أدبُ المناجاة في أدعية الإمام زين العابدين

 

جاء في دعاء للإمام زين العابدين علي بن الحسين : «وَزَيِّنْ لِيَ التَّفَرُّدَ بِمُنَاجَاتِكَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهَبْ لِي عِصْمَةً تُدْنِينِي مِنْ خَشْيَتِكَ، وَتَقْطَعُنِي عَنْ رُكُوبِ مَحَارِمكَ»[1] .

المناجاة من النجوى، وهي المكالمة سرًّا بعيدًا عن أسماع الآخرين.

وعادة لا يبوح الإنسان بأسراره ومشاعره الداخلية إلّا لمن يثق به ويعتمد عليه، فيتحدّث له عمّا يدور في نفسه، بينه وبينه، همسًا أو بصوت خافت لا يسمعه الآخرون، وهو ما يطلق عليه نجوى ومناجاة.

وقد تكون المناجاة لتبادل مشاعر الحبّ والودّ، حيث يبتهج الإنسان بمحادثة من يحبّه، كما قد يكون غرضها كسب التعاطف والدعم، وتنفيس الاحتقان والضغوط النفسية، بالإفصاح عن المعاناة.

في العلاقة مع الله

وقد اعتمد أولياء الله هذه الطريقة والأسلوب في علاقتهم مع الله تعالى. حيث يخصّصون وقتًا يختلون فيه بأنفسهم، بعيدًا عن الناس، وعن انشغالات الحياة واهتماماتها، للإقبال على الله تعالى، والتحدّث إليه بشوقٍ وثقةٍ وإخلاصٍ وخضوعٍ، عمًا يختلج في صدورهم، وما يدور في مشاعرهم تجاه ربهم، وعمّا يعانونه في هذه الحياة، وما يتطلّعون إليه من فضل الله ورحمته وعفوه ورضاه.

إنّ الله سبحانه وتعالى عند الأولياء العارفين ليس مجرّد فكرة يعتقدون ويؤمنون بها في أذهانهم وعقولهم، بل هو حقيقة حاضرة في وجودهم ووعيهم، وأمام بصيرتهم، يعيشون بمحضره وذكره كلّ لحظةٍ وآنٍ.

وإذا كانت الأبصار قاصرة عن إدراكه، حيث ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لكنّهم يدركونه بقلوبهم وبصيرتهم.

وكما ورد عن رسول الله : «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ»[2] .

وحين سأل ذِعْلِبٌ اليماني الإمام عليًا : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟

أجابه : «أَفأَعْبُدُ مَا لا أَرَى؟»

قال: وكيف تراه؟

قال: «لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ، وَلكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ»[3] .

وجاء في دعاء الإمام الحسين يوم عرفة: «اللَّهُمَّ اجعَلني أخشَاكَ كأنِّي أرَاك»[4] .

فالأولياء في مناجاتهم يتحدّثون إلى من يراهم ويسمعهم، ويجدون أنفسهم في محضره كأنّهم يرونه ويسمعونه، ببصيرة قلوبهم لا بجوارحهم.

مناجيات زين العابدين

وفي طليعة الأولياء المداومين على مناجاة الله، إمامنا زين العابدين علي بن الحسين ، حيث تناقلت الأجيال المؤمنة روائع من تراثه الروحي في الدعاء والمناجاة، ضمن الصحيفة السجادية، وما ورد في سائر المصادر.

وحين نتأمل في أدعية الإمام ومناجياته، نجدها مدرسة روحية تربوية أخلاقية متميزة، ويمكننا الحديث عن بعض ملامح هذه المدرسة من خلال بعض النماذج والشواهد.

ترسيخ محبة الله

أولًا: ترسيخ محبة الله، والتذكير بنعمه وقدرته، وعظيم صفاته.

إنّ الإنسان قد ينشغل قلبه بحب من حوله وما حوله، كما يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [سورة آل عمران، الآية: 14] وقد يغفل الإنسان عن نعم الله السابغة عليه، وعن عظيم قدرة الله وصفاته، فيحتاج إلى التنبيه والتذكير.

وهذا ما نجده كثيرًا في أدعية الإمام زين العابدين ومناجياته.

ورد عنه في إحدى مناجياته: «وَفَرِّغْ قَلْبِي لِمَحَبَّتِكَ، وَاشْغَلْهُ بِذِكْرِكَ، وَانْعَشْهُ بِخَوْفِكَ وَبِالْوَجَلِ مِنْكَ، وَقَوِّهِ بِالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ، وَأَمِلْهُ إِلَى طَاعَتِكَ، وَأَجْرِ بِهِ فِي أَحَبِّ السُّبُلِ إِلَيْكَ، وَذَلِّلْهُ بِالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَكَ أَيَّامَ حَيَاتِي كُلِّهَا»[5] .

المراجعة ومحاسبة الذات

ثانيًا: محاسبة الذات أمام الله، والاعتراف بالنقص والتقصير والذنب.

ما أحوج الإنسان لوقفات المراجعة والمحاسبة لذاته، حتى لا يظل مسترسلًا في الغفلة، ومستمرًا على الخطأ، والمناجاة تمثل أفضل فرصة يفتح الإنسان فيها ملفات شخصيته وسيرته بين يدي خالقه، ليستعين به على اتخاذ قرارات التوبة والتغيير.

ورد عنه في إحدى مناجياته: «إِلَهِي لَمْ أَعْصِكَ حِينَ عَصَيْتُكَ وَأَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جَاحِدٌ وَلَا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ وَلَا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلَا لِوَعِيدِكَ مُتَهَاوِنٌ وَلَكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعَانَنِي عَلَيْهَا شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ اَلْمُرْخَى عَلَيَّ فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخَالَفْتُكَ بِجُهْدِي فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي، وَمِنْ أَيْدِي اَلْخُصَمَاءِ غَدًا مَنْ يُخَلِّصُنِي، وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ أَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي فَوَاسَوْأَتَاهْ عَلَى مَا أَحْصَى كِتَابُكَ مِنْ عَمَلِي»[6] .

حوار ومرافعة للنجاة والخلاص

ثالثًا: الدخول في حوار مع الله تعالى، وتقديم مرافعات للنجاة والخلاص من النار والعذاب، ومطالبته تعالى بما تقتضيه سعة رحمته، وعظيم عفوه وفضله.

ونجد في مناجيات الإمام زين العابدين ، أروع المضامين لمشاهد من مرافعات الرجاء والحوار الصريح مع الله سبحانه، بعد الإقرار له بالخطايا والذنوب الموجبة لعقابه وعذابه.

ورد عنه في إحدى مناجياته: «إِلَهِي وَسَيِّدِي، وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ، لَئِنْ طَالَبْتَنِي بِذُنُوبِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ، وَلَئِنْ طَالَبْتَنِي بِلُؤْمِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِكَرَمِكَ، وَلَئِنْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ بِحُبِّي لَكَ، إِلَهِي وَسَيِّدِي، إِنْ كُنْتَ لَا تَغْفِرُ إِلَّا لِأَوْلِيَائِكَ، وَأَهْلِ طَاعَتِكَ، فَإِلَى مَنْ يَفْزَعُ الْمُذْنِبُونَ؟ وَإِنْ كُنْتَ لَا تُكَرِّمُ إِلَّا أَهْلَ الْوَفَاءِ بِكَ فَبِمَنْ يَسْتَغِيثُ الْمُسِيئُونَ؟».

«اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَ فِي كِتَابِكَ أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنَا وَقَدْ ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا فَاعْفُ عَنَّا فَإِنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَّا وَأَمَرْتَنَا أَنْ لَا نَرُدَّ سَائِلًا عَنْ أَبْوَابِنَا وَقَدْ جِئْتُكَ سَائِلًا فَلَا تَرُدَّنِي إِلَّا بِقَضَاءِ حَاجَتِي وَأَمَرْتَنَا بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا وَنَحْنُ أَرِقَّاؤُكَ فَأَعْتِقْ رِقَابَنَا مِنَ النَّارِ»[7] .

وفي مناجيات أخرى: «اللَّهُمَّ مَن أنا حَتّى‏ تَغضَبَ عَلَيَّ، فَوَعِزَّتِكَ ما يُزَيِّنُ مُلكَكَ إحساني، ولا يُقَبِّحُهُ إساءَتي، ولا يَنقُصُ مِن خِزانَتِكَ غِنايَ، ولا يَزيدُ فيها فَقري»[8] .

إقرار بالعجز لاستلهام القوة

رابعًا: الإقرار بالعجز والضعف بين يدي الله تعالى، وتجاه التحدّيات، وعناء الدنيا والآخرة.

ما أكثر التحدّيات والأخطار التي يواجهها الإنسان في هذه الحياة، وما أخطر ما ينتظره في الآخرة من حساب شديد، ولا قدرة ولا طاقة للإنسان على مواجهة هذه التحدّيات والأخطار، إلّا بعون من الله، وسعة فضله ورحمته.

جاء في إحدى مناجياته : «قَدْ نَزَلَ بِي يَا رَبِّ مَا قَدْ تَكَأدَنِي ثِقْلُهُ، وَأَلَمَّ بِي مَا قَدْ بَهَظَنِي حَمْلُهُ. وَبِقُدْرَتِكَ أَوْرَدْتَهُ عَلَيَّ وَبِسُلْطَانِكَ وَجَّهْتَهُ إِلَيَّ. فَلَا مُصْدِرَ لِمَا أَوْرَدْتَ، وَلَا صَارِفَ لِمَا وَجَّهْتَ، وَلَا فَاتِحَ لِمَا أَغْلَقْتَ، وَلَا مُغْلِقَ لِمَا فَتَحْتَ، وَلَا مُيَسِّرَ لِمَا عَسَّرْتَ، وَلَا نَاصِرَ لِمَنْ خَذَلْتَ. فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَافْتَحْ لِي يَا رَبِّ بَابَ الْفَرَجِ بِطَوْلِكَ، وَاكْسِرْ عَنِّي سُلْطَانَ الْهَمِّ بِحَوْلِكَ».

«فَقَدْ ضِقْتُ لِمَا نَزَلَ بِي يَا رَبِّ ذَرْعًا، وَامْتَلَأْتُ بِحَمْلِ مَا حَدَثَ عَلَيَّ هَمًّا، وَأَنْتَ الْقَادِرُ عَلَى كَشْفِ مَا مُنِيتُ بِهِ، وَدَفْعِ مَا وَقَعْتُ فِيهِ، فَافْعَلْ بِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ أَسْتَوْجِبْهُ مِنْكَ، يَا ذَا الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»[9] .

وفي مناجاة أخرى عنه : «إِلَهِي ارْحَمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غُرْبَتِي، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كُرْبَتِي وَفِي الْقَبْرِ وَحْدَتِي وَفِي اللَّحْدِ وَحْشَتِي وَإِذَا نُشِرْتُ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيْكَ ذُلَّ مَوْقِفِي فَاغْفِرْ لِي مَا خَفِيَ عَلَى الْآدَمِيِّينَ مِنْ عَمَلِي وَأَدِمْ لِي مَا بِهِ سَتَرْتَنِي»[10] .

هل نحظى بشرف المناجاة؟

ونحن نعيش ذكرى وفاة الإمام زين العابدين ، فإنّ علينا أن نسعى للتأسّي به، والاستضاءة بنهجه، بأن نهتم بالعلاقة مع الله تعالى، والإقبال عليه، وأن نخلوَ بأنفسنا بعض الأوقات والساعات لمراجعة أنفسنا ومحاسبتها، وللحديث مع الله تعالى بشوق وإخلاص وخضوع.

إنّ الإمام يحفّزنا لمناجاة الله تعالى، فقد ورد عنه : «اَللَّهُمَّ اِحْمِلْنَا فِي سُفُنِ نَجَاتِكَ، وَمَتِّعْنَا بِلَذِيذِ مُنَاجَاتِكَ»[11] .

وفي دعائه يوم عرفة: «وَزَيِّنَ لِيَ التَّفَرُّدَ بِمُنَاجَاتِكَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»[12] .

إننا نصرف وقتًا في الجلوس مع عوائلنا وأصدقائنا، أفلا نجلس ساعة مع أنفسنا، وبمحضر ربنا سبحانه؟

ورد عن الإمام محمد الباقر : «تَعَرَّضْ للرّحمَةِ وعَفوِ اللّه ِ بحُسنِ المُراجَعَةِ، واستَعِنْ على حُسنِ المُراجَعَةِ بخالِصِ الدعاءِ والمُناجاةِ في الظُّلَمِ»[13] .

إنّ مناجاة الله تعالى، تعيد التوازن لنفس الإنسان، وتُلهمُه الثقة والاطمئنان، وتُربّيه على المراجعة والمحاسبة لذاته.

 

خطبة الجمعة 27 محرم 1446هـ الموافق 2 أغسطس 2024م

[1]  الصحيفة السجادية، دعاؤه في يوم عرفة، رقم 47.
[2]  صحيح البخاري، ح50.
[3]  نهج البلاغة، خطبة: 179.
[4]  الشيخ إبراهيم الكفعمي: البلد الأمين والدرع الحسين، ص251، دعاء الإمام الحسين يوم عرفة.
[5]  الصحيفة السجادية، دعاء رقم: 21.
[6]  الشيخ الطوسي: مصباح المتهجد، ص582- 604، دعاء السحر في شهر رمضان.
[7]  المصدر السابق.
[8]  بحار الأنوار، ج46، ص101.
[9]  الصحيفة السجادية، دعاء رقم: 7.
[10]  مصباح المتهجد، دعاء السحر في شهر رمضان.
[11]  مفاتيح الجنان، ص184.
[12]  الصحيفة السجادية، دعائه في يوم عرفة، رقم 47.
[13]  بحار الأنوار، ج75، ص164.