العقيدة الصحيحة و الإنجاز الحضاري

بسم الله الرحمن الرحيم


قال الله العظيم: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى صدق الله العلي العظيم. (النجم، 39 - 41).

حديثنا في هذه الليلة بعون الله تعالى تحت عنوان: العقيدة الصحيحة والإنجاز الحضاري.
ويشتمل على محورين:

المحور الأول: بين العقيدة و واقع الحياة.

المحور الثاني: نحو فاعلية حضارية.


المحور الأول: بين العقيدة و واقع الحياة.


المؤمن يفتخر ويعتز بإيمانه ويعتبر الإيمان نعمة كبرى في هذه الحياة، وحق له أن يعتز بذلك. ولهذا نحن نقرأ: الحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أن يهتدي الإنسان إلى الإيمان بربه وخالقه، وأن يهتدي للإيمان بالرسول الذي بعثه الله سبحانه وتعالى للعالمين، وكذلك بالنسبة لنا الاهتداء للإيمان بولاية أميرا لمؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). هذه نعمة كبرى نعتز بها ونفتخر بها ونحمد الله سبحانه وتعالى أن شرفنا ومنحنا هذه النعمة، وله المن علينا بذلك: ﴿ قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ (الحجرات، 17).

نحن نرى كيف أن هناك مجاميع كثيرة وكبيرة من البشر لا تعرف خالقها، أو أنها تشرك بالله تعالى، أو أنها تسير في الطريق الخطأ من الناحية الدينية، بينما نحن -والحمد لله- نتمتع بالإيمان الصحيح وبالعقيدة الصحيحة السليمة.

إذن فنحن في نعمة كبيرة، نحمد الله سبحانه وتعالى عليها، ونسأل الله أن يثيبنا على ذلك، ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه: ما هي العلاقة بين العقيدة وواقع الحياة؟ هل أن نعمة العقيدة مجرد لذة روحية نعيشها، نظرية فكرية نعتنقها؛ أم أن لها انعكاساً وأثراً على حياتنا، وعلى معيشتنا؟ البعض قد يتصور أن أثر العقيدة والإيمان إنما هو مرجو في الآخرة، فنحن باعتناقنا لهذه العقيدة الصحيحة، وبإيماننا بهذا الدين القويم، إنما نأمل ونرجو أن نستفيد من هذه العقيدة وهذا الإيمان في الآخرة، حيث أن الله تعالى سيمنحنا الجنة –إن شاء الله- ويشملنا بعفوه ورحمته ورضوانه. ولكن هل صحيح أن الإيمان نتيجته وأثره في الآخرة فقط، وليس له انعكاس على حياة الإنسان في الدنيا؟!!

إننا حينما نقرأ النصوص الدينية نجد بوضوح أنها تشير إلى أن العقيدة الصحيحة وأن الإيمان الصحيح له انعكاساته على حياة الإنسان، في دنيا الإنسان، حيث تكون دنياه سليمة وصحيحة، حياته تكون متقدمة وسعيدة، الله تعالى يقول: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (الحديد، 25). فهذه الرسالات الإلهية لم تأت من أجل أن تصنع للإنسان السعادة في الآخرة فقط! وإنما من أجل أن تبني له حياة قائمة على القسط، على العدل: ﴿ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .

والقرآن الكريم أيضاً في آيات أخرى يوجه المؤمن أن يدعوا الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (البقرة، 201). إذن المسألة ليست فقط في الآخرة، أولاً في الدنيا: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً . ويقول تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل، 97). الإنسان المؤمن يعيش حياة طيبة ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً . وفي آية أخرى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال، 24)، لما يرتبط بحياتكم.

إذن آثار العقيدة الصحيحة ليست في الآخرة فقط، وليست مجرد لذة روحية نتمتع بها، ولا نظرية فكرية تعيش في أذهاننا وعقولنا، وإنما يجب أن تنعكس العقيدة الصحيحة على واقع حياتنا. ينبغي أن تهدينا إلى حياة صحيحة، تهدينا إلى سلوك صحيح، تصنع لنا واقعاً سعيداً.

وهذا ما رأيناه قد تحقق في حياة المسلمين في العهود السابقة، رأينا كيف أن المسلمين بفضل الإسلام قد صنعوا حضارة إسلامية رائدة متقدمة متفوقة على كل الحضارات، وعلى كل الأوضاع التي كانت معاشة في تلك العصور، وبالتالي كان يصدق عليهم قول الله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران، 110)، كانوا خير أمة في واقع حياتهم. بينما كانت أوربا تغرق في ظلام العصور الوسطى، كانت تعيش واقع التخلف. كل الحضارات، كل الأمم التي كانت آنذاك كانت تعيش واقعاً متخلفاً، كانت تعيش واقعاً سيئاً؛ فالروم كان واقعهم متخلفاً، والفرس كان واقعهم متخلفاً أيضاً؛ في ذلك الوقت استطاع الإسلام أن يبني أمةً متقدمة، استطاع أن يصنع حضارة متفوقة. ولذلك يتحدث المنصفون -حتى من الغربيين- عن أثر الحضارة الإسلامية في النهضة الغربية الأوربية الحديثة، إذ أن أوربا استفادت من انعكاسات الحضارة الإسلامية، وبالفعل كثير من العلوم الحديثة: علم الكيمياء، وعلم الطب، وعلم الرياضيات، وعلم الفلك، وضع علماء المسلمين أسسها في العصور الماضية؛ وجاء الأوربيون واستوعبوا ما وضعه علماء المسلمين وطوروا ذلك وتقدموا وصنعوا هذه النهضة وهذا التقدم الغربي الحديث المعاش.

إذن الإيمان والعقيدة الصحيحة ينبغي أن تصنع أيضا واقعاً سليماً وصحيحاً. ولكننا حينما نتأمل واقع المسلمين نجد الأمر على العكس من ذلك تماماً، وخاصة في هذه العصور والعهود. المسلمون يتغنون بعقيدتهم، ويفتخرون بدينهم وإيمانهم وعقيدتهم، ولكن الواقع الذي يعيشونه واقعاً متخلفاً. الأمم الأخرى تعيش واقعاً أفضل، تعيش واقعاً متقدماً، ولا قياس بين الواقع الذي نعيشه نحن المسلمون وبين الواقع الذي تعيشه الأمم الأخرى.

نجد كثيراً من التركيز على مسألة العقيدة وعلى مسألة الدين عند المسلمين، وخاصة عند بعض التوجهات، ونشير هنا إلى نموذجين:

النموذج الأول: نموذج عندنا نحن الشيعة.

نحن والحمد الله لدينا حالة من الاعتزاز والافتخار بولائنا لأهل البيت (صلوات الله وسلامهم عليهم)، وكل إنسان شيعي يجد في نفسه هذا الاعتزاز، يجد في نفسه هذا الزهو، بأنه تابع لأهل البيت. وهذا شعور داخلي وقناعة عندنا، ومنعكس على هدفنا وثقافتنا، وعلى تعاطينا وتعاملنا. ومن يسمع، خاصة أيام عاشوراء، خطاباتنا، أشعارنا، النصوص والروايات الواردة عندنا، كيف أن الإنسان الشيعي يشعر بافتخار وباعتزاز لأنه يوالي آل بيت رسول الله (صلوات الله وسلامه عليهم)، وفي بعض الأحيان البعض من الشيعة يغالي ويبالغ بحيث يعتبر أن نفس العقيدة هي بديل عن العمل، فباعتباري موالياً لأهل البيت، ومحباً لهم، فإذن عملت أو لم أعمل، تحركت أو لم أتحرك، أنا على خير، وآخرتي مضمونة، وبشفاعة أهل البيت (عليهم السلام) سأدخل الجنة يوم القيامة. البعض من الشيعة لديهم مثل هذه الآراء، مثل هذه الانطباعات، مثل هذه التصورات، ولكن: هل صحيح أن العقيدة بديل عن العمل؟ بمجرد أن أعتقد، وبمجرد أن يكون عندي ولاء، أعفى من العمل بسبب عقيدتي، القرآن الكريم يخالف هذا الأمر، يخالف هذا الرأي، ففي سبعين آية يتحدث عن الإيمان ويرفقه بالعمل الصالح، ومن ذلك قوله تعالى في سورة العصر: ﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، يجب أن يكون هناك عمل إلى جانب الإيمان.

إذن مجرد الإيمان لا يكفي للنجاح، الإنسان الذي يؤمن، يحمل العقيدة، يحمل الولاء لأهل البيت، لكنه لا يملك عملاً صالحاً، بالمفهوم الشامل للصلاح، فقد خسر كما تقرر ذلك سورة العصر. وكذلك قوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فالحياة الطيبة لمن يعمل الصالحات، وما سواه حياتهم غير طيبة. الولاء لأهل البيت، حب أهل البيت وحده لا يجدي ولا يكفي إذا لم يقترن بالالتزام والعمل الصالح، إذا لم يقترن بالاتزام بمنهج أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم). ولذلك يقول الإمام جعفر الصادق في آخر لحظة من لحظات حياته: ((أبلغوا شيعتنا لا تذهب بكم المذاهب فو الله إنا لا نغني عنكم من الله شيئاً إلا بالعمل الصالح)).

إذن محبة أهل البيت (عليهم السلام) وحدها لا تكفي، بل إذا لم تقترن بالعمل الصالح تكون محبة غير صادقة، لأن الحب الصادق لأهل البيت يدفع المحب للاقتداء بهم، فإذا لم يقتد بأهل البيت هذا دليل على أن حبه ليس حباً صادقاً. والعجيب أنك تجد أحد الشعراء من أجل أن يبرز لنا قيمة حب الإمام علي يقول هذا البيت من الشعر:

سودت صحيفة أعمالي ووكلت الأمر إلى حيدر

وهذا المعنى ليس صحيحاً، لأن الموالي لعلي ينبغي أن يجتهد في أن تكون صحيفة أعماله بيضاء ناصعة نقية، لأن مجرد الحب لا يكفي، وإلا فإن كل من اطلع على حياة أهل البيت ورأى إنجازاتهم العلمية والاجتماعية وأخلاقهم لا بد وأن يمتلئ قلبه إعجابا بأهل البيت (عليهم السلام). وهذا الشاعر المسيحي بولس سلامة، ينشئ ملحمته (ملحمة عيد الغدير) التي يبدؤها بقوله:

جلجل الحب في المسيحي حتى عد من فرط حبه علويا
لا تقل شيعة هواة عليٍّ إن في كلِّ منصفٍ شيعيا
يا سماء اشهدي ويا أرض قري واخشعي إنني ذكرت عليا

فهذا إنسان مسيحي ومع ذلك لديه هذا الحب، وهذا الإعجاب والتفاعل العاطفي مع أهل البيت.

وأيضا لا يكفي كوننا نبكي على أهل البيت (عليهم السلام) ونتألم على مصائبهم؛ لأن أي إنسان يطلع على عمق مأساة أهل البيت لا يستطيع أن يحبس مشاعره وأن يمنع دموعه من الانهمار؛ حتى أعداء أهل البيت بكوا عليهم، فقد رأى البعض عمر بن سعد ظهر العاشر من المحرم وقد سالت دموعه حتى غمرت لحيته. إذن مجرد الحب لأهل البيت والتفاعل العاطفي مع أهل البيت لا يكفي؛ وإنما الولاء لأهل البيت يجب أن يقترن بالعمل طبقاً لمنهج أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما تشير إليه الأحاديث الواردة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذ يقول: ((ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه)). فالإمام يؤكد على الاقتداء المقترن بالحب والولاء.

النموذج الثاني: عند إخواننا أهل السنة.

من ناحية ثانية نجد أن فئات من إخواننا أهل السنة، وخاصة عند الإخوة السلفيين، عندهم تركيز كثير على مسألة العقيدة الصحيحة، وصحة العقيدة، وهم يتباهون بأن العقيدة التي يؤمنون بها عقيدة صحيحة، ويعتبرون العقيدة الصحيحة أهم شيء، وأنهم مهتمون بصحة العقيدة وبالدفاع عن العقيدة.

بغض النظر عن النقاش حول التفاصيل العقدية، نقول لإخواننا السلفيين: العقيدة الصحيحة التي تفتخرون بها وتعتزون بها وتحملونها في حياتكم ما هو الواقع الذي انبثق من هذه العقيدة الصحيحة؟ نريد أن تقدموا للأمة وللعالم واقعاً نموذجياً، واقعاً صحيحاً سليماً، حتى يكون هذا الواقع شاهداً على سلامة هذه العقيدة وجاذباً لها، وحتى يرى الناس هذا الواقع فينجذبون إليه، ينجذبون إلى العقيدة بفعل هذا الواقع.

مع الأسف، لا نجدهم قد قدموا هذا النموذج، لا نجدهم قد استطاعوا تقديم نموذجاً حضارياً في واقع الأمة المعاصر. ولسنا بصدد الطعن على جهة معينة، ولكننا بصدد الكلام عن النقد الذاتي في واقعنا كمسلمين سنة وشيعة، سلفيين وغير سلفيين. إذا كانت هذه العقيدة صحيحة ما تجلياتها الخارجية؟ لقد استطاعت فئة في أفغانستان هي: طالبان أن تسيطر على الحكم وأتيحت لها الفرصة، فما النموذج الذي رسمته طالبان في أفغانستان؟ هل استطاعت أن تقدم نموذجاً مشرقاً يجذب الناس إلى العقيدة الصحيحة؟ أم أ، الوضع على عكس ذلك تماماً. وحتى في المناطق الأخرى، ولا نريد أن نسمي أو نتحدث بوضوح، ما هو النموذج الذي قدمه هؤلاء، وهم يتباهون بالعقيدة الصحيحة على مستوى التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ هل قدموا للعالم نموذجاً مشرقاً؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كمسلمين شيعة أو سنة سلفيين أو غير سلفيين. ما هو الواقع الخارجي الذي نعيشه؟

نحن إذا لم نصنع واقعاً سليماً، كيف نقنع أبناءنا وأجيالنا بهذه العقيدة؟ أبناؤنا ينفتحون على العالم، فيجدون هذا التطور الموجود في العالم، ثم يسمعون منا ونحن نقول لهم: يا أولادنا أهم نعمة عندكم هذه العقيدة، أهم نعمة عندكم الإيمان الصحيح. ولكن ماذا عن واقعهم المعاش؟ إذا صدموا بالواقع المتخلف المر فهذا سوف يهز عقيدتهم، سيهز قناعتهم. وهذا ما حدث ويحدث، كما أننا حين نبشر في العالم وندعوا الناس إلى الإسلام ونتحدث عن الإسلام، فأي نموذج تقدمه لهم؟ الشعوب الأخرى إذا رأت واقع المسلمين المتخلف والمتأخر، هل هذا الواقع يشكل دعاية سليمة للإسلام؟ كلا! إن هذا الواقع يشوه الإسلام. لذلك ينبغي أن نهتم بانعكاسات عقيدتنا على الواقع الخارجي.

أتذكر أيام حرب الخليج الثانية حينما جاءت القوات الأجنبية إلى الخليج والجزيرة العربية من أجل دحر الاحتلال العراقي أيام نظام صدام للكويت، حيث أن كثيراً من الأحداث كانت تنقل إعلامياً وصحفياً، وفيها الكثير من الأشياء المعبرة: أحد العلماء كان يتحدث تجاه الذين ينتقدون مجيء القوات الأجنبية، ولسنا بصدد الحديث عن مجيء القوات فهي قضية انتهت، لكن هذا العالم كان يقول: يجب أن نحمد الله تعالى لأن الله قد سخر لنا هؤلاء الأمريكيين ليدافعوا عنا. ولكن هذا لكلام مضحك، هل أن الأمريكيين سخروا لنا، أم نحن سخرنا لهم! نحن نقع تحت هيمنتهم، هم جاؤوا من أجل مصالحهم، فهم ليسوا مسخرون لنا، نحن أصبحنا مسخرين لهم بشكل أو بآخر.

قصة أخرى تنقلها الصحف أن مجندة أمركيية كانت ضمن الجنود الأمريكيين التي كانت في الخليج، بالطبع كانت سافرة. في يوم من الأيام، رآها أحد شيوخ الدين وهو بلحيته وزيه الديني يلتفت إليها يعظها وينصحها: ألا تخجلين؟ ألا تستحين؟ في بلاد المسلمين وتكونين سافرة، فردت عليه: أنت ألا تستحي أنك تحتاج إلى امرأة أمريكية تأتي للدفاع عنك هنا وفي بلادك!

فالواقع الذي تعيشه الأمة ويعيشه المسلمون واقعاً متخلفاً، واقعاً مراً، في مختلف المجالات، لم نستطع أن ننجز أي تقدم حضاري. لماذا نحتاج إلى الآخرين في كل شيء؟ وإذا ما قررت تلك الدول أن تقطع عنا بعض إنتاجها، بعض بضائعها، بعض مصنوعاتها، حياتنا تتحول إلى جحيم، حينما يفرضون الحصار على بلد من البلدان العربية أو الإسلامية، ترى كيف تكون حياتهم، نحن في حاجة إليهم في كل شي، نحن نعيش على فتات موائد صناعتهم وإنتاجهم هم يتقدمون ويتفوقون، ونحن ماهو إنجازنا؟ ماهو إنتاجنا الحضاري؟

يكفي أن نشير إلى بعض الأرقام وبعض الإحصائيات، تقول إحدى الإحصائيات: أن الباحثين المشتغلين بالبحث العلمي في العالم العربي كله يصل عددهم إلى (8000) باحث، ولكن في أمريكا فقط (400000) باحث، وفي إسرائيل (40000) باحث. من ناحية أخرى يصرف من الناتج القومي في بلاد العربية على الجهات العلمية بمقدار ربع واحد في المئة من الإنتاج القومي كله، بينما في الدول المتقدمة والصناعية من ثلاثة إلى أربعة في المئة من إنتاجهم القومي.

في كل يوم نسمع أخبار مذهلة عن التقدم العلمي، قبل يومين قرأت في إحدى الجرائد عن أسرع حاسوب تستخدمه اليابان الآن في مركز الأبحاث الأرضية، كلف إنشاؤه (250) مليون دولار. ويجري هذا الحاسوب (36) ترليون عملية في الثانية الواحدة. ونحن في المقابل ماذا نعمل على مستوى الكمبيوتر، على مستوى غزو الفضاء؟ أنتم تسمعون كل يوم عما يصنعون من تقدم: المركبات التي بعثها الأمريكيون إلى المريخ قبل شهر، وتسمعون عن محاولاتهم لعلاج الإيدز، وعن إنتاجهم في مختلف المجالات وعلى مختلف الأصعدة.

أين نحن من هذا كله؟ أيكفي أن نتغنى بالعقيدة الصحيحة والولاء؟ الإيمان والولاء شيء حسن، ولكن أين ناتجه على الأرض؟ ما هو واقع حياتنا وكيف نعيش؟ وهنا يجب أن نجعل نصب أعيننا الحديث المروي عن رسول الله إذ يقول: ((من لا معاش له لا معاد له))، وفي حديث آخر:
((من كان عن دنياه عاجزاً فهو عن آخرة أعجز)). الإسلام ما جاء ليربي مجموعة من الكسالى، أمة من المتخلفين، لا يمكلكون سوى التسبيح وفقط. جاء الإسلام ليبني أمة تكون خير أمة أخرجت للناس ﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، أعلى من بقية الأمم.

ينقل عن الحسين البصري هذه الكلمة يقول: أنزل الله القرآن الكريم للعمل فاتخذ الناس قراءته عمل. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في آخر وصية له يقول في إحدى فقراتها: ((الله الله في القرآن لا يسبقكم إلى العمل به غيركم)) كيف يكون غير المسلمين أسبق من المسلمين إلى العمل بالقرآن؟ ليس المعنى السبق إلى العمل بآية الوضوء والتيمم والصلاة والصوم، ولست هنا في مقام الإسخفاف بهذه الأمور ولكن لبيان المعنى، فهم لا يسبقون المسلمين بالعمل بهذه الآيات وإنما يسبقونهم بالعمل بآيات أخرى يكون لها أكبر الأثر على الواقع الخارجي، كقوله تعالى: ﴿قل انظروا ماذا في السماوات والأرض أليست هذه آية في القرآن؟ من طبقها نحن أم هم؟ بالتأكيد هم. وقوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم، هم سبقوا المسلمين للعمل بها. وقوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم بالعدل والإحسان هم أقرب إلى العدل في مجمعاتهم من مجتمعاتنا! فهذا هو معنى أنهم سبقونا بتطبيق القرآن الكريم. كل الأشياء الإيجابية في تلك المجتمعات نادى بها القرآن ودعا إليها، ولكن مشكلتنا نحن المسلمين كما حذر القرآن الكريم: ﴿الذين جعلوا القرآن عضين يعني جزؤوه، ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض جزأنا القرآن وأخذنا آيات الأحكام حتى نعمل بها ونعتقد أننا أهل العقيدة السليمة والدين الصحيح، والآخرون كلهم كفار وفي جهنم، ولكننا مشتبهين في ذلك، لأننا نرى حياتنا ليست في مستوى الأمم الأخرى ، ولا نعلم ماذا سيكون وضعنا في الآخرة، نسأل الله أن يتداركنا برحمته إنشاء.

إحصائيات للينيسكو سنة 96م تقول: إن مشاركة المسلمين، وهم أكثر من مليار إنسان في هذا العالم، في البحث العلمي في مختلف فنون العلم والمعرفة، كانت في مستوى (1%) من العالم كله، والمسلمون لا يستغلون إلا حوالي (10%) من أراضيهم الزراعية الصالحة للزراعة، المسلمون لا يستفيدون إلا نسبة (15%) من الأمطار التي تهطل على أراضيهم والباقي يذهب هباء منثوراً، أكثر بلاد المسلمين تعاني من البطالة، في بعض البلدان النفطية نسبة البطالة فيها (30% و 35%) هذا هو الواقع الذي يعيشه؟

المحور الثاني: نحو فاعلية حضارية.


نحن نعلم أن الواقع المتخلف الذي تعيشه الأمة ناتج عن عوامل عديدة: عوامل داخلية، عوامل خارجية، عوامل سياسية، وعوامل اجتماعية. لكننا نريد التركيز على عامل مهم هو: العامل الثقافي. نحن نحتاج إلى الثقافة التي تدفع الإنسان المسلم، الإنسان المؤمن إلى الفاعلية، إلى الإنتاج، إلى العمل. يجب أن نعرف أن اجتهاد الواحد منا في دراسته عبادة، لذا يجب أن نحرص على التقدم في العلم، وعلى التقدم في العمل.

العبادة ليست فقط الصلاة والصوم، ألم نعلم الحديث الشريف الذي يقول: ((الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله))، وورد في حديث عن الرسول أنه قال: ((ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كتب الله له به صدقة)). ولذلك ينبغي على الإنسان المسلم أن يتقرب إلى الله تعالى بالمزيد من الحصول على العلم، وليست فقط العلوم الدينية وإنما علوم الحياة والطبيعية.

وفي بعض بلداننا كما هو الحال بالنسبة للعراق، صحيح أن الشعب العراقي عانى كثيراً من الاستنبداد والطغيان، وتحمل أكثر مما تحمله أي شعب من الشعوب على امتداد التاريخ، واقعاً ليس في التاريخ حاكماً أساء لشعبه، ظلم شعبه، وقهر شعبه، كما فعل صدام في العراق، هذه حقيقة واضحة، والمقابر الجماعية مصداق من المصاديق، والسجون مصداق أيضاً، المهاجرون واللاجئون إلى الخارج كلها مصاديق، وما حصل مؤخراً في العراق، مما لا نتحاج للحديث عنه لأن الإعلام يتحدث عنه.

لكن الشعب العراقي مقلبل على وضعٍ جديد، وهنا ينبغي أن يحرص الشعب العراقي، والحمد الله فإن أكثريته مسلمون بل أكثريته موالون لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، ينبغي أن يكون الاهتمام بصنع مستقبل ونموذج حضاري.

فاليابان، مثلاً، مرت بمشاكل كبيرة شبيةٌ بما مر به العراق بشكل أو بآخر، حينما أصيبت بالقنابل الذرية في (هيروشيما)، وأصيب أكثر من مليونين من اليابانيين في تلك الحرب، الحرب العالمية الثانية، دمار كبير لحق باليابانيين، خسائر عظيمة أصابت اليابان ،هزيمة مذلة حلت باليابانيين، ولكن الشعب الياباني استطاع أن يتجاوز تلك الحالة. والشعب الياباني الآن تقدم، ونهضته التكنولوجية والصناعية تعتبر من أعلى المستويات في العالم، واليابانيون ينافسون المنتجات الأمريكية حتى في داخل أمريكا، ولا مجال لذكر حقائق وإحصائيات في هذا المجال.

وألمانيا أيضا عانت في الحرب العالمية الثانية وفي قضية النازية حينما احتلت ألمانيا وفرضت عليها الهزيمة وقسمت ألمانيا، إلى أن توحدت أخيراً بعد انهيار المعسكر الشرقي، ولكن الألمانيين الآن يعتبرون ثالث قوة صناعية في العالم، وثاني قوة تجارية، يوجد في ألمانيا (60) ألف شركة تجارية بين كل (8) أشخاص في ألمانيا رجل يعمل في التجارة، وبذلك استطاعوا أن يتغلبوا على المآسي والآلام وصنعوا لهم نهضة كبيرة.

وكوريا الجنوبية مقياس أيضا، وكذلك ماليزيا.

ونحن نأمل أن يوفق الله تعالى للشعب العراقي، لكي يصنع نموذجاً حضارياً فاعلاً في هذه المنطقة العربية، لذلك على العراقيين أن يهتموا بالعلم والتكنلوجيا. نحن حرمنا جراء الحصار الديني في العراق فترة طويلة. والآن باعتبار الفرصة متحة لنا نريد أن نعوض ما فاتنا في الماضي، من أنشطة دينية: مساجد حسينيات مواكب عزاء مآتم حوزات دينية علمية، لكن ينبغي أن لا يكون هذا بديلاً عن الاهتمام بالعلم والتكنلوجيا.

كما ينبغي الاهتمام بالجامعات والمعاهد العلمية وتنمية المستوى التكنولوجي للشعب العراقي. لا يعتقد العالم الديني أو الحوزة العلمية أو المرجعية الدينية بأن مهمتنا تقتصر على الأنشطة الدينية التقليدية المعروفة، على الشعب العراقي أن يهتم لكي يُقدم نموذجاً حضارياً.

نحن نأمل أن ينجحوا في تقديم نموذج مشرق، وهذا يحتاج إلى اهتمام وتوجه وقابلية. الإنسان المسلم ينبغي أن يكون نشطاً، فالآيات والنصوص تدفعه ليتجه هذا الاتجاه: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وليس إلا ما اعتقد. يجب أن لا تفكر أنه ليس لك إلا عقيدتك ولاؤك ومحبتك، كل ذلك في مكانه، ولكن -كما قلنا- العقيدة الصحيحة والولاء والإيمان الصحيح ينبغي أن ينتج واقعاً صحيحاً وإلا فما قيمة الإيمان الصحيح إذا كان الواقع مريضاً متخلفاً.

المجتمع المتخلف يسيئ إلى عقيدته ولذلك يقول الإمام جعفر الصادق : ((كونوا زينا لنا إنكم قد نسبتم إلينا وعرفتم بنا فكونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا)).

ونحن رأينا إخوتنا المؤمنين في جنوب لبنان حيث المقاومة الإسلامية وما قدموه بأنفسهم وبجهادهم، والمسألة ليست فقط أداء عسكري حقق لهم الانتصار وفقط، كلا! إنهم بتعاملهم الحضاري والإنساني والسياسي والاجتماعي قدموا نموذجاً مشرقاً وسليماً، جزاهم الله خيراً ووفقهم للمزيد من هذه الإنجازات. ونحن نأمل أن كل المسلمين والمؤمنين يكونون حريصين على مثل هذا التوجه.

إذن نحن في حاجة إلى الفاعلية والنشاط، الأحاديث والروايات تطالبنا بالعمل، وأئمتنا أهل البيت (سلام الله عليهم) يطالبونا بالمزيد من العمل، الإمام علي يقول: ((لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل)). وبالتالي فإن الإسلام هو العمل. وكان أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قدوة في هذا المجال، فقد أعتق ألف رقبة من كد يمينه. وكان يعمل من أجل مصلحة الناس، كان يحفر الآبار في طريق الناس الذاهبين إلى مكة، وإلى الآن عند المَحْرَم آبار علي التي حفرها الإمام علي بن أبي طالب بيديه. كم كان يغرس من الأشجار؟ وكان يزرع مساحات كبيرة، زرعها بيده، وكان ينفق إنتاجها على الفقراء والمحتاجين.

ونحن علينا أن نقتدي بأئمتنا بالعمل بالفاعلية على مختلف الأصعدة. والحمد لله الشعب العراقي لديه طاقات وكفاءات، لديه عقلية متوقدة، لديه ذكاء حاد. ولكن فترة الطغيان والاستبداد هي التي عوقت أداء هذا الشعب، نحن نأمل أن هذا الشعب إن شاء الله يستغل هذه الفرصة لبناء واقع نموذجي متطور على المستوى التكنولوجي وعلى المستوى الاجتماعي.

الحوزة الزينبية - سوريا، 6 محرم 1425هـ