جامعاتنا والحظ العاثر
الفرق بين أمة الإسلام التي سادت وعمّرت وانتشرت وهيمنت بالعلم والمعرفة، وبين مجتمع يستورد أطباءه ومهندسيه وطياريه وممرضيه ومعلميه وعماله وغالبية طاقم الحركة والحياة فيه، هو تشويق الأمة في ذلك المفصل الزمني لأبنائها كي يدرسوا ويتعلموا، وتشجيعهم على لسان المعلم الأول للأمة ورسولها الأكرم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إذ يقول: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رضاءً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء)، وطردهم شر طردة في زماننا هذا وعلى أبواب جامعاتنا هذه، وتحت رعاية عاثرة لوزارة التعليم العالي في بلادنا.
على أبواب جامعاتنا يرسم مستقبل بلادنا، وحياة أبنائنا، ومآل أوضاعنا، على وجوه الشباب والفتيات أصحاب الشهادات العالية ومعدلات الـ 95 في المئة و96 في المئة و97 في المئة و98 في المئة و99 في المئة وحتى 100 في المئة ترتسم صورة القمع والطرد في أشد مقاطعها الدرامية حزناً وإدماءً للفؤاد، إنه العداء السافر للعلم والمعرفة والوأد الجريء لطموحات الشباب واندفاعهم الحميد.
في كل عام ومع بداية الإجازة الدراسية تبرز خاصية من خصائص مجتمعنا المفروضة عليه، والتي يمتاز بها حتى عن شعوب الخليج المحيطة به (في الأعم الغالب) فكلها تتجهز لسفر الصيف فرحة بنجاح أبنائها وتفوقهم، ونحن هنا نتجنز حسرة وألماً على المتفوقين من أبنائنا وبناتنا لنبدأ مشوار تسجيلهم في الجامعات طوال فصل الصيف ثم نعود بخفي حنين وكل جار في دول الجوار يبارك لجاره وزميله بتفوق أبنائه ونجاحهم وتوفيقهم، ونحن هنا نعزي الآباء بتفوق أبنائهم وفلذات أكبادهم، وكلهم تسير حياتهم العلمية ضمن نظام علمي عادل، أما نحن فينتقل السعيد من أبنائنا من مرحلة الثانوية إلى الجامعة تحت نظام مبتكر اسمه ضربة الحظ التي لا يعلم إلا الله كيف تحصل.
لقد أصبحنا في الزمن العاثر والقانون العاثر والحال العاثر، والسير حثيث إلى المستقبل العاثر، ينقل الترمذي عن أبي هريرة قوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً).
إننا في زمن تكافأ فيه الرغبة في التعلم بالرفض، ويجازى فيه التفوق بالحرمان، ويقابل فيه الطموح بالاستهتار، نعم بالاستهتار الذي تظهره جامعاتنا برسائل الجوال للمتقدين إليها بما فيهم أصحاب العلامات النهائية والدرجات الخيالية العالية (نرجو أن يحالفك الحظ في جامعة أخرى) مع معرفة كل الجامعات أن الذي لا يقبل في جامعة يصعب قبوله أن لم يكن مستحيلاً في جامعة أخرى لأن أوقات التقديم واختبارات القبول متزامنة في كل الجامعات (تقريباً).
وهناك تميز حيوي نمتاز به نحن عن سوانا من الجيران وبقية شعوب العالم، فنحن الوحيدون الذين يضحك طلابهم الراسبون في مرحلتهم الثانوية على الطلاب الناجحين والمتخرجين منها والسبب أنهم لن يضيعوا في الشوارع لمدة عام كامل على الأقل لأنهم يعلمون أن الفاشل مقعده مضمون، أما الناجح فحظه في الهواء ومقعده في ضربة الحظ، نعم هناك من لا يفقد كرسيه أبداً وهم الإدارة المركزية في وزارة التعليم، فغالبية أبنائنا بلا مقاعد دراسية جامعية وأبطال وزارة التعليم عناقهم دائم مع مقاعدهم، يزدادون كشخة وفرحة من القفزات العلمية والارتقائية الباهرة التي حقوقها على مستوى البلاد خصوصاً قدرتهم الفائقة على معالجة القضايا المزمنة المتعلقة بقبول الطلاب المتخرجين من المرحلة الثانوية.
أذكر هنا قبل أن اختم مقالي ميزة جديدة تميزنا عن دول الجوار، فالناس هناك يشدون على أيدي المتفوقين والناجحين مشجعين ومهنئين، أما نحن فنوجه عتبنا إلى كل ناجح ومتخرج من الثانوية لأنه آذى أهله وأزعج أبويه بنجاحه هذا، وفرض عليهما ضغوطاً ما كان ينبغي أن تصدر منه.
إنها لحظات قاهرة ومحرجة ومأزومة لكل أبوين يجدا نفسيهما عاجزين عن تقديم شكرهما لأبنائهما، فينظران إليهم في حيرة ومرارة والألم يعتصرهما في الأعماق، والدموع جامدة تخفيها أجفان العيون، واللسان متعثر أمام حسرة الأيام في أولادهم وبناتهم، وكأن لسان حالهم يقول: سامحونا فأنتم أغلى شيء في حياتنا، وأرقى حلم أردنا أن نعوض به ما نقصنا في ماضينا، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.