أنبل الطرق إلى قلوب الناس
المكانة, الموقعية, الحضور, المعروفية, البروز, كلها أمور مباحة للإنسان, وتشكل جزءا كبيرا من مطامحه وآماله وأحلامه, بل هي محل للتنازع والتنافس والتصارع بين أبناء آدم, فالناس (الطامحون) في كل زمان ومكان مأسورون ومأخوذون بالبحث عن الكيفية التي تمكنهم من تحقيق ذلك.
هذا الحلم والطموح يشكل تحدياً جاداً وقوياً, بقاؤه دون تحقق يوجب ألماً وحسرةً وضغطاً على النفس, وتحققه يصنع الرضا فيها ويوجب لها اللذة والهدوء والاستقرار.
ولكن ما هو الطريق لتحقيق هذا الحلم ونيل هذه المكانة؟ وما هو السبيل لتظهيرها كي تصبح واقعاً مشهوداً له بالطاعة وحسن الاستماع؟
هنا يكمن مصرع الرجال والجماعات والأفكار والمعتقدات، ولكي لا يسبقني القارئ أقول: لا تضارب ولا تصادم بين الحلم والطموح والرغبة في القيادة والزعامة وتبوء المكانة كأمور مشروعة، وبين الممارسة والسبيل المعتمد في تقديم الذات (فردية كانت أو جماعية، وأفكارا كانت أم أشخاصا ومسميات) إذا سلك الفرد أو الجماعة أو الفكرة ما يقبح ويعيب.
فأمام الأفراد والجماعات طريقان لتنفيذ هذا الحلم وإخراجه إلى أرض الواقع الأول: طريق فيه ضوابط وقيم ومحددات تعتمد جميعها على تنمية الذات وبناء الكفاءة ودفع الكامن من الطاقة للبروز,وإثبات ذلك بالاختبار والتجربة والنقد , ثم الاستماع والإنصات والتتلمذ على النتائج , بتواضع تام ووثوق منقطع النظير أن القدرة والإمكانية والإصرار بإمكانها جميعاً أن تصنع أفضل مما كان, وغني أن نقول إن هذا الطريق صعب وشاق وأن لذته تكمن في صعوبته.
الثاني: طريق مفتوح بدون ضوابط أو قيم أو محددات طريق يقول لك لتصل إلى ذلك الموقع وتلك المكانة يمكنك أن تفعل ما تشاء من الأمور والمواقف والتصرفات.
ليس من الضرورة في هذا الطريق أن يركز الإنسان أو الجماعة على ذاتها وتسعى لإبراز قدراتها وكفاءتها , بل ربما تتجه ويتجه الأشخاص في سبيل تحصيل موقعيتهم ومكانتهم إلى طريق آخر, ربما يعتمد على إسقاط الآخرين وتبوء المكانة والموقعية بالنيل منهم أو اتهامهم وتشويه صورتهم, والصور كثيرة لأناس نالوا مكانتهم نتاجاً لخوف الناس من ألسنتهم وجرأتهم فتكونت هيبتهم بالغلظة لا بالاستحقاق والجدارة.
وهذا الطريق سهل ومريح وهين لكن ألمه شديد وقاس ومرهق، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا لا يسلك أصحاب الطريق الأول سلوكيات الطريق الثاني ويجمعون بينها وبين طريقهم , فلربما أعطاهم ذلك مكانة وموقعية أكبر وأرقى ؟ إذ لا شك أن جمع آليتين للوصول إلى هدف واحد هو أمر مساعد لبلوغ الغاية.
1/عشقهم وحبهم لما هم فيه من طريق يصقل قدراتهم وينضج أفكارهم ويقوي نفوسهم ويمكنهم من تحقيق ذاتهم بجدارة واستحقاق.
2/كرههم النفسي للطريق الآخر, يعبر القرآن الكريم تعبيراً جميلاً يحمل في روحه معاني سامية حين يقول سبحانه وتعالى (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) لقد ارتبط العظماء حقاً بطريق أصبح هواءهم وماءهم وضياءهم فأشبع نهمهم وطموحهم وتطلعهم، فنفروا عن أي طريق يعاديه ويعارضه، لقد عشقت قلوبهم الجد والاجتهاد والاقتحام والإبداع وكرهت الطرق الحالمة والكاذبة ففرت منه ونأت بصفائها عنها.
3/ وهناك سبب ربما يكون فرعياً لكنه في إطار المقبول والمعقول أيضا فأصحاب القدرات الذين يجدون ذاتهم ويلتقونها في تعبهم وجهدهم ونشاطهم لا يجدون متسعاً من الوقت ولا فائضاً من الجهد يستطيعون صرفه وتوظيفه في الطريق الملتوي، فهم من خبروا بتجربتهم أن ما تحصلوا عليه من موقعية كان بسبب ما بذلوه من جهد أو أنفقوه من وقت, إنهم صادقون مع أنفسهم حين يشعرون بأنهم يفقدونها (أنفسهم) ويبتعدون عنها, ويجافونها حين يلتجئون إلى غير الجادة.
4/أنهم يعلمون أن موقعية بهذا المسلك سيكون رصيدها في نفوس الناس هو الهيبة والسطوة والخوف , وليس الاحترام والتقدير والحب , فشتان بين موقعيتين , موقعية يقصدها الناس رغبة منهم , وموقعية يقصدها الناس رهبة منها , وشتان بين مكانتين , مكانة يكسوها صاحبها وقاراً وحكمة وعلماً ومعرفة , ومكانة يستظل بها صاحبها ليبلغ بسطوته أكثر مما كان ,مكثراً من إرهاب الناس وإخافتهم والتلويح بعصا السلطة في وجوههم , سواء أكانت سلطة سياسية أم دينية أم اقتصادية أم غير ذلك.
هذا العلم الوجداني بواقع الحال والمعرفة بالخواء الداخلي وضعف القدرات والإمكانات للمتعكزين على سلاح هيبة الناس وخوفهم يجعل الجادين في بعد تام بآلاف الأميال عن مستنقع الوحل وطريقته وسلوكه في الوصول الكاذب إلى الموقعيات والمراتب.
msaffar @hotmil.com