الإمام علي والحساسية من الظلم

 

ورد عن أمير المؤمنين علي : «وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّدًا، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّدًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِمًا لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِبًا لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَدًا لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟» إلى أن يقول:

«وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى!»[1] .

الحَسَاسِيَّة بتخفيف السين وتشديدها (الحَسّاسيّة)، مأخوذة من الحِسِّ بالشيء، أي الشعور به، ومنه الإحساس بالأشياء المادية عند الإنسان، عبر الحواس الخمس، السمع والبصر واللمس والذوق والشمّ.

وعلى المستوى النفسي يقصد بالحساسية: قوة الشعور بالأحوال الانفعالية، كاللذات والآلام[2] . فهناك من يكون انفعاله النفسي شديدًا تجاه بعض المواقف والأمور، فيقال إنّ لديه حساسيّة منها.

ويكثر استخدام مصطلح الحساسية في المجال الطبي الصحي، للتعبير عن ردة فعل الجهاز المناعي في جسم الإنسان، عند احتكاكه ببعض المواد الغريبة، مثل حبوب اللقاح، وسم النحل، ووبر الحيوانات، أو لنوع طعام لا يسبب إثارة تحسّسٍ لدى أغلب الناس. أو اتجاه بعض الأدوية، لذلك يُسأل المريض قبل اتّخاذ أيّ إجراء علاجي له عمّا إذا كانت عنده حساسية تجاه دواء معيّن.

ويمكن لردة فعل الجهاز المناعي أن تسبب التهابًا في الجلد، أو في الجيوب الأنفية، أو المسالك الهوائية، أو الجهاز الهضمي.

كما تتفاوت درجة شدة الحسَاسِية من شخص لآخر، وقد يتراوح نطاقها من التهيّج البسيط، إلى الصدمة التحسسية التي قد تهدّد الحياة.

ولا يمكن علاج أغلب حالات الحساسية، وإنّما التخفيف من أعراضها، والأصل في العلاج تجنّب المادة المثيرة.

وما نقصده هنا من الحساسية هو المعنى النفسي، أي مستوى الرفض النفسي لحالة الظلم.

قبح الظلم مبدأ فطري عقلي

الظلم هو الجور ومجاوزة الحدّ، ويطلق على التجاوز على حقّ الغير، ماديًّا كان ذلك الحقّ أو معنويًّا، بالاعتداء على جسمه، أو انتهاب ماله، أو تعويق مصالحه، أو إيذائه نفسيًّا، أو النيل من سمعته.

وقبح الظلم مبدأ يتفق عليه كلّ أبناء البشر في مختلف عصورهم، وعلى مختلف توجهاتهم، فلا يقول إنسان سويٌّ إنّ الظلم حسن صحيح.

فهو مبدأ فطري عقلي تؤكد عليه الشرائع الدينية، والقوانين الإنسانية الاجتماعية.

ويشير الإمام علي إلى فطرية هذا المبدأ في نفس كلّ إنسان بقوله : «وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ»[3] . فلا أحد يحبّ أو يرضى أن يقع عليه الظلم.

هل الظلم جزء من طبيعة البشر؟

ومع اتفاق أبناء البشر على قبح الظلم، ورفضهم أن يقع عليهم، إلّا أنّهم يمارسونه في الغالب ضدّ بعضهم بعضًا. حتى أصبح الظلم وكأنه جزء من طبيعة الإنسان، لكثرة حدوثه وحصوله من أفراده.

من هنا وصفت بعض الآيات القرآنية الإنسان، بأنه ظلوم للتعبير عن كثرة وقوع الظلم منه، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. [سورة الأحزاب، الآية: 72].

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ. [سورة إبراهيم، الآية: 34].

وجاء في شعر المتنبي:

الظُّلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد               ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ

لكنّ هذه الآيات التي تصف الإنسان بالظلم، (لا تتحدّث عن خصائص الذات، ولكن عن الصفة كظاهرة في السلوك، في أكثر مظاهر السلوك لديه)[4] .

وإنّما جاءت الرسالات الإلهية للحدّ من حالات الظلم بين بني البشر، وإقامة العدل في حياتهم، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. [سورة الحديد، الآية: 25].

وذلك هو مبرّر وجود القوانين والأنظمة، وقيام الحكومات والسُّلطات، لحفظ الأمن بين الناس، وحمايتهم من بعضهم بعضًا.

لماذا يمارسون الظلم؟

ولكن لماذا تكثر ممارسة الظلم بين الناس، مع إقرارهم واعترافهم نظريًّا ووجدانيًّا بقبحه؟

يمكننا الإشارة إلى بعض العوامل والأسباب ضمن التصنيف التالي:

أولًا: الاختلاف والاشتباه في المصاديق والموارد، حيث يتراءى للإنسان أنّ هذا من حقّه، وأنّ هذه الممارسة ليست ظلمًا، لاقتناعه بفكرة خطأ، كالأفكار العنصرية مثلًا.

أو لوجود وَهْمٍ لديه أنّ هذا الشيء له وليس للآخر، كما يحصل ذلك في كثير من النزاعات.

وهنا يكون الحلّ بوجود مرجعية وقانون يُحتكم إليه في كلّ مجتمع، للفصل في النزاعات والخصومات. وذلك مما يحدّ من وقوع الظلم.

ثانيًا: الحالات الانفعالية التي تحصل للإنسان، فتدفعه للاعتداء على الغير، كالغضب مثلًا، أو التسرّع في اتخاذ الموقف تجاه الآخر. وهنا قد يكتشف الإنسان خطأه فيتراجع ويعتذر.

ثالثًا: الدافع الأناني المصلحي، وسيطرة الأهواء والشهوات على الإنسان، التي تدفعه للجور على حقوق الآخرين. وتلك هي المشكلة الأخطر، والأكثر انتشارًا بين الناس، وإنتاجًا للظلم والظلامات.

تقوية المناعة الذاتية

ولكبح جماح هذا الاندفاع نحو الظلم في النفوس، لا بُدّ من تقوية جهاز المناعة داخل الإنسان، وتنمية الحساسية لديه تجاه الظلم، لإيجاد رفض وردّ فعل في النفس، تجاه أيّ اندفاع نحو الظلم والجور. وذلك بالاستحضار الدائم لقبح الظلم، من أجل تعزيز المناعة الذاتية ضدّه.

وهذا ما تقوم به النصوص والتوجيهات الدينية.

إنّ القرآن الكريم لم يحذّر من أيِّ ذنب أو موبقة كما حذّر من الظلم، فيما يزيد على مئتي مورد في الآيات الكريمة، وحتى إنه حينما يريد القرآن ذمَّ الشرك بالله تعالى، والتنديد به، والتحذير منه، يصفه بأنه ظلم، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. [سورة لقمان، الآية: 13].

نبرة عالية ضدَّ الظلم

وحين نقرأ كلمات أمير المؤمنين علي ، وأقواله، نرى تركيزه وتأكيده الشديد، على التحذير من الظلم.

يقول : «الظُّلمُ أمُّ [أَلْأَمُ] الرَّذائلِ»[5] .

وعنه : «إِيّاكَ وَالظُّلْمَ فَإِنَّهُ أَكبَرُ الْمَعاصي»[6] .

وعنه : «الظُّلْمُ فِي الدُّنْيَا بَوَارٌ، وَفِي الْآخِرَةِ دَمَارٌ»[7] .

وعنه : «مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ»[8] .

إنّ الظلم قبيح تجاه أيِّ أحدٍ من الخلق، قريبًا كان لك أو بعيدًا عنك.

يقول : «لاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اِتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ ضَيَّعْتَ حَقَّهُ، وَلاَ يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى اَلنَّاسِ بِكَ»[9] .

وعنه : «ظُلْمُ اَلضَّعِيفِ أَفْحَشُ اَلظُّلْمِ»[10] .

وعنه : «إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لاَ يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلاَّ اَللَّهَ»[11] .

وعنه : «اَلْعَامِلُ بِالظُّلْمِ، وَاَلْمُعِينُ لَهُ، وَاَلرَّاضِي بِهِ شُرَكَاءُ»[12] .

حساسيّة شديدة من الظلم

إنّ هذه النبرة العالية ضدَّ الظلم في أقوال الإمام علي ، توازيها حساسية شديدة عميقة في شخصيته ومواقفه، عبّر عنها بما ورد في عدد من خطبه، كقوله : «وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّدًا، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّدًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِمًا لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِبًا لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَدًا لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟» إلى أن يقول:

«وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضِمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى!»[13] .

وحين اقترح عليه بعض أصحابه عندما تولى الخلافة، ممالأة بعض الفاسدين، وتثبيتهم في مواقع السلطة، حماية لحكمه، برزت حساسيته العالية فأجاب غاضبًا ورافضًا لاقتراحهم: «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ اَلنَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاَللَّهِ لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي اَلسَّمَاءِ نَجْمًا!»[14] .

الانتصار للمظلوم

حينما يقف الإمام علي على حال شخص وقعت عليه ظلامة من أحد، مهما كانت تلك الظلامة محدودة، فإنه يستنفر جهده واهتمامه فورًا لإنصافه، ورفع ظلامته، دون أيّ مهادنة أو تسويف.

وورد عنه : «وَاَيْـمُ اَللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ اَلْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلَأَقُودَنَّ اَلظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ اَلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهًا»[15] .

وجاء في وصيته للحسنين: «كُونَا لِلظَّالِمِ خَصْمًا وَلِلْمَظْلُومِ عَوْنًا»[16] .

ونذكر هنا بعض المواقف والشواهد من سيرته :

رُوِيَ: أَنَّ قَصَّابًا كَانَ يَبِيعُ اَللَّحْمَ لجَارِيَةِ تخدم إحدى العوائل، وَكَانَ يَحِيفُ عَلَيْهَا، فَبَكَتْ وَخَرَجَتْ، فَرَأَتْ عَلِيًّا فَشَكَتْهُ إِلَيْهِ، فَمَشَى مَعَهَا نَحْوَهُ، وَدَعَاهُ إِلَى اَلْإِنْصَافِ فِي حَقِّهَا، وَوَعظهُ بقوله: «يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اَلضَّعِيفُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ اَلْقَوِيِّ، فَلاَ تَظْلِمِ اَلْجَارِيَةَ»[17].

وعن الإمام محمد اَلْبَاقِرُ فِي خَبَرٍ أَنَّهُ: رَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى دَارِهِ فِي وَقْتِ اَلْقَيْظِ، فَإِذَا اِمْرَأَةٌ قَائِمَةٌ تَقُولُ: إِنَّ زَوْجِي ظَلَمَنِي، وَأَخَافَنِي، وَتَعَدَّى عَلَيَّ، وَحَلَفَ لَيَضْرِبُنِي، فَقَالَ : «يَا أَمَةَ اَللَّهِ، اِصْبِرِي حَتَّى يَبْرُدَ اَلنَّهَارُ، ثُمَّ أَذْهَبُ مَعَكِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ»، فَقَالَتْ: يَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَحَرْدُهُ عَلَيَّ، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «لاَ وَاَللَّهِ أَوْ يُؤْخَذَ لِلْمَظْلُومِ حَقُّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ، أَيْنَ مَنْزِلُكِ؟» فَمَضَى إِلَى بَابِهِ فَوَقَفَ فَقَالَ: «اَلسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ»، فَخَرَجَ شَابٌّ فَقَالَ عَلِيٌّ : «يَا عَبْدَ اَللَّهِ، اِتَّقِ اَللَّهَ، فَإِنَّكَ قَدْ أَخَفْتَهَا، وَأَخْرَجْتَهَا»، فَقَالَ اَلْفَتَى: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ؟ وَاَللَّهِ لَأُحْرِقَنَّهَا لِكَلاَمِكَ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ : «آمُرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ، تَسْتَقْبِلُنِي بِالْمُنْكَرِ وَتُنْكِرُ اَلْمَعْرُوفَ»، قَالَ فَأَقْبَلَ اَلنَّاسُ مِنَ اَلطُّرُقِ، وَيَقُولُونَ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَسَقَطَ اَلرَّجُلُ فِي يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَقِلْنِي فِي عَثْرَتِي، فَوَ اَللَّهِ لَأَكُونَنَّ لَهَا أَرْضًا تَطَؤُنِي، فَأَغْمَدَ عَلِيٌّ سَيْفَهُ، فَقَالَ: «يَا أَمَةَ اَللَّهِ، اُدْخُلِي مَنْزِلَكِ، وَلاَ تُلْجِئِي زَوْجَكِ إِلَى مِثْلِ هَذَا وَ شِبْهِهِ»[18] .

وقالت سَوْدَةَ بِنْتَ عُمَارَةَ اَلْهَمْدَانِيَّةَ: (وَاَللَّهِ لَقَدْ جِئْتُهُ [أي الإمام علي] فِي رَجُلٍ كَانَ قَدْ وَلاَّهُ صَدَقَاتِنَا، فَجَارَ عَلَيْنَا، فَصَادَفْتُهُ قَائِماً يُصَلِّي، فَلَمَّا رَآنِي اِنْفَتَلَ مِنْ صَلاَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِرَحْمَةٍ وَرِفْقٍ وَرَأْفَةٍ وَتَعَطُّفٍ، وَقَالَ: «أَلَكَ حَاجَةٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَخْبَرْتُهُ اَلْخَبَرَ، فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: «اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلشَّاهِدُ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ، وَأَنِّي لَمْ آمُرْهُمْ بِظُلْمِ خَلْقِكَ»، ثُمَّ أَخْرَجَ قِطْعَةَ جِلْدٍ فَكَتَبَ فِيهَا «بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَاَلْمِيزٰانَ وَلاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَلاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا، فَاحْتَفِظْ بِمَا فِي يَدِكَ مِنْ عَمَلِنَا حَتَّى يَقْدُمَ عَلَيْكَ مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْكَ وَاَلسَّلاَمُ»، ثُمَّ دَفَعَ اَلرُّقْعَةَ إِلَيَّ، فَوَ اَللَّهِ مَا خَتَمَهَا بَطِينٍ، وَلاَ خَزَنَهَا، فَجِئْتُ بِالرُّقْعَةِ إِلَى صَاحِبِهِ فَانْصَرَفَ عَنَّا مَعْزُولاً)[19] .

إنّ أهم ما يجب أن نقتبسه من سيرة علي في إحيائنا لذكراه، هو أن نُعزّز مناعتنا النفسية تجاه الظلم، وأن نحصّن سلوكنا من الانزلاق إلى ظلم الآخرين.

ﺍﻟﻠﻬﻢ صلِّ على محمد وآل محمد، اللهم أَسْأَلُكَ فِي مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدِي، فَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبِيدِكَ، أَوْ أَمَة مِنْ إمآئِكَ كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلَمَةٌ ظَلَمْتُها إيَّاهُ، وقَصُرَتْ يَدِي، وَضاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّها إلَيْهِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهُ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِما شِئْتَ، وَتَهَبَ لِي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

 

خطبة الجمعة 14رجب 1445هـ الموافق 26 يناير 2024م

[1]  نهج البلاغة، خطبة: 224..
[2]  الدكتور جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1، ص44.
[3]  نهج البلاغة، وصية: 31.
[4]  السيد محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، ج10، ص141.
[5]  عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي: غرر الحكم ودرر الكلم، ص47.
[6]  علي بن محمد الليثي الواسطي: عيون الحكم والمواعظ، ص97.
[7]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص90.
[8]  نهج البلاغة، (من عهد له كتبه للأشتر النخعي) كتاب: 53.
[9]  الشيخ محمد باقر المجلسي: بحار الأنوار، ج71، ص165. (دار إحياء التراث، ط2، 1403هـ)
[10]  ابن شعبة الحرّاني: تحف العقول، ص68.
[11]  الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: الكافي، ج2، ص331. (دار الأضواء، 1405هـ)
[12]  بحار الأنوار، ج75، ص81.
[13]  نهج البلاغة، خطبة: 224.
[14]  المصدر السابق، خطبة: 126.
[15]  المصدر السابق، خطبة: 126.
[16]  المصدر السابق، كتاب: 29.
[17]  بحار الأنوار، ج41، ص203.
[18]  المصدر السابق، ج41، ص57.
[19]  المصدر السابق، ج41، ص119.