الليلة الخامسة من المحرم: التنافس الإيجابي وتقدم المجتمع
من خلال الآية القرآنية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ تحدث سماحة الشيخ حسن الصفّار في الليلة الخامسة من المحرّم 1428 هـ عن «التنافس الإيجابي وتقدّم المجتمع»، مركّزًا حديثه في ثلاثة محاور رئيسة، رتّبها كالتالي:
المحور الأول تحدّث فيه عن «طموح التفوّق» فأشار إلى أن الإنسان السويّ بطبيعته وفطرته يطمح إلى ألاَّ يتفوّق غيرُه عليه، وعلى العكس منه ذلك الإنسان الخامل والكسول الذي يبرّر دائمًا كسله وتفوّق الآخرين عليه بمبرّرات واهية، يمكنه أن يتغلّب عليها لو مَلَكَ الإرادة والتصميم. وأشار سماحته في هذا السياق إلى بعض النصوص الإسلامية التي تشير إلى هذه النقطة (فطرية حب التفوّق لدى الإنسان).
المحور الثاني «مشروعية التنافس» بيّن فيه سماحة الشيخ أن التنافس بين الأفراد والجماعات من سمات المجتمعات المتقدّمة والمتحضّرة، حيث تكثر فيها التوجّهات والقيادات والنخب والكفاءات والأفكار، وتسعى فيها هذه التعدّدات إلى التنافس فيما بينها. بينما تظلّ سمة الركود هي السمة الغالبة على المجتمعات المتخلّفة. مثنّيًا بذكر الفوائد الاجتماعية لوجود حراك تنافسي إيجابي، من أهم هذه الفوائد: نضج، ونموّ الأفكار والقيادات والجماعات المتنافسة فيما بينها، دون أن يُغْفِل سماحته الإشارة إلى أن النصوص الإسلامية توجّه المجتمع المتديّن نحو هذه الحالة التفاعلية من التنافس.
المحور الثالث «بين الصراع السلبي والتنافس الإيجابي» قسّم البحث فيه إلى بحث مظاهر كل من:
(1) الصراع السلبي، فعدد ظاهرتين من مظاهره، هما: كراهة المنافِس والحقد عليه ومقاطعته من قبل المنافس الآخر. والإساءة والعدوان على المنافس.
(2) التنافس الإيجابي، وذكر أن في هذا النوع من التنافس:
- يعترف كل طرف بالآخر، فلا يتجاهله أو ينكره، بل قد يكنّ له الاحترام.
- يراهن كل طرف من المتنافسين ـ لتحقيق التفوّق ـ على بذل الجهد الذاتي لإحراز التقدّم.
- تسعى جميع الأطراف للتعاون لخدمة القضايا المشتركة.
- تنفتح أمام كل طرف آفاق جديدة أكثر رحابة وسعة، بعكس الصراع السلبي، الذي يجعل المتنافسين يهتمّون بصغائر الأمور.
وحمّل سماحة الشيخ الصفّار ـ في نهاية حديثه ـ المجتمع وخصوصًا العلماء والوجهاء مسؤولية نشر هذه الثقافة (التنافس الإيجابي) للرقيّ بمجتمعنا والابتعاد به عن أجواء التشنّج والعصبيات المقيتة.
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾[1]
يتركز حديثنا على ثلاث محاور:
الإنسان من حبه لذاته يرغب أن يحوز أكبر قدر ممكن من المكاسب والمصالح، وفي بعض الأحيان قد لا يلتفت الإنسان إلى مكسب معين، فإذا ما رأى أن غيره قد أحرز هذا المكسب يحصل لديه تحفز نحو ذلك المكسب، وبالتالي فإن أي تقدم يحرزه إنسان في المجتمع قد يحفز الآخرين حتى يصلوا إلى مستواه، لوجود طموح التفوق.
وكحالة طبيعية في الإنسان السوي أنه يسعى جاهداً ليكون هو المتقدم على الآخرين، وفي مختلف الميادين، بعكس الإنسان الخامل، فما الفرق بين الشخصيتين؟
_ الإنسان السوي من الطبيعي أن يكون لديه طموح، والذي لا يملك طموحاً للتفوق هو الإنسان الخامل.
_ الإنسان السوي يتمنى الخير لنفسه ويتمنى المصلحة الأكثر لذاته ويرغب فيها ويفتش عن الطرق التي يتقدم من خلالها كما تقدم الآخرون.
لكن الإنسان الخامل عادة ما يكون فاقداً للثقة بنفسه، فيبحث عن المبررات، يُبرر بها تقاعسه.
هناك عوامل مساعده للتفوق والتقدم و لكن المحور الأساس للتفوق هو إرادة الإنسان. فالإنسان الذي لديه إرادة يتجاوز الصعوبات و يتجاوز العوائق.
وهنا نذكر هذه الحالة التي تكشف قيمة الإرادة: منذ حوالي سنة كانت هناك إحدى الطالبات المتفوقات (مي الملحم)[2] والتي حازت جائزة الأمير محمد بن فهد للتفوق العلمي (وهي جائزة تهدف لتحفز الطلاب والطالبات للتفوق والتقدم في دراستهم) أربع مرات متتالية، في المرحلة الابتدائية (1412هـ) والمتوسطة (1418هـ) والثانوية (1421هـ) والمرحلة الجامعية (1426هـ)، رغم أنها كانت مبتلاة بمرض مزعج وهو المرض المعروف بـ (أنيميا البحر الأبيض المتوسط) وهو مرض يصيب الدم ويحرم الإنسان من كريات الدم الحمراء التي تحمل الأوكسجين إلى القلب.
وقد اكتشف والداها مرضها بعد ولادتها بثلاثة أشهر وأصبحت بذلك تحتاج إلى نقل دم شهريا.
وتبديل الدم ليس بالأمر اليسير فهو مرض صعب، ولكنها مع ذلك ومع هذا المرض تفوقت في كل المراحل، وقد نشرت عنها الصحف في حينها.
هكذا إذاً كانت لدى الإنسان إرادة للتقدم والتفوق يستطيع أن يتخطى الظروف التي يعيشها.
يقول الأصمعي: كنت أطوف بالبيت فوجدت شخصاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يدعو بإلحاح ويبكي: اللهم إني أسألك ميتة أبي خارجه، ويُكرر هذا الدعاء ببكاء.
يقول: تساءلت في نفسي ما هي ميتة أبي خارجة!! فهل هو حقق فتحاً كبيراً واستشهد، أو قام بإنجاز علمي ضخم ومات،.... يقول: بعد أن أكملت طوافي، جئت عند ذلك الرجل وتركته يهدأ قليلاً من بكائه وتضرعه وتهجده، ووجهت السؤال إليه: كيف كانت موتة أبي خارجه؟!
قال: ألا تعلم؟ قلت: لا!
قال: إن أبا خارجة أكل حتى أمتلئ، وشرب حتى ارتوى، ونام في الشمس. فمات شبعان، ريان، دفآن.
بعض الناس ليس لديهم طموح فتراه يراوح مكانه فيقبل بأقل مستوى دراسي، وأقل مستوى وظيفي، وهذه طبيعة الإنسان الخامل، ينما الإنسان السوي يتطلع لأعلى مستويات الطموح في مختلف المجالات، يقول الشاعر:
إذا ناضلت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون
النجومفموت المرء في شي
حقيركموت المرء في أمر عظيم |
وردت عندنا روايات ونصوص كثيرة تشجع الإنسان على علو الهمة، يقول الإمام علي : «خير الهمم أعلاها»، ويقول : «من رقى درجات الهمم عظمته الأمم»، وقال : «من شرفت همته عظمت قيمته»[3] .
ونقرأ في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين علي أبن الحسين إذ يقول: «اللهم صل على محمد وآل محمد وبلغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وأنته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال»[4] .
إذا فكر كل إنسان سوي في أن يكون متفوقاً و متقدماً، فإن ذلك سيؤدي إلى حصول تنافس في المجتمع، وهذه ميزة المجتمعات المتقدمة. بعكس المجتمعات الراكدة، فالناس فيها يميلون إلى السكون وإلى المحافظة على الأمور فإذا كان هناك رأي سائد، أو فكرة سائدة، أو زعامة متمكنة فإنهم ينزعجون من ظهور رأي آخر أو فكره أخرى أو بروز زعامة جديدة.
والسبب في ذلك أن بروز أفكار جديدة، أو ظهور قوة جديدة في المجتمع تخلق حالة من التنافس، وهذه الحالة غير مقبولة في المجتمعات الراكدة لأنهم في الغالب يحملون شعار الحفاظ على الوحدة ضمن مجتمع واحد وضمن حالة واحدة، معتقدين أن تعدد الآراء والأفكار والزعامات تُسبب تمزق المجتمع.
وفي الواقع فإن أي تقدم بالفعل يسبب مشكلات، وتحوطه عوائق، ولكن الركود بحد ذاته مشكلة أكبر، ويُحدث تخلفاً عظيماً في المجتمع.
التنافس: حالة فطرية حالة طبيعية يدعمها العقل، والمتنافس إنسان لديه طاقه وكفاءة، وهذا المتنافس إذا كان في مجتمعٍ متقدم تنمو طاقاته وقدراته، أما إذا كان في مجتمع راكدٍ متخلف فإن طاقاته تخبو وتوأد. وهذا الكلام يجري على الأفراد والجماعات.
وهنا كلمة رائعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: «الناس بخير ما تفاوتوا فإذا تساووا هلكوا»[5] .
فالتفاوت هو الذي يذكي روح التنافس والتقدم.
والتنافس في مصلحة المجتمع فبه يفجر كل إنسان طاقته و قدراته، وكل جهة من جهات المجتمع تسعى للتقدم وهذا من مصلحة المجتمع.
ونحن نرى في الأمور الاقتصادية إذا كان هناك جهة واحده تحتكر السوق ولا يوجد من يُنافسها، فإن ذلك ليس في صالح المجتمع، لأن هذه الجهة ستتحكم في السوق، وتتحكم في ألأسعار وفي ذلك ضرر على الناس. ولكن إذا كان هناك تنافس وكان أمام الناس أكثر من خيار، فذلك من مصلحتهم. وهو دافع للمؤسسات لتقوي نفسها وتطور إنتاجها وأسلوب تعاملها، وهذا في صالح المجتمع.
فالتنافس من مصلحة تقدم المجتمع.
والتنافس هو الذي ينضج الآراء، إذا كانت فكرة سائدة في المجتمع، فكيف نضمن أن هذه الفكرة ناضجة وهي الأفضل والأصوب؟ لا يُمكن ذلك إلا من خلال ظهور فكرة أخرى، عندها سيكون نقاش حول الأفكار، فيتبين أي الأفكار أصوب وأحسن، وهذا الكلام ليس فقط على صعيد الآراء والأفكار، بل حتى على صعيد الزعامات والقوى في المجتمع.
تعاليم الإسلام تشجع على التنافس وتدفع الناس نحوه في العمل وفي مختلف المجالات، يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾، بمعنى أن الحياة في حقيقتها من أجل أن تتفجر الطاقات وتتفجر الكفاءات وهذا لا يحصل إلا بالتنافس، وفي آية أخرى الله تعالى يقول: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، بمعنى فليتنافس الناس في أعمال الخير - فالمجال مفتوح، والتنافس مطلوب. وفي آية أخرى، يقول الله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[6] ، استبقوا من المسابقة بمعنى كل شخص يحاول أن يصل قبل الآخر إلى الخيرات. وفي آية أخرى، الله تعالى يقول: ﴿ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾[7] .
هناك مسألة فقيه يذكرها الفقهاء في كتاب صلاة الجماعة حول من يُصلي بالناس جماعة وهي: إذا تشاح الأئمة رغبة في ثواب الإمامة[8].
قد يستغرب البعض كيف أئمة يتنافسون على صلاة الجماعة ؟! - الفقهاء يقولون نعم لأن صلاة الجماعة فيها أجر، والإنسان يكون إماما أفضل له من أن يكون مأموماً. أنا أريد أن أكون إماماً حتى يكون ثوابي أكثر.
يقول الفقهاء: يتقدم من يقدّمه المأمومون. فإذا اختلفوا، فهناك مقاييس للتقديم: الأفقه - ثم الأورع - ثم الأكبر سنّاً، في حال تساويهم في مختلف المقاييس.
وبالتالي فالتنافس مشروع حتى في أعمال العبادة. والإسلام لا يقمع حالة التنافس بل يذكي حالة التنافس في الاتجاه الايجابي.
ونحن نقرأ في سيرة رسول الله نبينا محمد كيف كان يثير التنافس الإيجابي في نفوس أصحابه، ويقر هذه الحالة، كما في مشهد حديثه مع الأنصار بعد غزوة حنين.
تقول الرواية: أعطى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ما أعطى من العطايا لقريش من المؤلفة قلوبهم، ولم يكن للأنصار منها شيء، حتى كثرت منهم القالة، وقال قائلهم: (لقي والله رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قومه)... وقال سعد للرسول: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
فقال الرسول : «فأين أنت من ذلك يا سعد؟».
قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي.قال : «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة».
فلما اجتمعوا أتاهم الرسول فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا معشر الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم! ألم آتكم ضُـلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!».
فقالوا: بلى، الله ورسوله أمـن وأفضـل. ثم قال : «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟».
قالوا: «بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل!». قال : «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدّقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكَلْتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحـالكم؟... فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجـرة لكنت أمرأ من الأنصـار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»... فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم[9] .
إذن التنافس الإيجابي مشروع ولا يخل بالوحدة، فالوحدة لا تعني أن يذوب الناس جميعاً في اتجاه واحد ورأي واحد وطريق واحد، إنما التعدد أمر مفيد ومشروع، والتعددية لا تعني التمزق والتفرق. نحن نختلف في الرأي والتوجه والانتماء، ولكن تجمعنا مصلحة واحده وقواسم مشتركة، فلا مشكلة في هذا الأمر. فوجود التعدد ليس سيئا، إنما الأمر المهم كيف ندير هذه الحالة من خلال التنافس الإيجابي.
البعض من الناس إذا رأوا منافسين لهم يصبح لديهم حالة سلبية تجاه المنافسة، ولهذه الحالة السلبية أو لنقل الصراع السلبي مظاهر، من أبرزها:
أولاً- كراهة المنافس وقطيعته.
فبعض الناس يكره أن يبرز منافس له وينزعج ويحزن ويتألم، لا يريد أن يكون له منافس. ويغفل عن أنه من حقه أن يعمل وغيره من حقه أن يعمل أيضاً. وهذه حالة سلبية يمقتها الإسلام، وقد تصل بالإنسان إلى الحسد بيد أن الإنسان المؤمن لا يحسد، بل يغبط أخاه المؤمن بأن يتمنى أن يتقدم كما تقدم غيره، وهذا أمرٌ مشروع أما أن تصل المسألة إلى الحقد والكراهية فهذا يُسمى حسداً، وفي كلمة جميلة لأمير المؤمنين يقول: «الحاسد مغتاظ على من لاذنب له»[10] .
والقرآن الكريم يحكي لنا قصة ابني آدم وكيف أن أحدهما وهو (قابيل) قرر قتل أخيه (هابيل) لا لشيء إلا لأن الله تقبل قربانه، يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. المائدة 27
ثانياً- الإساءة والعدوان على المنافس.
قد يتجرأ البعض فيسيء للمنافس ويعتدي عليه، سواءً بتسقيط شخصيته أو تشويه سمعته، أو عرقلة أعماله، أو أن يسيء له بأي طريق كان.
هذه الإساءة لا مبرر لها - والمشكلة أن الإنسان إذا اتجه بهذا الاتجاه يتأخر أكثر. هناك رواية جميله عن أهل البيت هذه الرواية في بحار الأنوار، جاء فيها: «إن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه، وإن كان يسيرا. ومن يبني ويهدم يوشك أن لا يرتفع بنائه»[11] .
لماذا يتجه البعض لتسقيط الآخرين؟ أنت تقدم، وطور نفسك. لماذا تتعدى على الآخرين وتسيء لهم وتشوه سمعتهم؟ لأنهم سبقوك؟ لأنهم تفوقوا عليك؟ لأنهم أحرزوا ما لم تحرز؟ هذا لا يُخوّلك ولا يُبرر لك الاعتداء عليهم.
فالصراع السلبي من جانب يؤثر على الجهة نفسها، ويضر بالمجتمع، ومن جهةٍ أخرى يخلق صراعات وعداوات، مما يؤدي إلى تفريق المجتمع وتمزيقه.
عندما نتكلم عن التنافس الايجابي لا نتكلم عن حاله مثالية خيالية، فنحن نرى المجتمعات الأخرى المتقدمة، قد فتحت الباب للمنافسة في كل المجالات، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والأهم من ذلك كله هم يتنافسون على أشياء مهمة، وعلى أرفع المستويات. أما في عالمنا العربي والإسلامي فالمنافسة على أشياء محدودة، ومع ذلك نجد الصراعات والعداوات قائمة.
ولعل بعض المؤمنين كان يتوقع من الله سبحانه وتعالى أن يُغلق الأبواب أمام تلك المجتمعات كي لا تتقدم نظراً لاعتبارهم لا يؤمنون برسالة الإسلام، ولكن الله تعالى يؤكد عدله العظيم في كتابه الكريم فيقول تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾.
فالإيمان ليس ساحة للركود، وإنما ساحة للعمل والجهاد، وهذه هي سنة الحياة: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾.
أولاً- الاعتراف بالآخر واحترامه.
ثانياً- المراهنة على بذل الجهد.
إذا كنت تحب أن تتقدم، ولا يتفوق عليك الآخرون، عليك أن تضاعف جهدك وتطور عملك وانجازك فهذا هو السبيل وهو الطريق للنجاح والتنافس الإيجابي، وهو ما تدعوا إليه آيات القرآن الكريم: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.
ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾.
عميق معنى هذه الآية الكريمة وهي تؤكد على العاملين والناشطين أن لا يعبئوا بما يشغلهم عن إنجازاتهم وتقدمهم، وإن واجهوا من يُعرقل لهم طريق التقدم فعليهم أن يتمسّكوا بهذا النهج الذي تُقدمه ألآية المباركة: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾. أما إذا انشغل العاملون بالمهاترات التي يُراد لها عرقلة نشاطهم، فإنهم بذلك يُحقّقون أهداف المغرضين، ويتأخروا في مسيرتهم.
وفي آية أخرى يأمر الله تعالى فيها النبي بأن يخاطب أهل الكتاب بها: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.
وما نجده من مهاترات حول السجال المذهبي لا يخدم الإسلام ولا المسلمين، وقد انشغلت الأمة خلال أكثر من 1400 سنه بهذا السجال، وإلى متى نبقى أسارى؟ كفانا ذلك، فلنتجه نحو البناء والتنافس الإيجابي في خدمة قضايا أمتنا وخدمة مصالحنا، وكل واحد يمشي على منهجه ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾، والساحة هي التي تقيّم والناس هم الذين يحكمون، والتاريخ هو الذي يحكم، ويوم القيامة الله تعالى يفصل بين الناس، هذا هو المنطق العقلائي، وهذا هو المنطق الصحيح. فالمراهنة على بذل الجهد.
ثالثاً- التعاون في خدمة القضايا المشتركة
نحن إذا كنا أبناء مجتمع واحد، وتهمنا خدمة مجتمعنا، فعلينا أن نتعاون في خدمة المجتمع. لماذا تحطّمني وأحطمك؟ لماذا تعرقل طريقي وأعرقل طريقك؟ لماذا تشوّه سمعتي واشوه سمعتك؟ نحن من مجتمع واحد، أي قوة تنشأ هي قوة لنا جميعاً، وأي نشاط هو لصالح الجميع. فالمهم أن يكون هناك تعاون وتواصل بين مختلف التيارات.
في الماضي كان مجتمعنا راكداً لا يوجد فيه تيارات ولا توجهات وليست فيه أفكار جديدة، ولا قيادات شابه.
أما الآن -والحمد لله- تطور الوضع في مجتمعنا على المستوى الديني والأدبي والاقتصادي والتجاري وعلى مختلف الأصعدة والميادين، وهذا تطور جيد.
والمهم هنا أن نتجه نحو التنافس الإيجابي حتى نخدم مجتمعنا، وعلينا أن نتعاون إيجابيا لا أن نتصارع صراعاً سلبياً نهدد به وحدة المجتمع.
وفي بعض الأحيان يحصل صراع على قضايا محدودة، مسجد، أو حسينية، أو موكب. علينا أن لا ننشغل بالصراعات، وإنما نتجه باتجاه فتح أطر جديدة للعمل، والاتجاه نحو قضايا أرحب وأوسع دون الانغلاق في قضايا ضيقة ومحدودة.
هذا هو التنافس الإيجابي الذي نبغي أن نهتم ونتعاون من أجل تعميق جذوره في المجتمع.
وأخيراً علينا أ، نبذل الجهد في نشر ثقافة التنافس الايجابي، وعلى الواعين من المجتمع تحمل المسؤولية سواءً العلماء أو المثقفين.
ومن المؤسف أن تكون هناك حالة من التفرج على المشاكل التي تحصل بين الفئات والجماعات، وهذا أمرٌ خاطئ، فالإسلام يدفعنا باتجاه الإصلاح، يقول رسول الله : «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام»[12] .
فمن الضروري أن نتوجه لإصلاح ذات البين، ونشر ثقافة التنافس الايجابي وأن نخلق بيئة في مجتمعنا تتسع للجميع وتذكي التنافس الايجابي لصالح الجميع وعلى مختلف الأصعدة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.