لنستبدل الصراع بالتنافس
أدرك الإسلام روح التطلع للبروز والتزعم القيادي لدى الأفراد والجماعات، فحاول توجيه الأمر بآلية بديلة عن الصراع السلبي، وهي التنافس الشريف أو الصراع الإيجابي.
فمن حقك أن تنافس الآخرين كي تكون الأحسن، وأن تبارزهم كي تكون الأجدر في ساحة عملك ونشاطك وإثباتك لذاتك، ومن حق أي جماعة أن تتولى الزمام والمبادرة والقيادة، فتملك القلوب، وتسيطر على المشاعر، ويشار إليها بالبنان، ولكن يجب أن يكون طريقها إلى ذلك كله هو الصراع الإيجابي [التنافس] الذي يحافظ على الآخرين أقوياء، ويدفع ممارسه ليكون دائما هو الأقوى، ويصحح نظرته ليرى الآخرين باعتبارهم حافزاً يدفعه إلى العطاء الأكثر والعمل الأكمل.
إن ثمة مكاسب حقيقية نجنيها بسبب التنافس الإيجابي لصالح أنفسنا ومجتمعاتنا، ونخسرها حين نتوسل الصراع السلبي حكما بيننا وشاغلا لأذهاننا ومستنزفا طاقاتنا:
(1) تتوجه في أجواء التنافس الإيجابي مختلف الطاقات والإمكانات لبناء الذات، فتتفجر القدرات، وتبرز الكفاءات، ويصبح الإبداع هو السلاح المشهور، والتطوير هو الشعار المرفوع أمام منافس كريم يعبر عن نفسه أيضاً بالعطاء، ويبرز ذاته كفرد أو كيان بهمته وعزيمته.
فتكون المنافسة مدعاة لمزيد من الجهد والتطوير، وبناء الذات والقدرات في الأفراد والجماعات على حد سواء.
بينما يصبح السلاح الأمثل في الصراع السلبي هو المزيد من الهدم والتخريب والإضعاف للآخر، فلا تتوجه الطاقات لبناء الذات بقدر توجهها لتحطيم الآخر، [إن أسلوب الصراع والنزاع يكلف البشرية الكثير من الضحايا والخسائر، فهو يشغل كل جهة بالجهة الأخرى وبدلاً من أن تنصب جهود كل من الطرفين في إعمار الأرض وتقدم الحياة، تصرف في التحطيم المتقابل للمكاسب والإنجازات، وتهدر في المواجهة والصراع]كما يشير إلى ذلك سماحة الشيخ حسن الصفار في كتابه(التنوع والتعايش:مدخل لتأسيس الشراكة للبناء الحضاري) إن الهوس الدائم والاندفاع المجنون لتحطيم الآخر وسحقه، لا يتركان فرصة من الزمن ولا جهداً للكفاءات، ولا حتى مجالاً للتفكير في بناء الذات، ويحق لنا أن نقول: ان التفكير في بناء الذات عند هذا النمط من الأفراد والجماعات يصبح مقلوباً، لأنه قائم على إلغاء الآخر وشطبه، وهو حمق بيِّن.
(2) يتحول وجود الآخر في التنافس الشريف إلى ضرورة ملحة لا يستغنى عنها، فيبذل كل طرف من الأطراف جهده للحفاظ على خصمه في ساحة المنافسة الشريفة، والسبب يعود إلى اعتقاد كل طرف أن الطرف الآخر هو الحافز الحقيقي لأفراده وقدراته، والحوافز كما المشجعات مهمة جداً لمن يعرف قدرها وأثرها الطيب.
لكن الأمر يختلف تماماً في الصراع الذي لا مكان فيه للطرف الآخر، فالصراع السلبي يعني اما أنا أو أنت، ولا يمكن أن يكون كلانا، إنه محاولة جادة لشطب الآخر وإلغاء وجوده، فالآخر عامل تنغيص يمنع من الاستفراد بالساحة، وليس عامل تحميس يدفع للمزيد من الجهد والمثابرة.
(3) وفي التنافس الشريف، ينشط المرء وتنشط الجماعة والقلب طاهر، مليء بالمحبة والود، وبالرحمة والحنان، فلا أحقاد ولا ضغائن ولا مكائد، والهدف كله أن نأتي الله يوم القيامة بقلوب صافية معافاة، كما قال سبحانه وتعالى:﴿إلا من أتى الله بقلب سليم﴾.
أما في الصراع فالضمير غائب، والقلب مريض، وأسلحة الشيطان وخبثه في المواجهة، ولا توجد أسلحة ممنوعة دولياً ولا أخوياً، فالخداع والافتراء، والتشويه والكذب، وسوء الظن كلها أسلحة تخدم الهدف، وتوصل للمراد، وحينها يَسْوَدّ القلب، ويذهب صفاء الإيمان.
(4) وفي التنافس يصبح للعمل والنشاط والأهداف المرفوعة لدى الأطراف، قدسية اجتماعية، وقبول عام، فالتنافس يحفز المجتمع للتبني والمشاركة، فتعلو همته للأهداف الكبيرة، ويفخر بالنشاطات المبدعة والمبادرة وبأصحابها المخلصين، ويتمنى لو كان أحدهم بل لا يتردد أن يشاركهم ما وجد لذلك سبيلا.
إن طهارة العمل والأداء، القائمة على التنافس من الأطراف المختلفة، تجتذب المخلصين، وتستقطب الغيورين، فيتزايد الانخراط في الجماعات، ويندفع الناس إلى المساهمة في مشاريعها، ودعم أنشطتها.
ولكن الأمر مختلف تماماً حين الصراعات، إذ لا تبقى للأهداف قدسية تذكر باعتبار أن كل طرف منهم لم يسلم من حقد الآخر وافتراءاته، وتصيده للأخطاء وتضخيمها، ذاك إذا لم يصل الأمر إلى التشكيك في الدافع والدين والهدف، وهذا الأمر يؤدي بطبيعة الحال إلى فقد الثقة الاجتماعية، ونفور المجتمع من كلا الطرفين المتصارعين.