بين العلم والوعي في القضايا الدينية

 

قال تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ[1] .

الوعي مرتبةٌ متقدّمةٌ من العلم، ذلك أنّ العلم يعني حصول المعلومة في ذهن الإنسان، والوعي هو التأمل في تلك المعلومة وفهمها واستيعابها، بما يتجاوز مجرّد الاطّلاع عليها.

وهذا ما يفيده كلام اللغويين، قال ابن منظور: وعى الشيء، والحديث يعيه، وعيًا وأوعاه: حفظه وفهمه وقبله، فهو واعٍ، وفلان أوعى من فلان، أي: أحفظ وأفهم.

وفي مصباح اللغة للفيّومي: وعيت الحديث وعيًا: حفظته وتدبّرته. والوعاء: ما يوعى فيه الشيء، أي يُجمع. وأوعيته واستوعبته لغة في الاستيعاب، وهو أخذ الشيء كلّه.

ومما يؤكّد هذا المعنى الحديث الوارد عن النبي برواية الإمام جعفر الصادق: «نَضَّرَ اَللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا»[2] . حيث يشير الحديث إلى أنّ المطلوب وعي مقالة رسول الله ، وليس مجرّد سماعها، مع أنّ العلم بالمقالة يحصل بالسّماع لها، لكنّ الوعي بها شيء إضافي، وهو تأمّلها واستيعاب معناها، كما يستوعب الوعاء ما يوضع فيه.

وتؤكّد الفقرة الأخرى من الحديث برواية عبدالله بن مسعود على هذا المعنى أيضًا حيث تقول عنه : «فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»[3] . فهناك من سمع الحديث، ونقله وبلّغه لآخر، وقد يكون هذا المنقول إليه أوعى بالحديث ممن سمعه ونقله. في إشارة لتفاوت مستوى الفهم والاستيعاب لمعنى الحديث.

النصوص الدينية بين الفهم والحفظ

إنّ كثيرًا من النصوص والمعلومات الدينية يتداولها معظم المنتمين إلى الدّين، لكنّ الاهتمام بفهم تلك النصوص، ووعي تلك المعلومات قليل محدود في مساحته، متفاوت في مستوياته.

مع أنّ القرآن الكريم يؤكّد أنّ الله تعالى لم ينزل آياته لتكون مجرّد نصٍّ يُقرأ، أو معلومةٍ تُحفظ، إنّما أنزل الله كتابه ليتأمل الناس معاني آياته، ويدركوا الآثار والنتائج التي تهدف إلى تحقيقها في حياتهم. يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[سورة ص، الآية:29].

والتدبر من مادة (دبر) وهو مؤخّر الشيء وعاقبته، والمقصود بالتدبّر في الآيات القرآنية هو تأمّل معانيها، وتلمّس آثارها ونتائجها. حيث وردت عدة آيات تحفّز على التأمل والتفكر في آيات القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[سورة محمد، الآية: 24] إنه توبيخ شديد لمن يوصد فكره ويقفله عن التأمل في آيات القرآن الكريم واستيعاب معانيها ومضامينها.

وقد ورد في سياق أهمية وعي النصوص الدينية أحاديث وروايات عديدة، منها ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب : «اِعْقِلُوا اَلْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»[4] .

وينطبق هذا القول على معظم أوساطنا الدينية، التي تحرص على تداول المعلومات الدينية من نصوص وأحكام وتعاليم، لكنّها لا تبذل جهدًا كافيًا في تعميق الوعي بتلك النصوص والمعلومات، وفهم غاياتها وأهدافها. فهناك رواة كثيرون للعلم، وقلة من الواعين.

إنّ المستوى والرتبة الدينية للإنسان، لا تقاس بمقدار مروياته ومعلوماته عن الدين، بل بمقدار وعيه وإدراكه للأمور الدينية. كما ورد عن الإمام (محمد بن علي) الباقر: «اِعْرِفْ مَنَازِلَ اَلشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ فَإِنَّ اَلْمَعْرِفَةَ هِيَ اَلدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ»[5] .

إنّ الوعي بقضايا الدين ومسائله يُوجّه المتديّن إلى المضمون والغاية التي يستهدفها الدين في نصوصه وتشريعاته، ويركّز في نفس الإنسان محورية تلك الاستهدافات والغايات المقصودة للدين، لتكون منطلق الانسان وقبلته في مختلف توجهاته وممارساته، وقد ورد عن الإمام علي بن أبي طالب : «إنَّ لِلْإِسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إلى غَايَتِهِ»[6] .

مشكلة القراءة الحرفية

وحين يغيب الوعي أو يضعف يصبح التديّن شكليًّا، ومجرّد عادات وطقوس فردية واجتماعية، من هنا فإنّ تعميق الوعي يجب أن يكون أولوية في الخطاب الديني.

إنّ من نتائج ضعف الوعي في القضايا الدينية بروز القراءة الحرفية للنصوص الدينية، بل وقبول نصوص مروية تخالف قيم الدين وثوابته، فمثلًا يأتي نصٌّ يقول بكراهة التعامل مع بعض القوميات، كالزنج والأكراد؛ لأنّهم قوم من الجنّ كشف عنهم الغطاء.

فكيف يمكن المواءمة بينه وبين قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[7] ؟

ذكر الشهيد الصدر في الأصول ما نصّه: (أنّ الدليل الظنّي إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة، فمثلاً لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق أو أنّهم قسم من الجنّ، قلنا: إنّ هذا مخالف مع الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً ومساواتهم في الإنسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم)[8] .

ومن شواهد القراءة الحرفية ما نسب لداوود بن علي الظاهري الأصفهاني -إن صحّت النسبة- أنه استنتج من الحديث عنه : (لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ) أنّ ذلك يخصّ من بال، لكن غيره يجوز له الوضوء، وكذلك لو تغوّط في الماء لا ينطبق عليه المنع، لأنه خاصٌّ بالبول، وكذلك لو بال في إناء ثم صبه في الماء لا ينطبق عليه المنع)[9] .

وقال بعض العلماء إنّ الفتاة إذا سئلت عن رأيها فيمن خطبها فأجابت بلسانها، لا يكفي ذلك، بل يستكشف رأيها بالرضى بسكوتها للحديث الوارد عنه : سكوتها رضاها.

ونجد نقاشًا بين الفقهاء حول النص الوارد عن كفاية صب الماء على بول الصبي الرّضيع، مرّة واحدة، دون الحاجة إلى عصر، لكنّ البعض رآه مقتصرًا على الصبي الذكر.

ومثله النقاش في النص الوارد في طهارة ثوب المربية للصبي إذا غسلته مرة في اليوم وأنه هل يشمل الصبية أم يقتصر على الصبي؟

وحين نقرأ الخطبة المروية عن الزهراء نراها تتحدّث عن فلسفة وحكمة التشريعات الدينية لترسي أرضية الوعي الديني، ومما جاء فيها: (جَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ، وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصاصَ حِصْناً لِلدِّماءِ، وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييراً لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ. وَحَرَّمَ الله الشِّرْكَ إخلاصاً لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ).

ويصادف الثالث من شهر جمادى الآخرة ذكرى وفاة بضعة الرسول السيدة الزهراء على إحدى الروايات، حيث لم تطل حياتها بعد وفاة أبيها، وأوصت زوجها عليًّا أن يدفنها ليلًا، ولا يحضر تشييعها من كانت غاضبة عليه.

جاء في البخاري ومسلم: عن عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ، عن عَائِشَةَ أنّها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رسول اللَّهِ أَرْسَلَتْ إلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاءَ الله عليه بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ وما بَقِيَ من خُمْسِ خَيْبَرَ.. فقال أبو بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال: «لا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إنما يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ في هذا الْمَالِ» وَإِنِّي والله لا أُغَيِّرُ شيئًا من صَدَقَةِ رسول اللَّهِ عن حَالِهَا التي كانت عليها في عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَأَعْمَلَنَّ فيها بِمَا عَمِلَ بِهِ رسول اللَّهِ ، فَأَبَى أبو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إلى فَاطِمَةَ شيئًا.. فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ على أبي بَكْرٍ في ذلك، قال: فَهَجَرَتْهُ فلم تُكَلِّمْهُ حتى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رسول اللَّهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فلما تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ لَيْلًا، ولم يُؤْذِنْ بها أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عليها عَلِيٌّ)[10] .

لم يحضر تشييعها إلّا عدة أفراد، منهم سلمان والمقداد وعمّار بن ياسر وأبو ذرٍّ والعباس وعقيل والزبير.. وقام هذا النّفر المحدود بتشييع فاطمة وكأنّها امرأة فقيرة غريبة لا يعرفها أحد، ولا يهتم بها أحد.

وتقدّم الإمام علي وصلّى على بضعة النبي وحبيبته، ثم قال: كما ورد عن الإمام الباقر : (اللَّهُمَّ إِنِّي رَاضٍ عَنِ ابْنَةِ نَبِيِّكَ، اللَّهُمَّ إِنَّهَا قَدْ أُوحِشَتْ فَآنِسْهَا، اللَّهُمَّ إِنَّهَا قَدْ هُجِرَتْ فَصِلْهَا، اللَّهُمَّ إِنَّهَا قَدْ ظُلِمَتْ فَاحْكُمْ لَهَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)[11] .

ولأيِّ الأمور تدفن سرًّا *** بضعة المصطفى ويعفى ثراها

بِنْتُ مَنْ؟ أُمُّ مَنْ؟ حَلِيلَةُ مَنْ؟ *** ويْلٌ لِمَنْ سَنَّ ظُلْمَهَا وأَذَاهَا

 

خطبة الجمعة 4 جمادى الأخرة 1443هـ الموافق 7 يناير 2022م.

[1]  سورة الحاقة، الآية: 12.
[2]  الكافي، ج1، ص403.
[3]  سنن الترمذي. حديث 2657.
[4]  نهج البلاغة: الحكمة ٩٨.
[5]  بحار الأنوار. ج١، ص١٠٦.
[6]  نهج البلاغة. خطبة 176.
[7]  سورة الحجرات، الآية: 13.
[8]  محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، ج7، ص333-334.
[9]  محيي الدين النوري: كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي، ج1، ص169.
[10]  صحيح البخاري، ح1759، مسلم 4240 و4241.
[11]  الصدوق، الخصال، ج2، ص588.