ثقافة التفاهم

 

﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 128].

إنّ نسبة كبيرة من المشاكل والخلافات في العلاقات الأسرية والاجتماعية، تحصل بسبب ضعف ثقافة التفاهم، وعدم التدرب على ممارسته.

إنّ لياقة التفاهم بين أفراد المجتمع في مختلف مجالات علاقاتهم، وبين المكونات والجهات الاجتماعية، تساعد كثيرًا على الارتقاء بمستوى العلاقات البينية، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وتسهم إلى حدٍّ كبير في خفض نسبة المشاكل والخلافات والتوترات بين الناس.

إنّ ممارسة التفاهم تمنع وتقي من حدوث المشكلات، وتساعد على محاصرتها وتجاوزها إن وقعت.

والتفاهم من الفهم، وهو المعرفة الواضحة للأمر، فتقول فهمت كلامك، أي عرفته بوضوح، وأفهمته الأمر، أي عرّفته به وأوضحته له.

والتفاهم يعني الفهم المتبادل بين طرفين، وقد يقصد به الاتفاق، فيقال تفاهمنا على الموضوع أي اتفقنا؛ لأنّ الاتفاق يحصل غالبًا بعد الفهم المتبادل.

فهم الطرف الآخر

إنّ ثقافة التفاهم تعني:

أولًا: تنمية القدرة على فهم الطرف الآخر، الذي تتعامل معه، ماذا يريد؟ وما يقصد بكلامه؟ وما هو مبرر سلوكه؟

حين يعرف الإنسان طبيعة الطرف الآخر يكون أقدر على النجاح في التعامل معه.

وحين يسمع الإنسان من الآخر كلامًا، أو يرى تصرفًا معينًا، فعليه أن يتأكد من مقصده في كلامه وفعله، ولا يتعجل في اتخاذ موقف انفعالي انطلاقًا من سوء الظنّ، أو عدم الوضوح.

وكما قال الشاعر:

تَأَنَّ وَلا تَعجَل بِلَومِكَ صاحِبًا       لَعَلَّ لَهُ عُذرًا وَأَنتَ تَلومُ

إنّ كثيرًا من المشاكل تحصل بسبب سوء فهم لكلمة أو فعل صدر من الآخر.

لذلك يؤكد الدين على اجتناب سوء الظنّ، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12].

وورد عن أمير المؤمنين علي : «اُطْلُبْ لِأَخِيكَ عُذْرًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرًا فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا»[1] .

وعنه : «لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سَوءًا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلا»[2] .

وعنه : «أَعْقَلُ اَلنَّاسِ أَعْذَرُهُمْ لِلنَّاسِ»[3] .

وعنه : «حُسْنُ الظَّنِّ يُخَفِّفُ اَلْهَمَّ، وَيُنْجِي مِنْ تَقَلُّدِ اَلْإِثْمِ»[4] .

الوضوح مع الآخر

ثانيًا: حسن البيان والوضوح في الحديث والتعامل مع الآخر.

إنك إذا لم تبيّن ما تريده بالضبط من كلامك، فقد لا يفهم الآخر قصدك، وقد يفهم منه ما لا تريد.

ورد عن أمير المؤمنين علي : «أحسَنُ الكلامِ ما لا تَمُجُّهُ الآذانُ، ولا يُتعِبُ فَهمُهُ الْأَذْهانَ»[5] .

إنّ البعض لا يهتم بإيضاح مقصده في حديثه، ويتوقع من الآخرين فهم مراده، وذلك ما يسبب حدوث مشكلات في العلاقة والتعامل.

فالغموض، والاختصار المخلّ، والتشفير في الكلام، غالبًا ما ينتج مشكلات وخلافات.

كما أنّ بعض الممارسات والتصرفات قد تحتاج إلى إيضاح وتبرير، حتى لا يفهمها الآخر بشكل سيئ.

مثلًا حين يضطرّ الإنسان لتقصيرٍ ما، فيما يرتبط بعلاقته مع الآخر، فعليه أن يخبره بمبرره في التقصير، حتى يتفهم موقفه. لكنّ البعض يتساهل في ذلك، ولا يكلّف نفسه إخبار الطرف الآخر، مما ينتج عنه مشكلات في العلاقة بين الطرفين.

فإن حصل لك ظرف اقتضى التأخير في عودتك إلى المنزل، أو موعد لقاء، فعليك أن تبادر إلى الإخبار والإبلاغ.

الاعتذار وقبول العذر

ثالثًا: الاعتذار عن الخطأ وقبول اعتذار الطرف الآخر.

إنّ صدور الخطأ وارد من الإنسان في علاقته مع الآخرين، لسبب أو لآخر، لكن عليه أن يبادر للاعتذار، وألّا تأخذه العزة بالإثم، حتى في العلاقة مع أبنائه والعاملين تحت سلطته وإدارته.

ورد عن أمير المؤمنين علي : «أَلَا إِنَّهُ مَنْ يُنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا عِزًّا»[6] .

وعنه : «حُسْنُ اَلاِعْتِرَافِ يَهْدِمُ اَلاِقْتِرَافَ»[7] .

وعلى الإنسان أن يقبل اعتذار الآخرين حين يصدر منهم خطأ تجاهه، جاء في حديث عن رسول الله : «يَا عَلِيُّ؛ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْعُذْرَ مِنْ مُتَنَصِّلٍ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي»[8] .

وورد عن الإمام علي : «اِقْبَلْ أَعْذَارَ اَلنَّاسِ تَسْتَمْتِعْ بِإِخَائِهِمْ»[9] .

التنازلات المتبادلة

رابعًا: البحث عن الحلول وتقديم التنازلات المتبادلة.

إنّ وجود أي مشكلة في علاقات الإنسان الأسرية والاجتماعية، تسبب له أذىً نفسيًّا، وقد ينتج عنها ضرر لمصالحه الحياتية.

وعلى الإنسان أن يحرص على عدم الوقوع في أيّ مشكلة أو خلاف، وإذا وقع في مشكلة مع أحدٍ فعليه أن يسعى لمعالجتها والخروج منها.

وذلك ما يستلزم وجود الاستعداد لتقديم التنازلات المتبادلة، فإنّ مكاسب الخروج من المشكلة أكبر بكثير من أيّ خسارة في التنازل.

لذلك يقول تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 128].

الصلح خير في حدّ ذاته، فهو يريح النفس من عناء وجود المشكلة، وما تسببه من ضغط على أعصاب الإنسان، وهو توفير للجهود التي تستهلكها حالة الخصومة والعداوة، وتنقية لأجواء المحيط الاجتماعي من التوترات والتشنجات، وهو سبب لنيل الأجر والثواب من الله تعالى.

لكنّ المشكلة غالبًا ما تكمن في حالة الحرص ﴿الشُّحَّ الحاضرة في نفس الإنسان، التي تمنعه من تقديم التنازلات، لذلك تدفع الآية الكريمة إلى التحفيز على الإحسان، وهو يعني العطاء للآخر ﴿وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا. والإحسان درجة متقدّمة على العدل، فالعدل إيتاء الحقوق لأصحابها، بينما الإحسان هو عطاء من حصتك وحقّك.

 

خطبة الجمعة 26 صفر ١٤٤٦هـ الموافق 30 أغسطس ٢٠٢٤م.

[1]  الشيخ الصدوق: الخصال، ج2، ص622.
[2]  نهج البلاغة، حكم: 360.
[3]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص192.
[4]  المصدر السابق، ص344.
[5]  عيون الحكم والمواعظ، ص126.
[6]  الكافي، ج2، ص144، ح4.
[7]  الشيخ المفيد: الإرشاد، ج1، ص299.
[8]  الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج4، ص353، ح5762.
[9]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص143.