي ّوقت، كما أنّ لها أحكامًا تفصيلية دقيقة، تربي الإنسان على الانضباط والتركيز والإتقان.

فعلى سبيل المثال: وقت صلاة الظهر، عند زوال الشمس، فلا يصح أن تؤدى قبل وقتها بدقيقة واحدة، وصلاة الفجر (ركعتان)، فلا يجوز أن يتبرع الإنسان بزيادة ركعاتها، وهكذا بالنسبة للصوم والحج، لكلّ عبادة من العبادات وقت مخصص، يقول الله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وكلّ منسك في الحج له حدود ووقت وعدد، فالطواف معيّن بعدد، وكذا السعي، ورمي الجمار.

هذه الأحكام التفصيلية تربي الإنسان على الانضباط والإتقان، حتى يكون ذلك نهجًا له في إدارة أمور حياته.

كذلك فإنّ العبادات لا تؤدى إلّا بنية وقصد، ليكون الإنسان في جميع شؤونه واعيًا لما يريد الإقدام عليه، وهادفًا فيما يمارس ويتصرف.

من جهة أخرى، فإنّ العبادات التي تؤدى بشكل جماعي مثل صلاة الجماعة أو الحج، فيها أحكام وآداب لأدائها الجماعي.

هناك أحكام تنظم علاقة إمام الجماعة وسائر المأمومين، وكذلك في الحج، حتى تكون العبادات في أجوائها الاجتماعية أنموذجًا للعلاقات بين أفراد المجتمع في سائر مجالات الحياة.

الغفلة عن مقاصد العبادات

لكن كثيرًا من الناس يغفلون عن هذين الغرضين في أدائهم للعبادات الدينية، يؤدي العبادة ويغفل عن غرضها، إما بسبب الجهل، أو لتحول العبادة إلى حالة طقوس روتينية، يؤديها الإنسان فارغة من المضمون، فتفقد روحها، ولا تودي غرضها في حياة الفرد والمجتمع!!

من هنا فإنّ النصوص الدينية تؤكد على غرض العبادة وغايتها، يتحدث القرآن الكريم عن غرض الصلاة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ هذا هدف سامٍ للصلاة، وعلى الإنسان أن يقيس صلاته على أساس تحقيق هذا الهدف.

ويقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فالصوم له غاية وهي التقوى، لا بُدّ من السعي لتحصيلها من خلال هذه العبادة، وعن (الهدي) في الحج يقول الله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ، ويقول تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، فالمفروض أن تؤدى مناسك الحج في أجواء قيمية أخلاقية، تحفها الآداب، واحترام حقوق الآخرين، ومراعاة أحكام الله، فهي من أهداف هذه العبادة، حتى يتربى الحاج على الالتزام بهذه القيم والأخلاق، أما إذا أدى عبادته دون أن يهتم بغرضها، تكون فاقدة للروح، ورد عن النبي أنه قال: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بهَا مِنَ الله إِلَّا بُعْدًا»[1] .

وفِي حديث آخر عنه : «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلَاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلَاةِ تَنْهَاهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»[2] .

وعن الإمام الصادق : «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ قُبِلَتْ صَلاتُهُ أَمْ لَم تُقْبَلْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ مَنَعَتْهُ صَلاتُهُ عِنَ الفَحشاءِ وَالمُنْكَرِ، فَبِقَدَرِ ما مَنَعَتْهُ قُبِلَتْ»[3] .

وعنه : «لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ وَلَا بِصِيَامِهِمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَتّى لَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ، وَلكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ»[4] .

البعض يحمل همّ أداء العبادة، وكأنها ثقل يريد التخلص منها، بأيّ طريقة كانت، دون أن يلتزم بالضوابط ومراعاة القيم والأخلاق، وهذا خطأ كبير ينشأ عن الجهل أو الغفلة.

أداء الحج والتزام القوانين

فريضة عظيمة فرضها الله على كلّ إنسان مرة واحدة في عمره مع شرط الاستطاعة ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.

الاستطاعة الشاملة تعني توفر الوقت والصحة والمال والطريق الآمن، وأن يرجع إلى كفاية، فإن كان الحج يؤدي به إلى الحاجة بعد رجوعه لم يجب عليه.

فإذا ذهب الإنسان للحج بتكلف وهو غير مستطيع، كأن يكون عليه دين، أو يرجع إلى دون الكفاية، فحجه هذا لا يسقط عنه الواجب الشرعي، حيث لا ينبغي أن يؤدى الحج كيفما اتفق، بل لا بُدّ أن يكون في إطار القيم والنُّظُم والضوابط.

ومن المسائل التي ينبغي التنبيه إليها لأداء الحج في هذا الزمن، مراعاة الأنظمة والقوانين التي وضعتها الحكومات لمواطنيها.

إنّ عدد المسلمين الآن (مليار وستّ مئة مليون نسمة) وإذا فتح المجال أمامهم للحج، فسيأتي منهم عشرات الملايين، والأماكن المقدسة في وضعها الحالي لا يمكنها أن تستوعب عشرات الملايين، طاقتها الاستيعابية محدودة، لذلك اتفقت الدول الإسلامية على نسبة معينة لكلّ دولة، والراغبون في أداء الحج أكثر، فقد اتفق وزراء خارجية الدول الإسلامية، على كيفية تحديد نِسَبِ الحجاج كلّ عام، في مؤتمرهم السابع عشر في عمَّان بالمملكة الأردنية الهاشمية، من 3 - 7 شعبان 1408هـ الموافق 21 - 25 آذار/ مارس 1988م، قرار رقم 21/17 - س، بأن تكون نسبة حجاج كلّ دولة، هي حاصل قسمة عدد سكان الدولة على عدد المسلمين في العالم[5] ، وحتى لمواطني المملكة والمقيمين فيها هناك نظام لا يسمح لهم بتكرار الحج إلّا بعد مرور خمس سنوات على تاريخ أداء الحج[6] .

فالدول تضع قوانين لتنظيم حج مواطنيها، فكلّ من يرغب في الحج يسجل اسمه في قائمة الراغبين، وينتظر دوره، وفي بعض البلدان يستمر الانتظار سنوات عديدة، قد تصل إلى عشر سنوات.

هذه الضوابط والقوانين تجب مراعاتها، فإذا وجب الحج على المسلم، والقانون لا يسمح له في هذا العام، لأنه لم يأتِ دوره، هنا يسقط الوجوب عنه هذا العام، فكيف إذا كان الحج مستحبًّا؟!

البعض يحاول بمختلف الطرق أن يذهب إلى الحج، مع أنّ القانون لا يسمح بذلك!!

والقانون وضع رعاية لمصلحة الحجيج، فلو فسح المجال دون تحديد، وزاد العدد فوق الطاقة الاستيعابية، فلن يكون ذلك في مصلحة انتظام أمور الحج.

وإذا كان الحج الواجب يسقط عن المكلف إذا لم ينطبق عليه القانون، فمن باب أولى أن يتجنب الإنسان مخالفة القانون للحج المستحب، وذلك لعدة أمور:

أولًا: مزاحمة من يأتون للحج الواجب.

ثانيًا: مخالفة النظام والقانون.

ثالثًا: التعرض للإهانة والمشقة.

وقد أكد المرجع السيد السيستاني ـ حفظه الله ـ في مناسك الحج على لزوم مراعاة القوانين التي توضع للحجاج في كلّ الدول، ومن جملتها في داخل المملكة حيث لا يجوز مخالفة هذه القوانين.

وفي الإجابة عن سؤال: حول التحايل على مؤسسة الحج بأن يدّعي كذبًا أو تورية توفر بعض الشروط التي تسمح لمن تتوفر فيه بأداء الحج استثناء عن الضوابط العامة؟

أجاب: إذا كانت المؤسسة المعنية تطبق العدالة في إيفاد الحجاج لم يجز التخلف عن قوانينها بما ذكر أو نحوه[7] .

البعض قد يعرض نفسه للإذلال والإهانة أو المضايقة، بأن يوقف ويحتجز، أو يعاد فورًا من حيث جاء لأنه ليس لديه تصريح للحج، والشرع لا يريد من المسلم أن يودي العبادة بهذه الطريقة المذلة!!

وحسب الإحصائيات الصادرة هذا العام ألقي القبض على2760 ناقلًا مخالفاً لحجاجٍ غير نظاميين، وبلغ إجمالي المركبات التي تمت إعادتها من منافذ العاصمة المقدسة 157.335مركبة[8] .

مراعاة الأخلاق

العبادات ينبغي أن تربي الإنسان على الأخلاق، ومراعاة حقوق الآخرين ومشاعرهم، وفي الحج حيث يزدحم الحجيج في أداء المناسك، يغفل البعض هذا الجانب، ويبرز عضلاته في الطواف والسعي ورمي الجمار، ويؤدي أعماله بشدة وقوة، دون مراعاة لمن حوله!!

هؤلاء مسلمون، وفيهم نساء وضعفاء، وكبار سنّ، لكن البعض من أجل أن ينهي أعماله بسرعة، أو يكون أقرب إلى الكعبة يؤذي من حوله بشدته وعنفه!!

ونرى المشاهد نفسها عند أضرحة الأئمة !!

وهذا ينطبق أيضًا على صلاة الجماعة، والتجمع في الحسينيات والمواكب، حيث ينبغي مراعاة الأنظمة والأعراف، وعدم مضايقة جيران المسجد أو الحسينية، أو إيقاف السيارات بصورة غير مناسبة.

بعض المساجد تزعج الجيران بمكبرات الصوت، وهذا لا يجوز شرعًا، ويستثنى من ذلك الأذان فقط، باعتباره إعلانًا للصلاة، أما أداء الصلاة، وإلقاء الخطب، والدعاء والبرامج الأخرى فلا يجوز استخدام مكبرات الصوت بحيث تزعج الجيران.

ورغم أنّ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أصدرت عدة تعليمات إلى مسؤولي المساجد، باقتصار استخدام مكبرات الصوت الخارجية على الأذان فقط، إلّا أنّ إدارات معظم المساجد لا تلتزم بهذه التعليمات!!

لماذا نخلق عند الناس نفورًا من الصلاة ومن برامج المسجد؟!!

بعض من يسكنون بجوار المساجد أو الحسينيات يتمنون أن يبيعوا بيوتهم بسبب الإزعاج الذي يحدث لهم!!

هذا تشويه للدين، لا ينبغي ممارسة العبادة بهذا الأسلوب.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا الوعي والبصيرة في الدين وأن يوفّقنا للالتزام بمكارم الأخلاق.

* خطبة الجمعة بتاريخ 6 ذو حجة 1439هـ الموافق 18 أغسطس 2018م.
[1]  السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالماثور، ج6، ص465.
[2]  ابن كثير: تفسير ابن كثير، ج6، ص254.
[3]  الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، ج8، ص29، ذيل الآية: 45 من سورة العنكبوت.
[4]  الكليني: الكافي، ج2، ص104، ح2.
[5]  مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد 98، بحث بعنوان: حكم تحديد أعداد الحجاج والمدة الزمنية بين حجة وأخرى.
[6]  جريدة الجزيرة، 20 شوال 1421هـ.
[7]  السيد السيستاني: مناسك الحجّ وملحقاتها، ص15.
[8]  يشار إلى أنّ أمير مكة المكرمة أعلن عن إحصائيات يوم الثامن من ذي الحجة كشفت عن ضبط 160 حملة حج وهمية، والقبض على (545.907) مخالفين لأنظمة الحج والعمرة، وإعادة (231.911) مركبة مخالفة. جريدة عكاظ الاثنين 9 ذو الحجة 1439هـ - 20 أغسطس 2018م https://www.okaz.com.sa/article/1665332