تزيين عمل السوء

 

يقول تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم [محمد: 14].

يدرك الإنسان بفطرته ووجدانه، أنّ هناك أعمالًا حسنة يجدر به أن يقوم بها، وأنّ هناك أعمالًا سيئة عليه أن يتجنّبها.

وكما منحه الله القدرة على التمييز بين الخير والشر، منحه الحرية والاختيار، ليقرّر نوعية العمل الذي يقوم به، يقول تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3].

فإذا قام بالعمل الحسن، استحقّ ثواب الله، ونال تقدير العقلاء ذوي الفطرة السليمة، وشعر بالراحة والرضا في أعماق نفسه، أما إذا اتخذ القرار الخطأ، وقام بالعمل السيئ، فإنه يستحقّ العقاب من الله، واللوم من العقلاء، والشعور بالمساءلة والتوبيخ داخل ضميره ووجدانه، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم النفس اللوامة يقول تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: 2].

إنّ وقوع الإنسان في العمل السيئ أمر متوقع، بسبب وجود نوازع الهوى والشهوة في نفسه، لكن يقظة الضمير والوجدان، تساعد الإنسان على التراجع عن الخطأ.

يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135].

ورد عن النبي محمد : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[1] .

الالتفاف على الضمير والوجدان

لكنّ المشكلة الخطيرة التي قد تصيب الإنسان، هي محاولة الالتفاف على الضمير والوجدان، وأن يسعى لخداع ذاته، وإيهام نفسه، بأنّ العمل السيئ الذي قام به هو عمل حسن، وحينئذٍ يقطع على نفسه خطّ الرجعة عنه، والتوبة منه، بل قد يزداد إصرارًا عليه.

وقد تناول القرآن الكريم هذه المشكلة النفسية الخطيرة، في عدد من الآيات، واستخدم لها مصطلح التزيين بمعنى تصوير العمل السيء، وإظهاره أمام النفس بأنه حسن.

يقول تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم [محمد: 14].

ويقول تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر: 8].

ويقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122].

ويقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس: 12].

إنّ عملية التزيين قد تحصل من داخل النفس، نتيجة ضغط الرغبة في القيام بعمل السوء، مع محاولة تلافي توبيخ الضمير.

وقد يكون للشيطان دور في عملية التزيين هذه، يقول تعالى: ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63].

ويقول تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43].

وقد يكون لقرناء السوء دور في صناعة التزيين، يقول تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت: 25].

إنّ أساليب خداع النفس وتزيين عمل السوء متنوعة مختلفة، وغالبًا تنطلق من أحد مسارين:

الأول: ادّعاء مصلحة الذات

حيث يصور الإنسان لنفسه أنّ هذا العمل السيئ ينتج له مصلحة كبيرة، هو في حاجة إليها، مثلًا الرشوة، والحصول على مبالغ ضخمة منها، لكنّ الإنسان يتغافل أو يتجاهل هنا أنّ عمل السوء يورّطه في المشاكل والأزمات، وليس هو الخيار المناسب لخدمة الذات، وإن كان يجلب منفعة عاجلة، فهو حرام شرعًا، ويخالف الفطرة والعقل، ويعاقب عليه القانون.

الثاني: استعارة العناوين القيمية

بأن يعمد الإنسان إلى تغليف عمل السوء بعنوانٍ حسن، فهو لديه غرض سيئ، لكنه يضع له غلافًا جميلًا برّاقًا، ليخدع نفسه، ويسكت صوت ضميره، فمثلًا: الاندفاع إلى إقامة علاقة عاطفية مع فتاة أو امرأة أجنبية، بمبرر النصيحة أو المساعدة لها، واستغلال وجود مشكلة أو حاجة في البين.

وكذلك رفع شعار ممارسة الحرية ورفض الوصاية من الآخرين. لكنّ ادعاء الحرية المطلقة دون قيود ولا حدود، هذا منزع شيطاني.

ونواجه الآن موجة عالمية غربية تريد تزيين الرذائل الأخلاقية، كالإباحية والمثلية والخلاعة والمجون، كلّ ذلك تحت عنوان الحريات الشخصية وحقوق الإنسان، ويريدون فرضها على الشعوب.

وتعيش الجاليات الإسلامية في الغرب معاناة قاسية من أجل التمسّك بهويتها الثقافية، وقيمها الأخلاقية، حيث تفرض بعض الدول الغربية في مراحل التعليم تلقّي ثقافة المثلية والشذوذ الجنسي، وتحاسب العوائل المسلمة التي تتحدّث لأبنائها عمّا يخالف ذلك.

استغلال العناوين الدينية

وقد يحصل تنافس أو تحاسد بين طرفين في الساحة الدينية، فيندفع أحدهما للنيل من الآخر، وتصفية الحساب معه، باستخدام عنوان ديني مثل الردّ على الانحراف العقدي، وفي كثير من الأحيان تكون مجرّد عنوان ومبرر، وإلّا فالمسألة التي يتهم الآخر بالانحراف فيها، هي مسألة اجتهادية نظرية قابلة للاختلاف، وقد تكون مسألة فرعية جزئية، ثم ما هي درجة خطورتها؟ ألا توجد انحرافات أخطر منها؟ ولعلّها لو صدرت من أحد آخر غير منافسه لما اهتم بالردّ عليها.

إنّ على الإنسان أن يكون واضحًا مع نفسه، وعلى بيّنة من ربه، في أيّ عمل يقوم به؛ لأنّ الله هو الرقيب والعالم بخبايا النفوس، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 119]، وهو المحاسب يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18].

 

خطبة الجمعة 6 ذو القعدة 1444هـ الموافق 26 مايو 2023م.

[1]  سنن الترمذي، حديث ٢٤٩٩.