الأبناء ضحايا التّفكّك الأسري

الشيخ حسن الصفار *

 

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَا مِنْ شَيْ‌ءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ الله عَزَّ وَجَلَّ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ»[1] .

من أهم وظائف تكوين الأسرة في المجتمع الإنساني، أنّها محضن تربية الإنسان وتنشئته، وعبرها يتمّ إعداده وتأهيله للحياة.

إنّ الإنسان مخلوق مميّز، يختلف عن بقية الكائنات، بتنوع أبعاده، فلديه نفس مليئة بالمشاعر والأحاسيس المتصارعة، والميول والرّغبات المتناقضة، ولديه قدرات عقلية هائلة، ولأنه مدني بطبعه، له بعد اجتماعي، كما أنه مهيأ ومؤهل للعب دور كبير على مستوى الحياة والكون، باعتباره مستخلفًا لله في الأرض.. لكنّ ما لديه من كفاءات وقدرات وميول ورغبات، حينما يأتي إلى الدنيا، إنّما هي على شكل مواد خام، وبذور واستعدادات، فيحتاج إلى فترة من الرعاية والتربية، لتنمو طاقاته، وتتطور قدراته، ويتدرّب على قضايا الحياة، وتتشذّب غرائزه وميوله، وتترشّد مساراته وسلوكه.

بينما بقية الحيوانات تعيش ضمن بعد محدود، تسير فيه بغريزة وتقدير إلهي، لذلك لا تحتاج إلّا لقدر ضئيل من التنشئة والإعداد، ثم تنطلق لأداء دورها المحدد المرسوم، ففترة الطفولة عند الحيوانات قصيرة تقاس بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور في أقصى التقديرات، ولا تكاد تجد نوعًا من الحيوانات يحتاج إلى رعاية أمه لأكثر من سنة.. وبعض الحيوانات كالحشرات والأسماك قد لا تحتاج إلى تربية ورعاية أصلًا.

ولتميّز الإنسان في مكانته ودوره وكفاءاته وقدراته، شاءت حكمة الله تعالى أن يمرّ بفترة طويلة من الحاجة لرعاية الأبوين وتربيتهما، لتتبلور شخصيته، وتنمو مواهبه وطاقاته، إلى جانب تكامله وتطوره الجسمي.

خطورة تفكك الأسرة

وحينما يصاب كيان الأسرة بأيّ ضعف أو خلل، فإنه ينعكس على أدائها لمهمتها الأساس في التربية الصالحة والتنشئة السليمة للأبناء.

وهنا تظهر خطورة التفكك الأسري، وحصول المشكلات الدائمة بين الوالدين، ووقوع الطلاق والانفصال بينهما.

إنّ ذلك يترك أثرًا سلبيًّا بالغًا في نفوس الأبناء، ويحرمهم من التمتع بطفولة هانئة، وحياة سعيدة، ويفقدهم كثيرًا مما يحتاجونه لبناء شخصياتهم ومستقبلهم.

وحينما يصبح التفكك الأسري ظاهرة منتشرة في المجتمع، فهذا يعني خطرًا كبيرًا على مستقبل الجيل الناشئ من أبناء الوطن، إنّ الأرقام التي تصدر عن الجهات المختصة حول تصاعد حالات الطلاق، وارتفاع نسبة الشكاوى والنزاعات العائلية في المحاكم تدقّ ناقوس الخطر على الأمن الاجتماعي.

حيث كشفت تقارير إحصائية عن زيادة غير مسبوقة في معدّلات الطلاق في المملكة العربية السعودية خلال العام 2022م وصلت لـ 168 حالة طلاق يوميًّا، بواقع 7 حالات طلاق في كلّ ساعة، وبمعدّل يفوق الحالة الواحدة كلّ عشر دقائق[2] .

وهذا ما دعا وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في المملكة للطلب من الخطباء بمختلف مناطق ومحافظات المملكة بتخصيص خطبة الجمعة، (24 ربيع الآخر 1444هـ الموافق 18 نوفمبر 2022م) للتحذير من التساهل في الطلاق، ووجوب التصدّي لهذه الظاهرة، وإيضاح خطورتها على النشء والمجتمع.

وسنركز حديثنا حول أهم التداعيات السّلبية للتفكك الأسري على نفسيّات الأبناء وحياتهم:

أولًا: التمزق العاطفي:

البعد العاطفي هو أهم الأبعاد وأكثرها حساسية في شخصية الطفل، أنه بحاجة ماسّة إلى مشاعر الحنان وفيض المحبة، ليشعر بالأمان والاستقرار النفسي، إنّ الاضطراب العاطفي يثير كثيرًا من القلق في نفسه، ويفقده الثقة والطمأنينة، ويبثّ في قلبه الخوف والكآبة، إنه يحب أبويه وينجذب إليهما، وهما مصدر الثقة والأمان والحبّ والحنان بالنسبة له.

فإذا ما رأى الطفل حالة نزاع بين أبويه، وما ينتج عنها من مظاهر ومشاهد سيئة، فإنّ ذلك يثير في نفسه الكثير من الأذى؛ لأنه يرى مصدر حنانه ومنبع اطمئنانه في حالة خطرٍ وأذى، ولك أن تتصور مشهدًا يرى فيه الأبناء أباهم يضرب أمهم، وهي تصرخ وتستغيث أمامهم، أو يرون أمهم توجه الإهانة والأذى لأبيهم، لا شك أنّ ذلك يمزق نفس الطفل، ويصبح مضطربًا في انطباعاته تجاه والديه، وتزداد الحال سوءًا حينما يسعى كلٌّ من الوالدين لتعبئته ضدّ الآخر، وضمان انحيازه إليه.

وتشير بعض المربيات في دور الحضانة، وبعض المعلّمين والمعلّمات في المرحلة الابتدائية، إلى أنّهم يلاحظون آثار الاضطراب عند بعض الأطفال، وحين يبحثون عن الأسباب يكتشفون أنّ أهمها ما يبوح به الأطفال من مشاهداتهم للنزاع بين الأبوين.

ثانيًا: نقص الرعاية التربوية

يحتاج الطفل إلى كثير من رعاية الوالدين، وخاصة في هذا العصر، فهناك العملية التعليمية التي تحتاج إلى متابعة واهتمام، ليتفاعل مع برنامج الدراسة والتعليم، وليحقّق النجاح والتفوق.

وهناك الجانب السلوكي وتأثيرات انفتاح الأطفال على العالم الافتراضي الإلكتروني، وهناك البيئة الاجتماعية التي يعيش ضمنها في الأسرة والمدرسة، ومع الزملاء والأقران، وما قد يواجهه فيها من مشكلات.

إنّ كلّ هذه الجوانب تحتاج إلى رعاية تتكامل فيها جهود الوالدين، وفي حالة التفكك الأسري، تضعف حالة الرعاية من أحد الجانبين أو كليهما، وذلك ما يضرّ بمستقبل الأبناء وتأهيلهم، وبناء شخصياتهم.

وهذا ما تؤكده الدراسات والأبحاث التي تُعنى بحالات التسيّب والتسرّب من العملية التعليمية، وضعف تفاعل وأداء بعض الطلاب، حيث تتركز هذه الظاهرة أكثر في أبناء الأسر التي تعاني من الخلافات والتفكك.

كما أنّ معظم جرائم الأحداث وانحرافاتهم تظهر في أوساط أبناء هذه العوائل.

ثالثًا: سقوط النموذج الأخلاقي

من الطبيعي أن يتربى الأبناء على محاكاة سلوك الوالدين، فكما يكسبون منهما اللغة ونمط المعيشة والحياة، يرثون منهما الصفات النفسية والسلوكية، عبر التوجيه والتنشئة، وعبر المحاكاة والاتّباع، حيث يكون الوالدان قدوة وأنموذجًا يسعى الأبناء للتمثل بسلوكهما.

فالأسرة هي التي تغرس القيم والمبادئ في نفوس الأبناء، وتعزّز السلوك الأخلاقي في شخصياتهم.

والتفكّك الأسري غالبًا ما ينتج سلوكًا سلبيًّا، ويُظهر صفات سيئة في حالات النزاع بين الوالدين، من سوء الظنّ، والاتهامات، والإساءات المتبادلة، والشتائم، والكلام البذيء، وصولًا إلى القطيعة والعنف، وهنا يجد الأبناء أنفسهم أمام مشاهد سلوكية منحرفة، مما يؤدي إلى سقوط النموذج الأخلاقي في نفوسهم، ويسبّب لهم العقد النفسية، ويهيئهم لمحاكاة السّلوك الخطأ من الوالدين.

والدان وليسا زوجين فقط

إنّ على الوالدين أن يدركا عمق تأثير خلافاتهما وانفصالهما على الأبناء، وألّا ينظر كلٌّ منهما إلى الأمر من زاوية وضعه الشخصي فقط، فيتصرف ويتخذ القرار لتحقيق مصلحته ورغبته، أو للانتقام لنفسه، دون أن يفكر في تأثير ذلك على أبنائه.

إنّ على الوالدين أن يتصرفا كوالدين وليس كزوجين فقط، وهذا يعني ما يلي:

أولًا: أن يتحمّلا بعضهما وأن يتحلّيا بالصبر في علاقتهما، خاصة مع كون الأبناء في مرحلة الطفولة والمراهقة.

روي عن النبي : «مَنْ صَبَرَ عَلَى سُوءِ خُلُقِ اِمْرَأَتِهِ أَعْطَاهُ الله مِنَ اَلْأَجْرِ مَا أَعْطَاهُ أَيُّوبَ عَلَى بَلاَئِهِ وَمَنْ صَبَرَتْ عَلَى سُوءِ خُلُقِ زَوْجِهَا أَعْطَاهَا مِثْلَ ثَوَابِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ»[3] .

وعن إسحاق بن عمار قال: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله : مَا حَقُّ اَلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا اَلَّذِي إِذَا فَعَلَهُ كَانَ مُحْسِنًا؟ قَالَ: يُشْبِعُهَا وَيَكْسُوهَا، وَإِنْ جَهِلَتْ غَفَرَ لَهَا، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله : كَانَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ أَبِي تُؤْذِيهِ فَيَغْفِرُ لَهَا»[4] ، ومضمون الرواية ضرورة أن يتمتع الرجل بالمرونة والتسامح مع ما قد يبدر من زوجته من خطأ، والغرض من ذلك أن تتعزّز في النفوس حالة التحمّل والصبر المتبادل.

ويقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة النساء: الآية: 19].

إنّ على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، حتى لو اتصفت الزوجة ببعض ما يكرهه الزوج، فإنّ نتائج تحمّله وصبره على ما يكرهه يكسبه خيرًا كثيرًا، هو حالة الوئام والاستقرار الأسري، الذي ينعكس إيجابيًّا على تربية الأبناء، وذلك من أهم مصاديق ﴿وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.

ثانيًا: إدارة الخلافات بعيدًا عن الأبناء.

فلا يصح أبدًا إظهار حالة التنافر والنزاع بين الزوجين، أمام الأبناء، فإنّ آثارها خطيرة مدمّرة.

ثالثًا: التوافق والتكامل في رعاية الأبناء بعد الطلاق.

فإنّ الأب يبقى هو المسؤول الأول عن تربية الأبناء ورعاية شؤونهم، وتوفير متطلبات حياتهم، حتى وإن كانوا يعيشون مع أمهم. فلا يجوز له أن يقصّر أو يتساهل في تحمّل هذه المسؤولية، بمبرر انفصاله عن أمهم، أو كونهم ملتحقين بها.

كما لا يجوز للأم أن تعوّق قيام الأب بمسؤوليته تجاه أبنائه.

وفي المقابل فإنّ الأبناء لا يستغنون عن عطف أمهم وحنانها، لذلك منحها الشرع حقّ الرضاع وحقّ الحضانة، ضمن تفاصيل تعرّضت لها المسائل الفقهية، فلا يصح للأب حرمان الأبناء من حنان أمهم ومشاركتها في رعايتهم.

إنّ من المؤسف جدًّا أن يصبح الأبناء ورقة في الخلاف والنزاع بين الوالدين، فيسعى كلّ طرف للضغط على الآخر من خلال منع أو تعويق تواصله مع الأبناء، وهو حيف وظلم لحقّ الآخر، وإساءة وعدوان على حقوق الأبناء في التمتع برعاية كاملة من الأبوين.

للمشاهدة

https://www.youtube.com/watch?v=eQx-JIb_Q74

خطبة الجمعة 24 ربيع الآخر 1444هـ الموافق 18 نوفمبر 2022م.

[1]  الكافي، ج6، ص54، ح2.
[2]  ، صحيفة اليوم، الأربعاء 26 أكتوبر 2022 - 01 ربيع الآخر 1444 هـ: زيادة غير مسبوقة خلال 2022.. «حالة طلاق» كلّ 10 دقائق بالمملكة، https://www.alyaum.com/articles/6429374
[3]   مكارم الأخلاق، ص213.
[4]   الكافي، ج5، ص٥١0، ح 1.