النظافة والجمال قيمة دينية
إن الله جميل يحب الجمال، شعار أطلقه رسول الله وأكد عليه أئمة الإسلام ليكون عنواناً لحياة المسلم في ظل بيئة نظيفة، بمظهر أنيق، وذوق جمالي رفيع.
ويمثّل هذه الشعار قاعدة تشريعية ينبثق منها الترحيب بكل مظاهر الجمال والأناقة ضمن الضوابط الشرعية، كما تدل على رفض أي مظهر للقذارة والبؤس.
ويشير الشعار ذاته إلى فلسفة الاهتمام بالنظافة والجمال، من خلال وصف الله تعالى بالجمال وأنه يحب الجمال.
لقد جاء هذا الشعار في حديث رسول الله حسب رواية مختلف المصادر الإسلامية، حيث أخرجه مسلم في صحيحه [1] ، وأورده الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين عن عبدالله بن مسعود ، عن النبي أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من كبر) فقال رجل: يا رسول الله إنه ليعجبني أن يكون ثوبي جديدًا، وراسي دهينًا، وشراك نعلي جديدًا. قال: وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه، فقال (ذاك جمال، والله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس) [2] .
وفيه عن عبدالله بن عمرو قال: قلت يا رسول الله، أمن الكبر أن ألبس الحلة الحسنة؟ قال : إن الله جميل يحب الجمال[3] .
ومثله جاء في بحار الأنوار للمجلسي[4] .
وكان أئمة أهل البيت يذكّرون الأمة بهذا الشعار، ويؤكدون على مصاديقه وتجلياته.
فعن أمير المؤمنين علي قال: إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده[5] .
وعن الإمام جعفر الصادق قال: (إذا انعم الله على عبده بنعمة أحب أن يراها عليه لأنه جميل يحب الجمال)[6] .
وعنه : (إن الله عزّ وجلّ يحب الجمال والتجمل ويبغض البؤس والتباؤس)[7] .
وكان الإمام الحسن بن علي إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه، فقيل له: يا بن رسول الله، لِمَ تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي[8] .
إن الله تعالى قد خلق الإنسان في أحسن قوام وهيئة، وأبدع تكوينه في أجمل صورة وشكل، يقول تعالى : ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[9] .
ويقول تعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾[10] .
وأسكن الله تعالى الإنسان في أحضان الطبيعة الخلاّبة، بجمالها الساحر، حيث تُظله سماء تضيئها الكواكب والنجوم، وتقله أرض تخضّر أرجاؤها بألوان الأشجار والنباتات المثمرة والزاهية، التي تملأ النفس بالبهجة والسرور، يقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ !وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾[11] .
لقد أضفى الله تعالى على الكون مسحة من الروعة والجمال، ليستمتع الإنسان بهذا الجمال، فتنشرح نفسه، وترتاح مشاعره. إن جمال الطبيعة وزينة الحياة هي من أجل الإنسان، يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾[12] .
ويمكننا أن نستوحي من كثير من النصوص الدينية أن على الإنسان مسؤولية تجاه جمال الطبيعة ونظافة البيئة تتجلى في أبعاد ثلاثة:
1. التفاعل مع روعة الكون وجمال الطبيعة، بالتأمل والنظر، ليدرك الإنسان عظيم قدرة الله تعالى، وإبداعه في خلقه، وليسعد الإنسان نفسه بالبهجة واللذة والسرور عبر مناظر الحسن والجمال.
2. الحفاظ على جمال الطبيعة ونظافة البيئة، وعدم العبث بها أو تلويثها، يقول تعالى: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾[13] .
3. الالتزام برعاية النظافة وإظهار الأناقة والجمال في الحياة الشخصية.
النظافة هي النقاوة، بمعنى الخلو من الوسخ والدرن والدنس، ونظّف الشيء أي نقاه بإزالة القذارة والوسخ منه.
ومن الطبيعي أن تعرض القذارة والوسخ على جسم الإنسان وثيابه والأشياء التي يستخدمها، من خلال ما يفرزه الجسم من فضلات، أو ما يحصل من أسباب خارجية.
وعلى الإنسان أن يتعهد جسمه وثيابه ومكان تواجده والأدوات التي يستخدمها في شؤونه بالتنظيف والتطهير، ليعيش نظيفًا نقيًا في محيط نظيف نقي.
وقد أضفى الإسلام على النظافة صبغة دينية، فأوجب بعض مظاهرها، وندب إلى كل ما يرتبط بها، وعدّها جزءًا لا يتجزأ من حالة الإيمان والتدين.
روي عن رسول الله أنه قال: (النظافة من الإيمان والإيمان وصاحبه في الجنة)[14] .
وجاء في سنن الترمذي عنه : (إن الله طيِّب يحب الطيِّب نظيف يحب النظافة)[15] .
وفي كنز العمال عنه : (تنظفوا بكل ما استطعتم، فإن الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنة إلا كل نظيف)[16] .
وقد تحدثت النصوص الدينية عن التزام النظافة في جزئيات مواردها، وتفاصيل ممارساتها، كما أنها شغلت مساحة واسعة من مسائل الفقه الإسلامي ضمن عدد من أبواب الفقه، وبخاصة كتاب الطهارة. والطهارة كمصطلح إسلامي تعني النظافة والنزاهة.
والأحكام الشرعية الكثيرة في كتاب الطهارة تُعنى كلها بنظافة الإنسان من القذارة والدنس في البُعدين المادي والمعنوي.
وقد انبرى أحد الفقهاء المعاصرين -هو الإمام السيد محمد الشيرازي- فلملم شتات ما يرتبط بالنظافة المادية والمعنوية من مسائل الفقه في مجلد كبير تحت عنوان (الفقه/ كتاب النظافة)، وطبع في أكثر من 550 صفحة[17] .
تقف النظافة حائلاً دون نمو البكتريا والجراثيم المسببة للأمراض عند الإنسان، وإضافة إلى ضرورة النظافة لصحة الجسم، فإنها تنعكس على الجانب النفسي للإنسان، فيشعر بالراحة والارتياح، كما تساعده على النجاح في علاقته مع الآخرين، وارتباطه بهم، حيث يرتاحون إلى مجالسته والاقتراب منه، بينما ينفرون ويتقززون من الشخص الذي تنبعث منه روائح كريهة، أو يرونه في منظر كريه.
ويأتي في طليعة وسائل نظافة الجسم غسله بالماء، لإزالة البكتريا والجلد الميت والأوساخ والنسالة والمواد الزيتية من الجسم. وغسل الجسم بالماء يبعث على الحيوية والنشاط.
وقد أوجب الإسلام على الإنسان غسل جميع جسمه في عدد من الموارد، فيما يطلق عليه فقهيًّا الأغسال الواجبة، كغسل الجنابة وغسل مسّ الميت وغسل الحيض والاستحاضة والنفاس، فيما يختص بالمرأة، وهناك موارد كثيرة ندب الإسلام فيها لغسل الجسم ضمن الأغسال المستحبة.
ويرى السيد الشيرازي أنه (يستحب الغسل في كل يوم، وليس ذلك من دخول الحمام المكروه كل يوم، فإن الغسل مثل الوضوء، كما يستحب دوام التطهير بالوضوء، كذلك يستحب الغسل كل يوم، على ما يفهم عن خبر حنان بن سدير قال: دخل رجل من أهل الكوفة على أبي جعفر فقال له: (أتغتسل من فراتكم في كل يوم مرة؟)[18] .
كما يستحب الغسل طلبًا للنشاط، فعن ابن طاووس قال: رأيت في بعض الأحاديث: أن مولانا عليًّا كان يغتسل الليالي الباردة طلبًا للنشاط في صلاة الليل[19] .
والى جانب الغسل شرع الله تعالى الوضوء، وهو غسل ومسح لأربعة أجزاء ظاهرة من الجسم، الوجه واليدان والرأس والقدمان، إضافة إلى بعض المستحبات فيه كالمضمضة والاستنشاق، وموارده الواجبة تفرض القيام به أكثر من مرة في اليوم لأداء فرائض الصلاة اليومية، كما يجب ويستحب لجميع الأعمال العبادية والحياتية، بل هو مستحب في حد ذاته.
ولمزيد من الاهتمام بنظافة جميع أجزاء جسم الإنسان، تحدثت النصوص الدينية بالتفصيل عن العناية بنظافة كل عضو من أعضائه، بدءًا من غسل شعر الرأس وحلاقته، واستحباب تسريحه وتمشيطه وتدهنه، وكذلك شعر اللحية والشارب، مرورًا بنظافة العين وكحلها، وتنظيف الأنف، والتشديد على نظافة الفم وتعاهد الأسنان بالسواك، والذي كاد رسول الله أن يجعله فريضة واجبة عند كل صلاة، لولا خوف المشقة على الناس، حيث ورد عنه أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)[20] وانتهاء بتقليم الأظافر.
إن ورود هذا العدد الكبير من الأحاديث والروايات حول نظافة الجسم، تدل على مدى اهتمام الإسلام بموضوع النظافة والطهارة. حتى عند النوم ينبغي للإنسان أن ينام نظيف الجسم، جاء عن رسول الله : (طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهرًا إلا بات معه ملك في شعاره، ولا يتقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً)[21] .
وجاء عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (من تطهر ثم أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده)[22] .
من أجل أن يعيش الإنسان في بيئة نظيفة، أكد الإسلام على رعاية النظافة في كل جوانب الحياة، كنظافة الثياب، ونظافة البيت، ونظافة الطعام والشراب، ونظافة الشوارع والمرافق العامة كالمساجد، ونهى عن أي تلويث عبثي للبيئة، أو تخريب شي من جمال الطبيعة، وهذا ما تفيض به الأحاديث والروايات الكثيرة.
بل اهتمت بعض النصوص الدينية بالحث على رعاية نظافة الحيوانات، فهي جزء من البيئة، ولحياة الإنسان بها ارتباط وثيق، وعدم الاهتمام بنظافتها ونظافة بيئتها يجعلها في معرض الخطر على صحة الإنسان وسلامته.
جاء عن رسول الله أنه قال: (نظفوا مرابض الغنم وامسحوا رغامهن)[23] .
والرغام هو التراب، أي امسحوا التراب وأزيلوه عنها، وفي رواية أخرى: امسحوا رعامها، أي المخاط الذي يسيل من أنوفها.
وفي حديث آخر عنه أنه قال: (امسحوا رغام الغنم وطيبوا مراحها)[24] .
وأورد الزمخشري في ربيع الأبرار عنه أنه قال: (امسحوا رغام الشاء، ونقّوا مرابضها من الشوك والحجارة)[25] .
النظافة بمعنى النقاوة، وإزالة الأوساخ والأدران هي المستوى الأول من مستويات الجمال الذي يحبه الله، لذا لا تقف عند حده النصوص والتوجيهات الدينية، بل تطالب الإنسان بالارتقاء إلى مستوى الأناقة والتجمل واستخدام وسائل الزينة.
يقول السيد الشيرازي: النظافة والطهارة شيء، والجمال شيء، فكما أمر الإسلام بالطهارة والنظافة المادية والمعنوية وجوبًا أو ندبًا، كذلك أمر بالجمال في كل الأمور، من الجمال المعنوي، والجمال المادي في الملابس والبدن والأثاث والمتاع، وفي كل شيء، وذلك لإطلاق المتعلق في الروايات[26] .
إن الله تعالى يأمر بني البشر بأن يتزينوا، وأن يظهروا زينتهم وأناقتهم في أماكن العبادة ومواقع الاجتماع، يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[27] .
وردًّا على الأفكار المتخلفة التي تصوّر الدين وكأنه يعني عدم الاهتمام بشؤون الحياة، والعزوف عن متعها ومباهجها، وترك الأناقة والزينة والتجمل، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾[28] .
إنه منطق عقلي وجداني، فلو كان استخدام الزينة حرامًا، والتمتع بالجمال ممنوعًا، لما خلق الله ذلك وهيأه للعباد، ولما غرس في نفوسهم الميل إليه، ثم إن المؤمن أولى بنعم الله تعالى من غيره.
وحين يأمر الله تعالى عباده بالأناقة والتجمل، عند أداء الصلاة ومواقع العبادة، فإن ذلك يعني محبوبية هذا المظهر عند الله تعالى، وأنه جزء من حالة العبادة والامتثال لله، وأنه سمة مطلوبة في شخصية الإنسان المسلم.
وقد ورد كثير من الأحاديث والروايات التي تؤكد على ذلك، وتتناول تفاصيل مظاهر الأناقة والزينة والجمال.
أورد بن عساكر عن علي عن رسول الله أنه قال: (اغسلوا ثيابكم، وخذوا من شعوركم، واستاكوا وتزينوا، وتنظفوا)[29] .
وجاء في الكافي عن بريدة بن معاوية قال: قال أبو عبدالله الصادق لعبيد بن زياد: (إظهار النعمة أحب إلى الله من صيانتها فإياك أن تتزين إلاَّ في أحسن زيّ قومك)، قال: فما رئي عبيد إلاَّ في أحسن زيّ قومه حتى مات [30] .
وعنه قال: (إن الله عز وجل يحب الجمال والتجمل، ويبغض البؤس والتباؤس، فإن الله إذا أنعم على عبدٍ نعمة أحب أن يرى عليه أثرها، قيل: كيف ذلك؟ قال : ينظف ثوبه، ويطيّب ريحه، ويجصص داره، ويكنس أفنيته، حتى أن السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق)[31] .
وعنه : (البس وتجمل فإن الله جميل يحب الجمال)[32] .
وعنه قال: أبصر رسول الله رجلا شعثًا شعر رأسه، وسخة ثيابه، سيئة حاله، فقال : (من الدين المتعة)[33] .
وجاء في مكارم الأخلاق للطبرسي عن النبي أنه كان نظر في المرآة، ويرجّل جمته، ويمتشط، وربما نظر في الماء وسوّى جمته فيه، ولقد كان يتجمل لأصحابه فضلا عن تجمله لأهله، وقال: إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم وبتجمل[34] .