التقريب بين المذاهب الإسلامية يتحقق بتخفيف حدة الصراع المذهبي ومعالجة المسألة من الناحية النفسية

 

في وقت تشتد فيه حاجة الأمة للنقد الذاتي والمراجعة الداخلية، على مستوى الأفكار وصيغة العلاقات السائدة بين قوى الأمة وشرائحها، جاء انعقاد مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية في البحرين، بتاريخ 23 ـ 25/7/1424هـ. 20 ـ 22/9/2003م، كأحد مؤشرات الاستجابة لهذه الحاجة الملحة. ذلك ان الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة ليست ناتجة كلها عن الضغوط الخارجية، بل إنها محصلة ونتيجة طبيعية للحالة الذاتية، فلا بد من تغيير ذاتي داخلي، يمهد الطريق لتطوير واقع الأمة، لتأخذ مكانة لائقة على المستوى العالمي. كما أكد القرآن الكريم: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

فإذا كانت الأمة لا يحترم بعضها بعضا فكيف تتوقع الاحترام من المجتمع الدولي؟ واذا كانت حقوق الأفراد والفئات غير مصونة على المستوى الداخلي، فكيف نأمل احترام حقوق الأمة على الصعيد العالمي؟ واذا عجزت الأمة عن ادارة الحوار بين شرائحها واتجاهاتها المتنوعة، فهل يرجى لها النجاح في ادارة الحوار مع الحضارات والأمم الأخرى؟

هذه التساؤلات وأمثالها، تجعل التحديات الداخلية هي الأولى والأجدر بالاهتمام، من قبل قادة الأمة، وذوي الرأي فيها.

والتقريب بين المذاهب الاسلامية، قضية ترتبط بالحوار، وإدارة العلاقات الداخلية، فتعدد المذاهب واقع قائم في حياة المسلمين، له جذوره التاريخية العريقة، التي تمتد الى القرن الأول من تاريخ الاسلام، وكل مذهب له اتباعه الذين يشكلون جزءاً من وجود الأمة، على الصعيد السياسي والاجتماعي، وعدم وجود صيغة سليمة للعلاقات بين اتباع هذه المذاهب، تقوم على الاحترام المتبادل، والتعاون في المصالح المشتركة، والحوار في قضايا الخلاف، يعني خللا اساسيا في الفكر ونظام الاجتماع، يعوق وحدة الأمة، ويسلب أمنها، ويمنع تقدمها.

لذلك بادر بعض المصلحين من علماء الأمة، قبل أكثر من نصف قرن، للدعوة الى معالجة هذا المشكل، وتأسست دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، وانضم إليها عدد من العلماء والمفكرين والمصلحين من مختلف المذاهب.

لكن العامل السياسي تدخل لعرقلة هذه الحركة الرائدة، فتضاءل نشاطها وتوقف، بينما فُسح المجال لاتجاهات تعصبية متشددة، لتلوث اجواء الأمة بالغلو والتطرف، ولتمعن التجزئة والتمزيق في الجسد الاسلامي الجريح.

ولم تقتصر هذه الاتجاهات على اذكاء الخلاف والنزاع بين المذاهب القائمة، بل توغلت أكثر حتى داخل محيطها المذهبي، لتكفر وتحارب كل من يخالفها في رأي أو موقف، وأصبح الحكم بكفر الأمة كلها، والمجتمع كله أمرا متداولاً في هذه الأوساط، فهناك جماعات تعرف بجماعة التكفير والهجرة.

وقد نشرت وسائل الاعلام اخيراً تصريحات نسبتها للشيخ بن داود الخملي المغربي، اذا صح صدورها، هي نموذج لهذا المنحى الخطير. حيث قال خلال محكمته في هيئة محكمة الاستئناف في الدار البيضاء بالمغرب: انه يعتقد أن المجتمع المغربي كافر، وان افراد هذا المجتمع لا يستطيعون التحول من الكفر الى الاسلام، بسبب ما ترسب فيه من كفر. وانه لا يصلي في المساجد التي يعتبرها (مساجد ضرار)، ولا يصلي الجمعة لأنها في نظره تقام في بلد كافر، ولا يأكل من اللحوم التي تباع في الأسواق لأنه يعتبرها من ذبائح الكفار، وأنه عندما توفيت والدته قام بدفنها في بيته باعتبار عدم جواز دفن المسلمين في مقابر الكفار!!

* البحرين والمبادرة الطيبة

* في السنوات الأخيرة عادت الحياة من جديد الى مسألة التقريب بين المذاهب الاسلامية، وضمن هذا السياق جاءت مبادرة مملكة البحرين، حيث تجاوبت مع اقتراح من مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية، ودعت الى مؤتمر يجدد طرح موضوع التقريب، ويعالج أبعاده وقضاياه، وحضر المؤتمر نخبة واعية من العلماء والمفكرين، من مختلف الأقطار والمذاهب الاسلامية السبعة: المذاهب الأربعة لأهل السنة، ومذهب الشيعة الإمامية، والمذهب الزيدي، والمذهب الأباضي.

واستمر المؤتمر ثلاثة أيام، قدمت خلالها مجموعة من البحوث القيمة، والمداخلات المفيدة، وتمت لقاءات جانبية كثيرة، وبين الشخصيات المشاركة، للتعارف وتبادل الرأي، وارساء أسس التواصل والتعاون. كما استقبل ملك البحرين ورئيس وزرائها الوفود المشاركة، ليؤكدا دعمهما لأهداف المؤتمر وتوجهاته، وقامت وسائل الاعلام لمملكة البحرين بتغطية نشاطات المؤتمر، وبث كامل جلساته عبر التلفاز.

ويمكن رصد مجموعة من المؤشرات الايجابية في المؤتمر لصالح حركة التقريب ووحدة الأمة الاسلامية:

أولاً: انه أول مؤتمر يعقد في منطقة الخليج والجزيرة العربية، لمعالجة قضية العلاقة بين المذاهب، وهذه المنطقة احوج من غيرها لمثل هذا الطرح، حيث يتنوع انتماء مواطنيها لجميع المذاهب الاسلامية، من سنة وشيعة واباضية، ولا تكاد تجد مثل هذا التنوع في اغلب المناطق الاسلامية.

من ناحية أخرى فإن حالة الجفاء والتشنج المذهبي، في هذه المنطقة، تعتبر الأعلى والأشد، وقد يرى الكثيرون أن المنطقة هي التي صدرت حالات الخصام المذهبي الى سائر الآفاق والبقاع. فانعقاد المؤتمر في المنطقة الخليجية، وبهذا الزخم الشعبي والرسمي، يعزز التطلع والأمل بامكانية تجاوز الأمة لهذه الاشكالية المزمنة.

ثانياً: كان الاتجاه السلفي من أكثر المتحفظين تجاه دعوة التقريب بين المذاهب، وكان ينظر الى هذه الدعوة نظرة ريب وشك، وصدرت بعض الكتابات التي تعبر عن هذا الموقف، وترى أن السبيل الوحيد لحل المشكلة المذهبية، هو تنازل الآخرين عن أفكارهم وآرائهم، وعودتهم الى منهج أهل السنة والجماعة، وتحديدا اتباع المنهج السفلي.

وهو بالطبع شرط تعجيزي غير قابل للتحقق، ولا يرضى به الآخرون، الذين يعتقدون صوابية وأحقية منهجهم، كما يعتقد السلفيون ذلك في أنفسهم.

لكن المشاركة الطيبة لمجموعة من الشخصيات المنتمية للاتجاه السلفي، في مؤتمر البحرين للتقريب بين المذاهب، بالحضور الواضح، وتقديم البحوث، والقاء المداخلات، وعقد اللقاءات مع مشاركين من مختلف المذاهب، يعتبر مؤشراً مهما، لصالح حركة التقريب وتوحيد صفوف الأمة.

انه ليس منطقياً أن يُطلب من أحد من السنة أو الشيعة او الاباضية التخلي عن قناعة دينية يؤمن بها، كشرط مسبق للحوار والتعاون، بل المطلوب وجود اطار يرتكز على المشتركات وموارد الاتفاق، ويبقى الحوار والبحث العلمي، هما سبيل تغيير القناعات والآراء، أو تشذيبها وتطويرها، لدى مختلف الأطراف.

ثالثاً: جاءت مشاركة علماء وشخصيات من العراق من الشيعة والسنة في المؤتمر، لتؤكد ارادة الشعب العراقي في الوحدة وتفويت الفرصة على الاعداء والمغرضين، الذين يريدون اشغال الشعب العراقي عن استعادة حريته واستقلاله، وبناء مستقبله الديمقراطي، بالفتن الداخلية من طائفية وغيرها.

كما ان حضور علماء فضلاء من الحوزة العلمية في النجف الاشرف، يعني بداية استعادة هذه الحوزة العريقة، لدورها في الساحة الاسلامية العالمية، بعد سنوات طويلة من الغياب القسري.

رابعاً: تميز المؤتمر بمشاركة شخصيات نسائية، من الرائدات في العمل الاسلامي والاجتماعي، حيث قدمن بحوثاً طيبة، وشاركن في الجلسات والقاء المداخلات، مما يعزز دور المرأة المسلمة، ويؤكد مشاركتها في خدمة قضايا الأمة، ويكسر حواجز التحفظ المبالغ فيه تجاه حضور المرأة ومشاركتها، الى حد بدا فيه وكأن العمل الاسلامي والمؤسسة الدينية ذكورية، لا مجال فيها لدور نسائي متقدم.

مع أن تاريخ الرسالات الإلهية يسجل حضور المرأة كعنصر أساس في حركة الدعوة، ففي ما يقص القرآن الكريم من سيرة نبي الله موسى (عليه السلام)، نجد دوراً بارزاً، لشخصيات نسائية، في صناعة الاحداث وادارتها، كأم موسى واخته وزوجته بنت شعيب، وشخصية زوجة فرعون.

كما تتجلى شخصية السيدة العذراء مريم بنت عمران، التي ينسب اليها نبي الله عيسى (عليه السلام).

أما تاريخ الدعوة الاسلامية، فللمرأة فيه دور السبق والعطاء، والمشاركة الحاسمة في كثير من المواقف، بدءاً من شخصية السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وابنتها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، الى سائر أمهات المؤمنين والصحابيات الجليلات، اللاتي شاركن في الحروب، بمباشرة القتال في بعض المعارك، والعمل خلف الجبهة في اكثر الغزوات، كما شاركن في حفظ المعارف الإسلامية ونشرها.

* عوائق الوحدة والتقريب

* رغم أن دواعي الوحدة، وتصحيح العلاقات الداخلية بين المذاهب، قد فرضت نفسها على ساحة الأمة، في عصر التحديات الكبرى، ورغم تهاوي مبررات النزاع والخلاف المذهبي، في زمن حوار الحضارات، وتحالف التكتلات العالمية، إلا أن بعض العوائق لا تزال قائمة على الأرض، تعرقل مسيرة الوحدة والتقريب، وتمنع ترجمتها من لغة الشعار والخطاب، الى منطق الفعل والواقع، وتحول دون خروجها من قاعات المؤتمرات واللقاءات، الى شارع الجمهور والحياة الاجتماعية.

ومن أبرز هذه العوائق ما يلي:

1 ـ رفض بعض الفئات الاسلامية قبول التعددية في الرأي، واصرارها على محاكمة الرأي الآخر، وفق مسلماتها وعلى ضوء مرجعياتها، مبررة ذلك بأن الخلاف في القضايا العقدية غير مقبول، وهو يعني التفرق المذموم في الدين، واذا كان لا بد من قبول الخلاف، فهو في دائرة المسائل الفقهية، حيث لا مانع من تعدد المذاهب الفقهية. لكن هذا التبرير ليس صحيحا ولا منطقياً، فالاختلاف العقدي المرفوض هو ما يكون في أصول العقيدة، بأن ينكر أحد وجود الله تعالى ووحدانيته، أو نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأنبياء السابقين، أو الإيمان بالبعث يوم القيامة، أو يرفض مرجعية القرآن والسنة.. إن من ينكر شيئاً من هذه الأصول يخرج عن دائرة الاسلام، وبالتالي فالاختلاف فيها غير مقبول.

أما التفاصيل والجزئيات العقدية، فباب الاجتهاد فيها مفتوح، والاختلاف حولها قديم، وكما يصح الاختلاف في المسائل الفقهية، يصح في هذه المسائل الجزئية العقدية، فإذا كان هناك نص نقلي حول شيء منها، فإن من الوارد النقاش في مدى ثبوت صحته سنداً، ثم حول دلالته وما يفهم منه.

وللشيخ ابن تيمية كلام واضح حول وقوع الاجتهاد في القضايا العلمية العقدية ومعذورية المخطئ فيها. جاء في المجلد العشرين من مجموع فتاواه ما يلي:

والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخيرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح اسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد ان الله لا يُرى، لقوله: (لا تدركه الأبصار)، ولقوله: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب)، كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يدلان بطريق العموم.

وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله: (وجوه يومئذ ناضرة! الى ربها ناظرة) بأنها تنتظر ثواب ربها، كم نقل عن مجاهد وأبي صالح.

أو من اعتقد ان الميت لا يعذب ببكاء الحي، لاعتقاده أن قوله: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) يدل على ذلك، وان ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف. أو اعتقد ان الميت لا يسمع خطاب الحي، لاعتقاده أن قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) يدل على ذلك.

أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح، لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل.

أو اعتقد أن علياً أفضل الصحابة، لاعتقاده صحة حديث الطير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ائتني بأحب الخلق إليك، يأكل معي من هذا الطائر». أو اعتقد ان من جس للعدو وعلمهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق.

أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق، كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة وقال: إنك منافق! تجادل عن المنافقين.

إن انعقاد مؤتمر التقريب بين المذاهب، يجدد روح العزم والتصميم على تجاوز هذه الاشكالات التاريخية المزمنة، ويبعث آمال المصلحين والغيورين على مصلحة الإسلام والأمة، ويذكر ابناء المجتمع الاسلامي بمسؤولياتهم الخطيرة في الظروف الراهنة.

الجمعـة 13 شعبـان 1424 هـ 10 اكتوبر 2003 العدد 9082