الجمعــة يـوم الأناقـة والزينـة
لا يحتاج الإنسان إلى أدلة وبراهين ليتأكد من حسن النظافة ورجحان الأناقة، فهو يدرك ذلك بفطرته ووجدانه، إن كل إنسان سويِّ يجد في نفسه الميل لمظاهر الجمال، والارتياح للشيء النظيف والهيئة الأنيقة.
ودفعًا لأي غفلة أو إهمال من جانب الإنسان، تذكّر النصوص الدينية بأهمية النظافة وفوائدها لحياة الإنسان في أبعادها المختلفة.
ومن أبرز ما أشارت إليه تلك النصوص الآثار التالية:
أولا: محبة الله تعالى ورضاه، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[1] . والتوبة نظافة معنوية تزيل أدران الذنوب والمعاصي، بينما الطهارة نظافة مادية.
وعن رسول الله قال: (إن الله يحب الناسك النظيف)[2] .
لذا فإن من لا يهتم بالنظافة يخسر محبة الله، كما ورد عن علي أنه قال: (إن الله عز وجل يبغض من عباده القاذورة الذي يتأنف به من جلس إليه)[3] .
إن الزينة والتجمل إظهار لنعمة الله تعالى على الإنسان، والله تعالى يحب ذلك ويكره التنكر لنعمه وتجاهلها، وقد قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[4] .
جاء في تفسير القرطبي عن النبي أنه قال: ( من أُعطى خيرًا فلم يُر عليه، سمي بغيض الله، معاديًا لنعم الله). وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال: كنت عند رسول الله جالسًا، فرآني رَثّ الثياب، فقال : ألك مال؟ قلت: نعم يا رسول الله، من كل مال، قال : (إذا آتاك الله مالاً فليرَ أثره عليك). وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: (إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده)[5] .
ثانيا: راحة النفس، فالنظافة والأناقة تبعث في نفس الإنسان الراحة والسرور، وتمنحه الحيوية والنشاط، بينما تكون الأوساخ والقذارة من دواعي الكآبة والضجر، وتجلب الهم والغم.
يقول السيد الشيرازي: إن النظافة بالإضافة إلى كونها طهارة وجمالاً، وصحة وعافية، توجب انشراح النفس، والنفس المنشرحة مبعث كل خير، بخلاف النفس المنقبضة التي هي سبب كل تأخر وانهزام، كما ثبت في علم النفس[6] .
جاء عن الإمام علي أنه قال: (النظيف من الثياب يذهب الهم والحزن)[7] .
ثالثا: حماية الصحة، فالوسخ والقذارة هي بيئة البكتيريا والجراثيم الضارة، ولعل ذلك هو ما تطلق عليه بعض النصوص عنوان الشيطان كالحديث المروي عن رسول الله أنه قال: لا تبيتوا القمامة في بيوتكم وأخرجوها نهارًا فإنها مقعد الشيطان)[8] ، وحين تعتل صحة الإنسان تنخفض حركته وفاعليته، كما يستهلك علاج الأمراض ثروته.
لذلك تشير بعض النصوص الدينية إلى علاقة بين النظافة وطول العمر وزيادة الرزق، وإلى ارتباط بين القذارة والفقر والمرض.
روي عن الإمام الباقر أنه قال: (كنس البيوت ينفي الفقر)[9] ، وعن ابنه الإمام جعفر الصادق قال: (اغسلوا أيديكم قبل الطعام وبعده فإنه ينفي الفقر ويزيد في العمر)[10] .
رابعا: كسب مشاعر الآخرين: حيث يرتاح الناس للشخص النظيف، والهيئة الجميلة، والمظهر الأنيق، بينما ينفرون من الشخص القذر، والمنظر الكريه، ويصدق ذلك على القريبين والبعيدين من الإنسان، لذلك ينبغي لمن يحترم نفسه أن يبدو نظيفًا أنيقًا، داخل بيته وضمن عائلته، ومع القريبين منه، كما يحرص على ذلك أمام الآخرين.
جاء عن رسول الله أنه قال: (إن الله تعالى يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل)[11] .
وعن أبي عبدالله الصادق قال: قال أمير المؤمنين : (ليتزين أحدكم لأخيه المسلم كما يتزين للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة)[12] .
وقد نهى رسول الله أن يأتي إلى المسجد من أكل ثوما أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها، حتى لا يتأذى الناس من رائحتها الكريهة. جاء في صحيح مسلم[13] عن جابر بن عبدالله أن رسول الله قال: (من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته).
وفيه أيضا عنه : (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا، ولا يؤذينا بريح الثوم)[14] .
وورد عن علي : (من أكل شيئًا من المؤذيات بريحها فلا يقربن المسجد)[15] .
التزام النظافة وإظهار الأناقة يجب أن يكون خلقًا دائمًا للإنسان المسلم، وليس حالاً موسميًّا يرتبط بزمان أو مكان خاص، فالأحكام الشرعية المتعلقة بالطهارة والنظافة تغطي كل أوقات وحالات الإنسان كصفة دائمة مستمرة.
وحتى عند الوفاة أوجب الله تعالى تغسيل الميت ثلاث مرات، بماء السدر، ثم بماء الكافور، ثم بالماء القراح[16] . بعد إزالة أيِّ نجاسة وقذارة عن جسده، ولو خرجت من الميت نجاسة أو أصابته نجاسة، أثناء تغسيله، أو بعد تكفينه، وجب إزالتها، وإذا تنجس الكفن وجب إزالة النجاسة، ولو بعد وضع الميت في قبره، بغسل مكانها، أو قرضها من الكفن، أو بتبديل الكفن مع الإمكان[17] .
هذه الأحكام الشرعية وأمثالها تؤكد التزام النظافة في جميع الحالات والأوقات.
وتتأكد أهمية النظافة والأناقة في الأزمنة المباركة، والأماكن المقدسة، وعند مباشرة الأعمال المهمة.
إن الله تعالى يأمر عباده أن يتخذوا مظاهر الأناقة والزينة عند ذهابهم إلى المساجد، وتوجههم لأداء العبادة، لكي ينفي أي تضادٍ بين الاستمتاع بمباهج الحياة والتطلع إلى رضوان الله وسعادة الآخرة، ولتكون صورة الاجتماع الإسلامي زاهية ببهاء العبادة والخشوع، وجمال المنظر والمظهر. يقول تعالى:﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[18] .
ويوم الجمعة، وهو سيد الأيام، وفيه تقام أعظم فريضة صلاة وهي صلاة الجمعة، وهو موعد تلاقي المسلمين واجتماعهم، لذلك تتأكد فيه مراعاة النظافة وإظهار الأناقة والزينة والجمال.
من أجل أن يتمتع المسلم فيه بأعلى درجات الحيوية والنشاط، وتكون نفسه في غاية السرور والانشراح، وليحقق الامتثال لأمر ربه بإظهار نعمه عليه، فينال محبة الله ورضاه الذي يحب المتطهرين ويحب الجمال.
وليكون المسلم عند حضوره صلاة الجمعة، والتقائه إخوانه المسلمين في كامل أناقته وزينته، ليشترك معهم في تكوين صورة المجتمع الحضاري الجميل.
وفيما يلي بعض برامج النظافة والأناقة ليوم الجمعة حسبما ورد في النصوص الدينية.
تؤكد أحاديث كثيرة على أهمية غسل الجمعة وفضله، وبعضها ظاهر في وجوبه، وهو ما أفتى به بعض قدامى الفقهاء، لولا وجود قرائن أخرى تصرف ظاهر تلك الأحاديث إلى قصد التأكيد على ندبه واستحبابه، وهو الرأي السائد عند الفقهاء سنة وشيعة.
جاء في صحيح البخاري ووسائل الشيعة عن عبدالله بن عمر أن رسول الله قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل[19] .
وفيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: غسل الجمعة واجب على كل محتلم[20] .
وعن عبدالله بن المغيرة قال: سألت الإمام الرضا عن الغسل يوم الجمعة؟ فقال : واجب على كل ذكر وأنثى، عبد أو حر[21] .
وعن الإمام الباقر قال: لا تدع الغسل يوم الجمعة فإنه سنة[22] .
وعن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن – الإمام موسى الكاظم - عن النساء، أعليهن غسل الجمعة؟ قال: نعم[23] .
وعن الأصبغ قال: كان أمير المؤمنين إذا أراد أن يوبّخ الرجل يقول: والله لأنت أعجز من التارك الغسل يوم الجمعة، فإنه لا يزال في طهر إلى الجمعة الأخرى[24] .
وروي عن الإمام الصادق في علة غسل يوم الجمعة، قال: إن الأنصار كانت تعمل في نواضحها وأموالها، فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد، فتأذى الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم، فأمرهم رسول الله بالغسل فجرت بذلك السنة[25] . وورد في صحيح مسلم عن عائشة قريب من مضمونه[26] .
وكيفية غسل الجمعة كغسل الجنابة، بنية التقرب إلى الله تعالى، ووقته من طلوع الفجر إلى الزوال من يوم الجمعة، ولو اغتسل بعد الزوال إلى الغروب نواه قربة مطلقة، دون قصد الأداء والقضاء، وإذا فاته الاغتسال يوم الجمعة قضاه يوم السبت إلى الغروب، ويجوز تقديمه يوم الخميس رجاءً إن خاف فقدان الماء يوم الجمعة، وإذا توفر له الماء يوم الجمعة أعاده فيه.
ويصح غسل الجمعة من الجنب، ويجزئ عن غسل الجنابة، وكذا يصح من الحائض إذا كان بعد النقاء، ويجزئ حينئذٍ عن غسل الحيض.
ويكفي غسل الجمعة عن الوضوء عند فقهاء السنة وأكثر فقهاء الشيعة كالسيد السيستاني والسيد الخوئي، ومنهم من لا يرى كفايته عن الوضوء كالإمام الخميني والسيد الشيرازي.
وقصر معظم فقهاء السنة استحباب غسل الجمعة على من يحضر صلاة الجمعة، وقوفا عند نص الحديث: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل[27] . بينما يرى فقهاء الشيعة شموله لجميع المكلفين، تبعًا لإطلاق الروايات الواردة.
ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: تقليم الأظفار، وقصّ الشارب، وغسل الرأس بالخطمي، كل جمعة، ينفي الفقر، ويزيد في الرزق[28] .
والخطمي نبات كان يغسل به الشعر، يؤدي دور السوائل المستعملة حاليا لغسل الشعر – شامبو-.
وعن علي بن عقبة، عن أبيه قال: أتيت عبدالله بن الحسن فقلت: علمني دعاءً في طلب الرزق، فقال: قل: اللهم تولّ أمري ولا تولّ أمري غيرك، فعرضته على أبي عبدالله - جعفر الصادق - فقال: ألا أدلك على ما هو أنفع من هذا في طلب الرزق؟ تقص أظافيرك وشاربك في كل جمعة[29] .
وروي عن رسول الله أنه قال: ليأخذ أحدكم من شاربه، وشعر أنفه، وليتعاهد نفسه، فإن ذلك يزيد في جماله[30] .
الروائح الزكية العطرة تشرح النفس، وتنعش الأحاسيس والمشاعر، وتريح الأعصاب، روي عن رسول الله أنه قال: الرائحة الطيبة تشدّ القلب[31] .
لذا جاءت الأحاديث والروايات تحث الإنسان على استخدام الطيب، وخاصة في يوم الجمعة، وعند الذهاب إلى أماكن العبادة والاجتماع، وحين التقاء الآخرين.
عن أبي عبدالله الصادق قال: كانت لرسول الله ممسكة – من المسك – إذا هو توضأ أخذها بيده وهي رطبة وكان إذا خرج عرفوا أنه رسول الله لرائحته[32] .
وقال الإمام الكاظم : كان يعرف موضع سجود أبي عبدالله بطيب ريحه[33] .
وجاء عن رسول الله أنه قال: حق على كل مسلم الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة[34] .
وعن معمر بن خلاّد عن الإمام موسى الكاظم قال: لا ينبغي للرجل أن يدع الطيب في كل يوم، فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم لا، فإن لم يقدر ففي كل جمعة ولا يدع[35] .
وعن أبي عبدالله الصادق قال: قال عثمان بن مظعون لرسول الله : قد أردت أن أدع الطيب، وأشياء ذكرها، فقال رسول الله : لا تدع الطيب، فإن الملائكة تستنشق ريح الطيب من المؤمن، فلا تدع الطيب في كل جمعة[36] .
وعنه قال: قال رسول الله: ليتطيب أحدكم يوم الجمعة ولو من قارورة امرأته[37] .
عندما يريد الإنسان لقاء شخصية مهمة ذات موقع ومقام، فإنه يتهيأ لذلك بلبس أفخر ملابسه وأجمل زينته، وكذلك الحال عند حضور الإنسان في مجلس الوجاهة، ومناسبات الأفراح.
ولأن عظمة الله تعالى تملأ نفس الإنسان المؤمن، ولأن العبادة والصلاة تعني الحضور بين يدي الله تعالى، لذلك ينبغي أن يقبل الإنسان على عبادة ربه بأفضل صور الأناقة والجمال، وبخاصة حين تكون العبادة ذات طابع جمعي كصلاة الجماعة، لما يعني ذلك من تقدير واحترام لمن يلتقيهم من المصلين.
وقد خصت الأحاديث والروايات يوم الجمعة بالتأكيد على أهمية ارتداء الثياب النظيفة الجميلة فيه، واستخدام مظاهر الزينة والأناقة.
جاء في (كتاب فقه السنة) عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مسّ منه. رواه أحمد والشيخان.
وفيه عن ابن سلام أنه سمع النبي يقول على المنبر يوم الجمعة: ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته. رواه أبو داود وابن ماجه.
وروى البيهقي عن جابر أنه كان للنبي برد يلبسه في العيدين والجمعة. وفي الحديث استحباب تخصيص يوم الجمعة بملبوس غير ملبوس سائر الأيام[38] .
وعن هشام بن الحكم قال: قال أبو عبدالله الصادق : ليتزين أحدكم يوم الجمعة، يغتسل ويتطيب، ويسرّح لحيته، ويلبس أنظف ثيابه، وليتهيأ للجمعة[39] .
وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال: سألته عن النساء، هل عليهن من الطيب والتزيّن في يوم الجمعة والعيدين ما على الرجل؟ قال : نعم[40] .
إن هذه الأحاديث والروايات تكشف عن إرادة دينية، بأن يكون يوم الجمعة يوما للنظافة والجمال، في حياة الفرد المسلم، والمجتمع الإسلامي، وأن تكون صلاة الجمعة مظهرا لمستوى حضاري رفيع تعيشه الأمة في البعدين المادي والمعنوي.
وإذا كانت هذه النصوص تتحدث عن برامج ومفردات في مجال النظافة والأناقة، فإنها بمثابة المصاديق والتطبيقات لعنوان وقيمة لا تنحصر بها.
إن النظافة من الإيمان، وكل برنامج يخدم النظافة تشمله دائرة الإيمان، وإن الله يحب الجمال، فكل شكل من أشكاله محبوب عند الله، وقد أمر الله الناس بقوله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[41] . فكل مظهر للزينة مرغوب شرعًا.. لأن مفردات النظافة والجمال والزينة قد تتجدد أشكالها ومظاهرها باختلاف البيئات والعصور، لكنها تبقى محكومة بنفس العنوان مادامت ضمن الضوابط الشرعية.