الاستعداد لكِبَرِ السّن

 

جاء في الكافي بسند صحيح عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ إِجْلَالَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ»[1] .

يصادف يوم الحادي من شهر أكتوبر اليوم العالمي للمسنّين الذي أعلنته الأمم المتحدة قبل ثلاثة عقود سنة 1990م.

وكان كبير السنّ يحظى بالرعاية والاحترام في المجتمعات الإنسانية التقليدية، خاصة ذات التوجه الديني. لكنّ المجتمعات الحديثة التي سادت فيها النزعة المادية الأنانية، يعاني فيها كثير من كبار السنّ ضعف الرعاية والتقدير، حتى من قبل أبنائهم وأسرهم؛ لانشغال الأفراد بذواتهم ومصالحهم ورغباتهم، وضعف التوجهات الإنسانية القيمية في نفوسهم وسلوكهم.

فأصبح كبار السنّ يعانون من الإهمال ويلجؤون إلى دور رعاية المسنين، وقد لا يحظون بزيارة أقاربهم.

والأسوأ من ذلك ما تشير إليه الإحصائيات العالمية من ارتفاع نسبة الإساءة للمسنين في بعض المجتمعات.

"إنّ إساءة معاملة كبار السنّ تُعدّ إحدى المشكلات العالمية الموجودة بالبلدان النامية والمتقدّمة على حدٍّ سواء، حيث إنه خلال عام 2017م، تعرّض 15.7% من كبار السنّ في العالم لأحد أشكال سوء المعاملة، حسبما تشير دراسة شملت 28 دولة من مناطق مختلفة بالعالم"[2] .

من هنا جاءت أهمية اليوم العالمي للمسنين، للتذكير بحقوقهم الإنسانية، والتأكيد على رعايتهم والاهتمام بهم من قبل المؤسسات الرسمية، والمنظمات الأهلية، والمبادرات الأسرية والفردية.

خاصة مع اتساع شريحة المسنين بسبب ارتفاع متوسط العمر لإنسان هذا العصر، لتقدّم برامج الطب والرعاية الصحية، وما يتوقع من تقدّم على هذا الصعيد.

فقد تغيّرت تركيبة سكان العالم بشكل كبير في العقود الأخيرة. فبين عامي 1950 و2010م، ارتفع متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء العالم من 46 إلى 68 عامًا. وعلى الصّعيد العالمي كان هناك 703 ملايين شخص تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر في 2019م[3] .

وبحسب وزارة الصحة فقد شهد المملكة زيادة في حجم فئة المسنين شكّلت 4.8% من مجموع سكانه سنة 2000م، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 10% في 2025م، وإلى 12.9% عام 2050م[4] .

وبهذه المناسبة نودّ التأكيد على النقاط التالية:

النّمط الصحي للحياة

أولًا: الاستعداد لهذه المرحلة من العمر. يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً[5] .

إنّ وضع الإنسان الصحي والنفسي عند تقدّم سنّه، يتأثر بسلوكه في مرحلة شبابه، فاهتمامه بصحته عبر برامج التغذية السليمة، والحركة الرياضية، وعلاقته الجيّدة مع أسرته ومحيطه الاجتماعي، كلّ ذلك يشكل رصيدًا ينفعه في مرحلة كبره.

وحينما تتحدّث التقارير عن معاناة نحو 25.5% من المسنين في المملكة من داء السّكري أو ارتفاع ضغط الدم، فذلك من آثار نمط الحياة غير الصحيحة السائدة في المجتمع، لأنّ الصحة في الكبر هي نتيجة اتباع نظام صحي منذ الصّغر.

الحيوية والنشاط

ثانيًا: على الإنسان أن يحافظ على حيويته ونشاطه مهما تقدّم به السنّ، إلى أعلى حدٍّ ممكن.

وقد يحكم البعض على نفسه أنه أصبح كبيرًا، وانتهى دوره بمجرّد بلوغه سنّ التقاعد، وهذه ثقافة خطأ، فالإنسان بمقدار ما يتحرّك، وتكون له فاعلية، يكون وضعه أفضل، إنّ المسألة ليست إضافة سنوات للحياة، وإنّما الأهم إضافة حياة للسنوات، في البلدان الأخرى ترى كبار السنّ يمارسون الرياضة أول الصباح في الحدائق، وكأنّهم شباب في حيويتهم ونشاطهم، وبإمكان الإنسان أن يثري المجتمع بحيويته ولا يحكم على نفسه بانتهاء الصلاحية؛ لأنه صاحب تجارب وخبرة، وعنده نفوذ في نفوس أبنائه ومن حوله.

إنّ التعاليم الدينية توجه الإنسان إلى متابعة طموحاته وتطلّعاته، والاستمرار في تحقيق المكاسب والإنجازات، دون نظر إلى تقدّم سنه، فقد ورد في الأثر: (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد).

يؤكّد الشّعار الذي اختارته الأمم المتحدة للاحتفاء باليوم العالمي للمسنّين هذا العام (2021م) وهو: "المساواة الرقمية لجميع الأعمار"، على الحاجة إلى تمكين المسنين من الوصول إلى العالم الرقمي والمشاركة الهادفة فيه.

من جهة أخرى، فإنّ كتبار السنّ يشكلون مخزونًا ورصيدًا مهمًّا للعمل الاجتماعي التطوعي، الذي يثري نفوسهم بالمشاعر الإيجابية، والأحاسيس الطيبة، ويحفّزهم لبذل الطاقة والنشاط، ويقدمون بذلك لمجتمعهم كثيرًا من الخدمات والأدوار النافعة.

ونرى في المجتمعات الأخرى كيف يلتحق المتقاعدون وكبار السنّ بمختلف المؤسّسات الاجتماعية والمنظمّات الأهلية والمبادرات التطوعية.

وعلى من حول كبار السنّ تشجيعهم على ممارسة الحركة والنشاط.

يقول أبو الحسن التهامي:

ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي       ولا وفائي ولا ديني ولا كرمي

وإنّما اعتاض رأسي غير صبغته               والشيب في الرأس غير الشيب في الهمم

الحاج منصور آل كبيش نموذجًا

كرّم مدير مكتب التعليم بمحافظة القطيف (في ديسمبر 2020م) رجل الشراكة المجتمعية الحاج منصور آل كبيش لتطوعه لمدة 10 سنوات في تنظيم حركة السير أمام إحدى المدارس.

آل كبيش رجل سبعيني متقاعد من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران.

منذ تقاعده، انخرط في أعمال خدمة المجتمع، إذ زاول تنظيم حركة المرور، ودخول وخروج الطلاب بمدرسة الخندق الابتدائية بسيهات، وتواجد في مختلف برامج النشاط الطلابي بها، منذ سنة 1432هـ.

ويشارك بفعالية مع وحدة نشاط الطلاب بمكتب التعليم بمحافظة القطيف في أنشطتها المتنوعة والمتعددة كشراكة مجتمعية، وأسهم في أنشطة النادي الموسمي بمدرسة السلام الابتدائية بسيهات، وحملة (سيهات جميلة) وفعاليات اليوم العالمي للتطوع مع جمعية سيهات للخدمات الاجتماعية[6] .

رعاية الكبار واحترامهم

ثالثًا: أهمية تعزيز قيمة الاحترام والتقدير وتوفير الرعاية لكبار السنّ، إنّ على الأبناء أن يتنافسوا على خدمة الوالدين، لا أن يتواكلوا ويتراموا المسؤولية على بعضهم بعضًا.

وخاصة في مجال توفير مستلزمات الحياة والرعاية الصحية والاهتمام العاطفي، فإنّ بعض كبار السنّ قد يعيشون في وضع لا تتوفر فيه لهم الأجواء المناسبة لرعاية صحتهم، كالاهتمام بالنظافة، وتناول ما يحتاجون من الأدوية في الأوقات المحددة.

وهناك الجانب العاطفي حيث يحتاج الكبير إلى إحاطته عاطفيًّا، وإشعاره بأنه محلّ اهتمام وتقدير، لهذا تؤكد التعاليم الدينية على التعامل مع الوالدين بالمزيد من الحنان والرفق في مرحة الكبر، يقول تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‎﴿٢٣﴾‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[7] .

إنّ على الأسر والعوائل تكريس عادات الاحترام والتقدير لكبارها، حتى يتربّى الجيل الناشئ على هذه الآداب والأخلاق المطلوبة.

وعلى الصّعيد الاجتماعي لا بُدّ من تأسيس ودعم المؤسّسات والمبادرات التي تهتم بشأن كبار السنّ، وبثّ ثقافة الاحترام لهم في المجتمع، وتوفير الخدمات، وخاصّة لمن لا تتوفر له رعاية أسرية.

هناك نصوص تؤكد احترام كبار السنّ بشكل عام، عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ إِجْلَالَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ»[8] .

وقال لأنس: «وَقِّرِ اَلْكَبِيرَ تَكُنْ مِنْ رُفَقَائِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»[9] 

وعنه : «مَنْ وَقَّرَ ذَا شَيْبَةٍ لِشَيْبَتِهِ آمَنَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»[10] .

وعنه : «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا»[11] . 

وعنه : «إِنَّ مِنَ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ»[12] .

كم هو جميل أن ترى الشباب يبادرون لاحترام الكبير عندما يدخل إلى مجلس، أو حينما يمشي في الشارع، أو حينما يحتاج إلى مساعدة، هذا الاحترام إذا تأكد في المجتمع فإنه يعني الحيوية الاجتماعية، ويعني الضمان لمستقبل الأجيال القادمة.

 

خطبة الجمعة 24 صفر 1443هـ الموافق 1 أكتوبر 2021م.

[1]  الكافي: ج4، ص733.
[2]  صحيفة الجزيرة، السبت 15 يونيو 2019م. https://www.al-jazirah.com/2019/20190615/lp2.htm
[3]  اليوم الدولي للمسنين، موقع الأمم المتحدة، 30/9/2021م.
[4]  10% من سكان المملكة مسنون خلال 4 سنوات، صحيفة مكة، 22 يوليو 2021.
[5]  سورة الروم، الآية: 54.
[6]  صحيفة جهينة 8 / 12 / 2020م. https://juhaina.in/?act=artc&id=73287
[7]  سورة الإسراء، الآيات: 23-24.
[8]  الكافي: ج4 ص733.
[9]  جامع أحاديث الشيعة. ج١٦ ص٢٣٩.
[10]  المصدر السابق، ج١٦ ص٢٣٩.
[11]  الألباني: صحيح الجامع، ح5445.وقد أخرجه أبو داود (4943)، والترمذي (1920)، وأحمد (6733).
[12]  الألباني: صحيح أبي داوود، ح4843.