صدارة الدين في تبرير الصراعات
تحضرك أيها القارئ وتحضرني بعض الصور، عن أطراف الصراع الاجتماعي(الديني)، الأولى شخصان معروفان بالتدين والمسجدية والالتصاق بالصالحين من رجال المجتمع، الثانية عالمان في مرحلة متقدمة من العلم أو دون ذلك، يتحركان بزيهما الديني في مجتمعهما، الثالثة فئتان دينيتان مجتهدتان في الأنشطة الدينية والبرامج التوجيهية والأخلاقية لبناء مجتمع متدين صالح.
فجأة ينفجر صراع عنيف تتبادل فيه كل الأسلحة حتى المحرم منها شرعياً وأخلاقياً، عراك أيسره أن تسقط فيه الكرامات والحدود، وقد يصل فيه التعرض للآخرين على أعواد المنابر وخطب الجمع والمساجد، بما لا يليق بمتدين، ولا يرضي عاقل.
ثم لا يتأخر الوقت كثيراً حتى ترى وتسمع الاحتقانات وقد وصلت الى الناس من طلاب مدارس وعمال وفتيات، نعم وصلت محملة بالقسوة والعنف والاتهام والتجني المخرج عن الدين والملة.
يتحرك هذا التجييش ويوازيه رد الفعل الذي قد لا يقل في ضراوته وعناده عن عملية التجييش، وربما بالأسلحة الدينية الفاعلة ذاتها، فينقسم الناس وتتفرق الجموع وتُدفع الأثمان الباهظة من كرامات الناس وسمعتهم ومكانتهم الدينية والمعنوية والاجتماعية.
هنا تحتاج الأطراف المتصارعة إلى المبرر لهذا الفعل المجهد والمكلف، الذي يدفع ثمنه المجتمع بأكمله، وأقل ثمن يدفعه هو الضعف والوهن الذي يحل به، فلا بدّ من مبرر مقبول ومعقول وثمين يوجب هذه التضحية وهذه الجهود الكبيرة.
إن الحديث عن المصالح باعتبارها سبباً للصراع، أو الحسد أو المكانة والنفوذ، كل ذلك مخجل ومسقط لمن يقول به من المتدينين أمام المجتمع، كما أنه مبرر غير مقبول عند الناس، وغير دافع للمجتمع حتى يزج بقواه في صراع يأكل أخضره ويابسة من دون قناعة منه.
من ناحية ثانية يصعب تصوير الصراع والتحارب باعتباره تبايناً واختلافاً في وجهات النظر، إذ قد لا يراه كثيرون مبرراً للعداء والتقاتل وتشمير السواعد، والأمر نفسه في تباين وجهات النظر واختلاف التوجهات الفكرية والسياسية، أو حتى ترتيب سلم أولويات العمل والنشاط لكل جماعة من الجماعات، فما العمل إذاً؟ وكيف يمكن تبرير الصراع؟
لقد وجد بعض المتدينين الحل! وهو استدعاء أكبر المقدسات في نفوس الناس وضمائرهم وأحاسيسهم، وهو الدين والقيم والمبادئ، فصَدّرُوها الواجهة، وجعلوا الدين شعاراً يجتذب الناس باستعدادهم التام للدفاع مهما كلفهم من ثمن، كما يدفعهم الى توفير إمكانات هذه المعركة التي بلغت ما بلغت، والأهم من ذلك أنه يرفع العتب في الصراع، فيعطي مبرراً كافياً لخوضه وبذل الغالي والثمين من أجله.
إن عدم وجود السبب المعقول للصراع، أو عدم القدرة على إبراز المبرر الحقيقي هما الدافع الأكبر لاستخدام الدين وإثارة عواطف الناس وطيبتهم باسمه.
يحضرني هنا مثلٌ شعبي: «اللي ما يدري يقول حلبه، واللي يدري ممتحن به» وهو «يضرب مثلاً للمشكلات الخفية التي تشغل بال الإنسان العارف عن ملابساتها وظروفها، أو لمن يقع في مشكلة لا يريد إبرازها للآخرين» كما ينقل عبدالله حسن آل عبد المحسن، في كتابه الأمثال الشعبية في الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، وقصة هذا المثل كما تتناقل، أن صاحب بستان اعتُدِيَ على عرضه وشرفه بينما كان مشغولاً في أطراف بستانه، وكان يسمع أصواتاً بعيدة ما لبث أن تأكد أنها صراخ زوجته، واستغاثتها به، فهرول مسرعاً إليها وأخبرته الخبر، وبينما هو يرى الرجل المعتدي مسرعاً بالخروج من البستان، أسرع وراءه ليمسك به، فأخذ الرجل حلبة من البستان في يده، وكان المشهد كالتالي المعتدي يركض وفي يده حلبة، وصاحب البستان يسرع خلفه للإمساك به، وكلما مرّا على قوم صاحوا بصاحب البستان أن الأمر لا يستحق هذا الجهد والتعب بل لا يستحق هذا الموقف أمام الناس فما عسى أن يكون ثمن تلك الحلبة التي بيد الرجل.
وهنا أصبح صاحب البستان في حيرة، فهو لا يستطيع أن يخبر الناس بما جرى على عرضه. فجرى هذا المثل «اللي ما يدري يقول حلبة». والمثل يكاد يكون قريباً من حالات الصراع بين المتدينين، إذ يمكن استحقار أغلب الأسباب الحقيقية لصراعاتهم واستتفاهها في نظر المجتمع، ما لم تلصق بالدين، لكنها إذا التصقت بالدين فالمعادلة تنقلب تماماً، لأن قداسة الدين ومكانته ستصبحان محكّاً عند الناس، وسيُلبس الصراع رداء من القداسة والنزاهة وليس للمجتمع إلا تقديس ذلك الصراع، ففي كثير من الصراعات الاجتماعية «يراها البعض ديناً وقيماً ومبادئ»، وقلة هم الذين لا تخدعهم هذه الأكاذيب ويعلمون علم اليقين أنها صراعات نفوذ ومصالح.
والرهان معقود على وعي الناس ويقظتهم فليس كل الصراعات الدينية لأجل الدين.