تجريم الإساءة للآخرين

 

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[1] .

جاء الدين لينمّي في نفس الإنسان توجهات الخير والصلاح، ويكبح نزعات الشّر والسّوء، فيكون الإنسان مصدر خير وإحسان لمن حوله، ولا يصدر منه ما يسيء لأحد أو يؤذيه.

ولا يصل الإنسان إلى هذا المستوى، إلّا إذا زكّى نفسه، وكان متحكمًا في انفعالاته، قادرًا على ضبط سلوكه وتصرفاته.

إنّ أرضية الإساءة والإيذاء للآخرين تتمثّل في العقد والأمراض النفسية، كالحسد والحقد وسوء الظنّ والكبر.

كلّما عششت هذه العقد في نفس الإنسان دفعته لإيذاء الآخرين، والتلذّذ بالإساءة للغير، وقد يتعوّد الإنسان على هذا السّلوك، فيصبح ملازمًا له، ويخلق لنفسه التبريرات للاستمرار عليه.

إنّ بعض الناس قد يصبح محترفًا لإيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وقد يتلذّذ بذلك، ويطلقون في علم النفس على هذه الحالة مصطلح السّادية، ويعرفونها بأنّها: الميل للحصول على اللذة والمتعة عن طريق تعذيب الآخر، والتلذّذ بعذابه، ومنها السّادية اللفظية، حيث يكون فيها السّادي كثير الشتم والقذف والسّب واللعن.

كان الحطيئة معروفًا بالهجاء، حتى إنّه هجى أمّه وأباه، فلم يفلت أحدٌ من شرّ لِسانهِ وقسْوَتِهِ.

وذات يوم نزل ليأتي بشيء من الماء لنفسه، فرأى صورته على صفحة ماء البئر، فاستقبح هيئته، فقال:

أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إلّا تَكَلُّمًا    بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهُ؟

أَرَى لِيَ وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ     فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ

تبرير السّلوك العدائي

وقد يبرّر الإنسان لنفسه هذا السّلوك العدائي تجاه الآخرين، بأنّهم يختلفون معه في الدين أو المذهب أو الرأي، وقد يعتنق ثقافة منسوبة للدين، وفكرًا خطأ يشرّع الإساءة للمخالفين، لكنّ صريح النصوص والتعاليم الدينية ترفض ذلك.

إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[2] .

فالدين يشرّع القتال ضدّ من يبدؤون العدوان والقتال، أما المسالمون وإن لم يكونوا مسلمين، فإنّ الله ينهى عن الاعتداء عليهم بأيِّ شكلٍ من أشكال العدوان؛ لأنّ الله لا يحبّ المعتدين.

ويقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[3] .

وهذه الآية الكريمة صريحة في التشجيع على التعامل الإنساني الأخلاقي مع غير المسلمين، الذين لم يمارسوا عدوانًا على المسلمين، وإنّ البرّ إليهم والتعامل معهم يحبّه الله تعالى، ويحبّ المتصفين به.

ويقول تعالى عن اليهود العنصريين: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[4] .

إنّ الله تعالى ينكر على اليهود عنصريتهم التي يدّعون بموجبها أنّ الله تعالى لا يؤاخذهم على الإساءة للآخرين (الْأُمِّيِّينَ)، ويصف هذه المقولة العنصرية بأنّها كذب على الله، يدركه من له أدنى علم واطّلاع بالرسالة الإلهية.

ويقول تعالى: ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ[5] .

وتحذّر هذه الآية الكريمة المسلمين من أن يكون شنآن الآخرين وعداوتهم سببًا لممارسة الجور والظلم ضدهم، فالتزام العدل والإنصاف حتى مع المبغض والعدو هو ما يحقّق التقوى في سلوك الإنسان المؤمن.

ورد عن رسول الله : «مَنْ آذى ذِمِّيّاً فَأَنَا خَصْمَهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمُهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[6] .

تُرى، هل هناك تحذير من الإساءة للمخالف الديني أصرح من هذا التحذير؟ إنه يكون خصمًا لمن يعتدي على المخالف المسالم.

ويردّ الله تعالى ادّعاءات نسبة العدوان على الآخرين إلى الدين بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[7] .

فلا يصح تبرير أيّ تجاوز بنسبته إلى الدين؛ لأنّ الله تعالى لا يمكن أن يقبل بأيّ فحش وتجاوز على الآخرين غير المعتدي.

إنّ الدين يجرّم الإساءة للبعيدين كما يجرّمها للقريبين، إلّا على من اعتدى، كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[8] .

فالاستثناء الذي يجوز فيه إيذاء الآخرين وإن كان من المؤمنين حينما يكون قد اكتسب عدوانًا يبرّر عقوبته.

إنّ مفردة (أذى) ترد في القرآن الكريم والحديث بمعنى الإضرار بالآخرين، والاعتداء على حقوقهم المادية والمعنوية.

خلفيات وآثار الإساءة للآخرين

إنّ الإساءة للآخرين تكشف عن خلل في نفس الإنسان، وازدواجية في شخصيته، فهو لا يرضى بالإساءة إليه وأن يؤذيه أحد، فكيف يمارس تجاه الآخرين ما لا يرضى به لنفسه؟

روي عن الإمام علي : «وَلَا تَظْلِمْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تُظْلَمَ»[9] .

إنّ وجود ممارسات الإيذاء تضعف تماسك المجتمع، وتسبب النزاعات والخلافات فيه، والدين يريد للمجتمع الإيماني أن يكون متلاحمًا متماسكًا. لذا يشدّد على حرمة الإيذاء وتجريم الإساءة بين أفراد المجتمع ومكوناته.

ورد عنه : «اَلْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ اَلْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ»[10] .

إنّ التعاليم الدينية تحرّم كافة أشكال الإيذاء والإساءة للآخرين.

الكلمة المؤذية

جاء عن رسول الله : «مَنْ آذَى مُؤْمِناً وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَكْتُوباً بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ»[11] .

وعنه : «يَا عَلِيُّ، مَنْ خَافَ اَلنَّاسُ لِسَانَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ اَلنَّارِ»[12] .

وقِيلَ لِرَسُولِ اَللَّهِ : إِنَّ فُلاَنَةَ تَصُومُ اَلنَّهَارَ وَتَقُومُ اَللَّيْلَ وَهِيَ سَيِّئَةُ اَلْخُلُقِ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، فَقَالَ : «لاَ خَيْرَ فِيهَا هِيَ مِنْ أَهْلِ اَلنَّارِ»[13] .

وورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَهَدْمَ مُرُوءَتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ اَلنَّاسِ أَخْرَجَهُ اَللَّهُ مِنْ وَلاَيَتِهِ إِلَى وَلاَيَةِ اَلشَّيْطَانِ فَلاَ يَقْبَلُهُ اَلشَّيْطَانُ»[14] .

الاستثمار الإيجابي لفرص النشر

إننا نعيش في عصر توفرت فيه فرص التعبير عن الرأي وانتشار الكلمة عبر الوسائل الإعلامية المعلوماتية المتطورة، فيجب أن نستفيد من هذه الفرص وخاصة في الوسط الديني لنشر ثقافة التآلف واحترام بعضنا بعضاً، ولا يصح أبدًا أن نسمح بتحويل أجوائنا الدينية إلى ساحة احتراب وتعبئة وتسقيط لرموزنا الدينية والاجتماعية.

إنّ الاختلاف في الآراء والأفكار أمر مشروع ومقبول، لكنّ الإساءة والإيذاء لبعضنا بعضاً غير مقبول.

إنّ ذلك يمزّق مجتمعاتنا الإيمانية، ويكرّس نهج الإساءة فلا يسلم منه أحد، وقد رأينا كيف تجرّأ البعض على كبار الفقهاء والمراجع، وأبرز العلماء والخطباء، وسيكون الحبل على الجرار إن لم نضع حدًّا لهذه الأساليب.

وعلى كلّ واعٍ أن يتحمّل مسؤوليته في مواجهة هذه الأساليب البغيضة والتحذير من خطورتها ضدّ أيّ أحدٍ استخدمت، وليس فقط حينما تكون ضدّ شخصيته أو جهته.

في الكافي: عَنِ اِبْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِاَللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَذَفَ رَجُلٌ مَجُوسِيًّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِاَللَّهِ (الإمام جعفر الصادق) ، فَقَالَ : «مَهْ»، فَقَالَ اَلرَّجُلُ: إِنَّهُ يَنْكِحُ أُمَّهُ وَأُخْتَهُ، فَقَالَ : «ذَلكَ عِنْدَهُمْ نِكَاحٌ فِي دِينِهِمْ»[15] .

وعَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلْحَذَّاءِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِاَللَّهِ فَسَأَلَنِي رَجُلٌ: مَا فَعَلَ غَرِيمُكَ؟ قُلْتُ: ذَاكَ اِبْنُ اَلْفَاعِلَةِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِاَللَّهِ نَظَرًا شَدِيدًا، قَالَ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُ مَجُوسِيٌّ... أُمُّهُ أُخْتُهُ، فَقَالَ: «أَوَ لَيْسَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ نِكَاحاً؟»[16] .

ومن كلام للإمام علي وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين: «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي اَلْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي اَلْعُذْرِ»[17] .

وورد عن رسول الله : «إِنَّ اَللَّهَ حَرَّمَ اَلْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِيءٍ قَلِيلِ اَلْحَيَاءِ لاَ يُبَالِي مَا قَالَ وَلاَ مَا قِيلَ لَهُ»[18] .

وعنه : «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَبْعَدِكُمْ مِنِّي شَبَهاً قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ اَلْفَاحِشُ اَلْمُتَفَحِّشُ اَلْبَذِيءُ»[19] .

وجاء عن الإمام محمد الباقر : «سِلاَحُ اَللِّئَامِ قَبِيحُ اَلْكَلاَمِ»[20] .

 

خطبة الجمعة 23 ربيع الأول 1443هـ الموافق 29 أكتوبر 2021م.

[1]  سورة الأحزاب، الآية: 58.
[2]  سورة البقرة، الآية: 190.
[3]  سورة الممتحنة، الآية: 8.
[4]  سورة آل عمران، الآية: 75.
[5]  سورة المائدة، الآية: 8.
[6]  كنز العمّال، ج4، ص362، ح10913.
[7]  سورة الأعراف، الآية: 28.
[8]  سورة الأحزاب، الآية: 58.
[9]  عيون الحكم والمواعظ، ص77.
[10]  من لا يحضره الفقيه، ج4، ص352.
[11]  إرشاد القلوب، ص76.
[12]  بحار الأنوار، ج68، ص286.
[13]  نفسه، ج68، ص394.
[14]  الكافي، ج2، ص358.
[15]  نفسه، ج5، ص574.
[16]  نفسه، ج7، ص240.
[17]  نهج البلاغة، خطبة: 206.
[18]  الكافي، ج2، ص323.
[19]  نفسه، ج2، ص291.
[20]  بحار الأنوار، ج75، ص185.