كيف نحيي عاشوراء
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
أخرج الترمذي وأحمد بن حنبل وابن أبي شيبة والحاكم في المستدرك والبخاري في الأدب المفرد عن يعلى بن مرّة قال: «قال رسول الله : حسين منّي وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبّ حسينًا»[1] .
هذا الحديث وأمثاله أحاديث كثيرة تناقلها الصحابة وأمهات المؤمنين عن رسول الله في حق ولده الحسين، وتوضح بعض الأحاديث كيف أن رسول الله كان يحدّث الأمّة عن مقتل حبيبه الحسين، وهو يبكي والدموع تسيل من عينيه، مما يدلّ على أن رسول الله كان يريد اهتمام الأمّة بهذه الحادثة، لذلك نحن نحتفي بذكرى عاشوراء التي مزّقت قلب رسول الله قبل وقوعها بأكثر من نصف قرن.
الإمام الحسين سيطر وهيمن على القلوب، حتّى إنه ليمكن القول إنه ليست هناك شخصية تجيش لها المشاعر والعواطف كشخصية أبي عبد الله الحسين ، وهذا أمر طبيعي، لأسباب كثيرة، منها:
أوّلاً: ما سمعه الأصحاب من جدّه رسول الله وهو يتحدّث عنه، ويشيد بفضله، ويكفي أنهيقول في حقّه: «حسين منّي وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا». إذ يَعُدُّه جزءًا منه، ويعدُّ محبّته علامةً وشرطًا لمحبته، وكذلك يطلب من الله أن يحب من يحب الحسين، ولذلك نجد في موارد كثيرة يُظهر فيها الصحابة المحبّة والتقدير للحسين.
من ذلك ما جاء عن ابن كثير[2] أن الحسنين كانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما.
وكان الحسنان يذهبان إلى الحج مشيًا، فكل من يمرّ من المسلمين ويرى الحسنين ماشيين ينزل ويمشي لمشي الحسنين، حتى شق المشي على كثير من الحجاج فتحدثوا مع أحد أعلام الصحابة، وطلبوا منه أن يعرض عليهما الركوب أو التنكب عن الطريق، فعرض عليهما ذلك، فقالا: «لا نركب ولكن نتنكب عن الطريق»، وسلكا طريقًا آخر[3] .
وتقول كتب السير كما ورد في الإصابة[4] عن الإمام الحسين أنه دخل مسجد جده رسول الله وهو صغير يقول: «أتيت عمر وهو يخطب على المنبر، فصعدت إليه، فقلت: «انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك». فقال عمر: «لم يكن لأبي منبر»، وأخذني فأجلسني معه أقلب حصًى بيدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله، فقال لي: «من علمك؟» قلت: «والله ما علمني أحد».
وفي الإصابة أيضًا أن عمر قال للإمام الحسين: «إنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله، ثم أنتم»[5] .
وينقل عن عبد الله بن عباس الصحابي الجليل أنه كان إذا خرج الحسن والحسين هيأ لهما الراحلة، وساعدهما في الركوب وأعانهما على لباسهما. فقيل له في ذلك: «أنت أكبر منهما، تمسك لهما، وتسوي عليهما» فزجر السائل قائلاً: «يا لكع، أوَ تدري مَن هذان؟ هذان ابنا رسول الله، أَوَ ليس مما أنعم الله به علي أن أمسك لهما الركاب وأسوي عليهما الثياب»[6] .
وهذا أبو هريرة يحتفي بالإمام الحسين، كما جاء عن أبي المهزم، قال: «كنا مع جنازة امرأة ومعنا أبو هريرة فجيء بجنازة رجل، فجعله بينه وبين المرأة فصلى عليهما، فلما أقبلنا أعيا الحسين فقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال الحسين: «يا أبا هريرة، وأنت تفعل هذا؟ قال أبو هريرة: «دعني فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم»[7] .
وفي حادثة ثالثة ترويها لنا المصادر التاريخية، عن رجاء بن ربيعة قال: «كنت في مسجد رسول الله إذ مر الحسين بن علي فسلم فرد عليه القوم السلام، وسكت عبد الله بن عمرو، ثم رفع ابن عمرو صوته بعدما سكت القوم، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته»، ثم أقبل على القوم فقال: «ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟» قالوا: «بلى»، قال: «هو هذا الماشي» – وأشار إلى الحسين –»[8] .
هذه الحفاوة من الأصحاب ومن المسلمين بالإمام الحسين إنما كانت من الأحاديث التي سمعوها من جدّه رسول الله في حقّ الحسنين، وفي حقّ الحسين خاصّة.
ثانيًا: شخصية الإمام الحسين في فضله وعلمه وعبادته وأخلاقه، هذه الشخصية التي أسرت النفوس والقلوب.
لقد سجل التاريخ كلمات المدح والثناء على شخصية الإمام من قبل كثير من الصحابة والتابعين عبر العصور.
ثالثًا: شهادته في حادثة كربلاء بما تضمنته من بسالة وشجاعة وبما اكتنفته من مأساة مفجعة. وفي ذلك يقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن في تفسير سورة غافر: «والحسين - رضوان الله عليه - وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب، أكانت هذه نصرًا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرًا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه، يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين»[9] .
قضية كربلاء ليست قضية بسيطة أو عادية، ففي التاريخ الإسلامي والإنساني كثير من الأحداث، لكنّه يمكن القول ـ بضرس قاطع ـ أنه ليست هناك حادثة وقضية توازي حادثة كربلاء، فليس هناك حادثة مستقبلية تحدّث عنها رسول الله بالاهتمام الذي تحدّث به عن واقعة كربلاء، فهناك روايات كثيرة تنقلها أمّهات المؤمنين كأم سلمة وعائشة، وكذلك يرويها جمع من الصحابة كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله بن عبّاس وأنس بن مالك وأمثالهم، كلهم ينقلون أنهم رأوا رسول الله باكٍ، فيسألونه: «ما الذي يبكيك يا رسول الله؟» فيجيبهم: «لقد دخل عليَّ البيت مَلَك لم يدخل عليَّ قبلها[10] ـ وفي بعض الروايات أتاني جبريل[11] ، وفي بعضها هبط عليَّ ملك المطر[12] ـ فقال لي: إن ابنك هذا – حسين - مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء»، وفي بعض الروايات أن الرسول أراهم هذه التربة[13] ، وهذه الروايات موجودة في كتب الفريقين الشيعة والسنة.
وتروي بعض المصادر الحديثية عن أم سلمة أنها احتفظت بتلك التربة التي قال لها رسول الله عنها: «إذا رأيتِ هذه التربة وقد فاضت دمًا عبيطًا فاعلمي أن حسينًا قد قتل» وأنها كانت ظهر اليوم العاشر من المحرّم نائمة فانتبهت من النوم فزعة مرعوبة، فسئلت: «ما أرعبكِ يا أم المؤمنين؟» قالت: «رأيت رسول الله في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب فقلت مالك يا رسول الله؟ قال: شهدتُ قتل الحسين آنفًا»[14] ، فبادرت أم سلمة إلى تلك القارورة التي تحتفظ فيها بتربة كربلاء فرأتها وقد فاضت دمًا عبيطًا.
وعن عبد الله بن عبّاس أنه كان نائمًا ظهر اليوم العاشر من المحرّم، فانتبه وهو فزع، فسئل عن ذلك، فقال: «رأيت النبي فيما يرى النائم بنصف النهار وهو قائم أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم فقلت: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا؟» قال: «هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل التقطه منذ اليوم فأحصينا ذلك اليوم فوجدوه قتل في ذلك اليوم»[15] .
هذه الأحاديث والروايات تدلُّ دلالة واضحة على أن حادثة كربلاء ليست حادثة عادية، كما أن أي إنسان ـ مهما كان رأيه ودينه ـ إذا تأمل أحداثها لا يملك إلاّ أن يتفاعل مع هذه الحادثة المأساوية المفجعة.
لأن حادثة كربلاء تتضمّن البطولة والصمود، فتلك الفئة المحدودة قاومت وسجّلت في التاريخ أروع صفحات الصمود والتضحية، ومن جانب آخر كانت فيها مأساة عظيمة مؤلمة، ولم تحلَّ هذه المأساة بشخص عادي، بل هو ابن رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة، فقد جاء في الحديث: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»[16] ، ولم يقتصر الأمر عليه وإنما تعدّاه إلى أطفاله ونسائه وعائلته، وتطاولت أيدي الإجرام إلى جسمه الشريف بعد مقتله.
لقد سحقوا جثّته بحوافر الخيول، وسلبوا كل ما على جسده، فنهبوا قميصه وسراويله وقلنسوته ونهبوا حتّى عمامته، لدرجة أن بجدل الكلبي جاء ليبحث عمّا يسلبه فلم يجد سوى خاتمًا في خنصر يده، فعالج حتّى ينتزعه فوجد الدماء وقد بنت على الخاتم، فخشي أن يقضي وقتًا في إخراجه، فأخذ خنجرًا وقطع خنصر الإمام[17] ؟!
إن أمرًا بهذه الوحشية والإجرام لم يسبق أن حدث في التاريخ الإنساني لشخص بمكانة الإمام الحسين.
إن استشهاده بهذه الطريقة المأساوية والمؤثّرة من الأسباب التي خلّدت ذكراه ومعه هذه الحادثة.
لا أحد من المسلمين يجهل قدر الحسين، أو لا يحزنه قتل الحسين، أو يرضى عمّا حصل للحسين، فهذا أمر نقطع به، ولكن درجة الاهتمام تتفاوت، وهذا التفاوت في التعامل مع هذه الحادثة ولّد وجود مدرستين:
المدرسة الأولى تقوم على أساس التغاضي عن هذه الحادثة، فنجدها عند البحث التاريخي تدين قتل الحسين، وتبدي التأسف لمقتله، ولا تقبل بذلك، ولكنّ أتباع هذه المدرسة يرون أنه لا داعي للوقوف عند هذه الحادثة طويلاً، وفي بعض الأحيان يحاولون تعويم المسئول عنها، فيبرئون يزيد بن معاوية من تحمّل المسؤولية، كقول ابن تيمية: «يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل»[18] ، أو يشيعون أنه ما كان يريد أن يقتل الحسين، وأنه تصرّفٌ فردي من ابن زياد[19] ، والبعض من أتباع هذه المدرسة يبرئ ساحة عبيد الله بن زياد، ويلقي باللائمة على عمر بن سعد، وأخيرًا نجد من يبرئ عمر بن سعد، كالعجلي في معرفة الرجال[20] ، حيث يقول: «كان أمير الجيش ولم يباشر قتله»، أو يتّهم أهل الكوفة وأهل العراق، الذين هم من الشيعة، فيروّجون بأن الشيعة يبكون على الحسين تكفيرًا عن ذنبهم بقتله وخذلانه، وهذا كلّه تعويم للمسؤولية وكأن القاتل مجهول، بينما القضية واضحة في جميع المصادر التاريخية.
وهذه المدرسة يمكن عَدُّها امتدادًا لما كانت تشيعه السلطات الأموية وبعد ذلك العبّاسية.
حيث كانت هذه السلطات تريد التغطية على هذه الجريمة النكراء والتعتيم عليها، لأنه ليس في مصلحة الأمويين إثارة حادثة استشهاد الإمام الحسين وإشهارها، بل إن التاريخ ينقل كيف كان الأمويون يحاولون تحويل يوم عاشوراء إلى يوم عيد وفرح، وخاصّة في زمن عبد الملك بن مروان[21] ، حيث ظهرت هذه الحالة بشِكْلٍ واضح.
ونجد في الزيارة الواردة عن الإمام الباقر ما يشير إلى هذا المعنى، يقول: «اللهمّ إن هذا يوم تبرّكت به بنو أمية وابن آكلة الأكباد»[22] .
ويقول الشيخ القرضاوي: «رأينا أكثر بلاد المسلمين يحتفلون بيوم عاشوراء يذبحون الذبائح ويعتبرونه عيدًا أو موسمًا يوسعون فيه على الأهل والعيال اعتمادًا على حديث ضعيف، بل موضوع في رأي ابن تيمية وغيره، وهو الحديث المشهور على الألسنة: «من أوسع على عياله وأهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته». قال المنذري: «رواه البيهقي وغيره من طرق عن جماعة من الصحابة»، وقال البيهقي: «هذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أخذت قوة».
وقال القرضاوي: «وفي هذا القول نظر، وقد جزم ابن الجوزي وابن تيمية في منهاج السنة وغيرهما أن الحديث موضوع. وحاول الطبراني وغيره الدفاع عنه و إثبات حسنه لغيره! وكثير من المتأخرين يعزُّ عليهم أن يحكموا بالوضع على حديث، والذي يترجح لي أن الحديث مما وضعه بعض الجهال من أهل السنة في الرد على مبالغات الشيعة في جعل يوم عاشوراء يوم حزن وحداد فجعله هؤلاء يوم اكتحال و اغتسال وتوسعة على العيال»[23] .
هذه الحالة الاحتفالية بيوم عاشوراء كعيد انتهت ولكن آثارها بقيت، هناك بعض المسلمين في بلدان مختلفة لديهم عادات يوم عاشوراء، واهتمامات معيّنة، فيولمون في هذا اليوم ويصنعون بعض الحلويات الخاصّة به ولا يعلمون الخلفية التاريخية لذلك، إنها رواسب الثقافة الأموية، ومن آثار النهج السلطوي الذي كان يريد التعتيم على قضية أبي عبد الله الحسين، ونجد هذا حتّى في المجتمعات الإسلامية التي تكنّ المحبة والمودّة للإمام الحسين وتظهر الحب له، كالمجتمع المصري الذي يظهر الكثير من مظاهر الحب لأبي عبد الله الحسين، كما يظهر ذلك في صعيد مصر والقاهرة حيث يقيمون الاحتفالات الكبيرة والواسعة يوم ميلاد الإمام الحسين، ولكنّ هذا الشعب لا يهتمّ كثيرًا بإقامة ذكرى استشهاده، وهذا كله من تأثير تلك الثقافة التي كانت تريد التعتيم على قضية كربلاء.
المدرسة الثانية:
في مقابل هذه المدرسة هناك مدرسة أخرى تعطي هذه الحادثة حقّها من الاهتمام، وتصرّ على إحيائها، والاهتمام والاحتفاء بها، وترفض هذه المدرسة أن يكون هناك تناسٍ لقضية الإمام الحسين، وهذه هي مدرسة أهل البيت.
فأئمة أهل البيت بعد استشهاد الإمام الحسين بدءًا من الإمام زين العابدين علي بن الحسين كانوا يحرصون ويؤكدون على إحياء هذه المناسبة وهذه الذكرى.
فعن الإمام أبى جعفر الباقر: «ثم ليندب الحسين ويبكيه – إلى أن يقول - وليعز بعضهم بعضًا بمصابهم بالحسين»[24] .
وعن الإمام الرضا: «من كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه جعل الله يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرت بنا في الجنة عينه»[25] .
كذلك ورد الحث من أئمة أهل البيت على إقامة العزاء لهذه المصيبة العظيمة، ومن ذلك ما جاء في استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت يوم عاشوراء واتخاذه يوم مصيبة.
ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا: «كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكًا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه»، ويقول: «هو اليوم الذي قتل فيه الحسين».
وهذا ما تشهده المجتمعات الموالية لأهل البيت، حيث يهتمّون بهذه الذكرى ويعظّمونها، وذلك التزامًا منهم بتوجيهات أهل البيت، فبالنسبة لنا هذه سنّة حسنة وليست بدعة، لأنّنا نعدها تجسيدًا لعناوين إسلامية، وتجسيدُ العنوان الإسلامي ليس بدعة، فنحن نعد ذلك تجسيدًا لأمر الله تعالى في تعظيم الشعائر، يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾، كما أننا نجد ذلك تجسيدًا للتذكير بأيّام الله، يقول سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾، ونجده مصداقًا من مصاديق إظهار المودّة لقربى رسول الله، يقول تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، وهذه جميعها عناوين إسلامية، وتطبيق القاعدة على المصاديق الخارجية ليس بدعة.
كما أنّنا نعد كلام أئمة أهل البيت شرعًا متبعًا، لأنهم ينقلون عن جدّهم رسول الله، كما قال الإمام الصادق: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي عن أبيه عن جدّه عن رسول الله»[26] .
وإذا كان هناك من له رأي آخر فهو حرّ في رأيه، ومن المفترض أن يظل هذا في حدود اختلاف الرأي، ولا يصح أن يصادر طرف رأي وحرّية الطرف الآخر، فنحن بحاجة إلى الاعتراف بحرّية الرأي الآخر، وقبول نتائج الاجتهاد ما دام باب الاجتهاد مفتوحًا، و«للمجتهد ـ إن أصاب ـ أجران، وإن أخطأ أجر»، فهذا اجتهاد وكل يعمل باجتهاده، ولا داعي للإنكار عند اختلاف الاجتهاد.
وهنا لابدَّ أن نقف عند موضوع إحياء هذه الذكرى، وعند الأجواء التي تريد بعض الأطراف أن تملأها بالشحن الطائفي، والتعبئة المذهبية، وخاصّة في هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ الأمّة.
لقد كان التفاؤل يعمر قلوبنا وقلوب كل الواعين والمخلصين، بأن الأمة قد قطعت شوطًا جيّدًا على طريق الوحدة، وأنها تجاوزت العصبيات والخلافات المذهبية، والتعبئة.. والتعبئة المضادّة، هذا التفاؤل والأمل أثارته مبادرات كثيرة في الداخل والخارج، من خلال ما عُقِدَ من مؤتمرات للتقارب بين المذاهب الإسلامية في مختلف بلدان المسلمين، وما أقيم من مؤسسات، وما وضع من كتب وأبحاث، وطرح من محاضرات بهذا الخصوص.
وفي المملكة العربية السعودية كانت مبادرة طيّبة باتجاه الحوار الوطني، ثمّ كانت قمّة مكّة الاستثنائية التي صدر عنها (بلاغ مكة المكرمة)[27] حيث شاركت فيها كل الدول الإسلامية، وتم الإعداد الجيّد لها بحضور أكثر من مئة عالم ومفكّر من بلدان المسلمين، فقدّموا توصيات إلى القادة، وتم إقرار هذه التوصيات، وكانت تنص على الاعتراف بالمذاهب الإسلامية، وعلى ضرورة أن يتفاعل المسلمون وأن يتعاونوا فيما بينهم، وعلى رفض التكفير، ووقف المهاترات بين الأطراف، وعلى الدعوة إلى الوحدة والتقارب.
هذا كلّه أشاع الأمل والتفاؤل في النفوس، ولكنّنا مع الأسف نلحظ أن المسيرة تمرّ هذه الأيام بشيء من الانتكاسة، حيث بدأت أصوات متطرّفة متشنّجة تملأ الأجواء، وتعكّر صفو الودّ بين المسلمين، وكأنّنا نعود للمربّع الأول.
قد لا نحتاج إلى مزيد من التأمّل، فالقضية واضحة، حيث حدث كل هذا بعد أن اهتزّ كيان إسرائيل على يد المقاومة اللبنانية، ونحن نرى تداعيات هذا الاهتزاز ونلحظها كل يوم داخل إسرائيل، اهتزازات سياسية واجتماعية، ونموذجها الأبرز تقرير لجنة فينوغراد، التي شكلت من لجان الكنيست الإسرائيلي لبحث أسباب الفشل في حرب تموز على لبنان.
وقد أصبحت الدولة العبرية بفعل هذه الاهتزازات ومشروعها الصهيوني في خطر.
وقد هال الشياطين وأعداء الأمة المستكبرين هذا الأمر، فأصبحوا يخططون ويعملون من أجل إعادة الأمة إلى حالة الفتنة الداخلية، وتأجيج الصراع والفتن، وكأن مشكلتنا ليست إسرائيل، ولا الهيمنة الأمريكية، ولا الإساءات التي تحصل اتجاه نبينا محمد، بل أصبحت المشكلة خطر السنة على الشيعة، وخطر الشيعة على السنة.
بطبيعة الحال لا يمكننا أن نحمّل الأعداء كل المسؤولية، فأرضيتنا كانت مهيأة ومستعدّة لمثل هذه الأمور، فممّا يؤسف له أن مجتمعاتنا العربية هي من بين أكثر المجتمعات التي تعيش حال التمزّق في العالم، فمعظم المجتمعات في العالم وصلت إلى حلٍّ لخلافاتها، فاتفقت على دستور وقانون يرجع إليه، وإلى تداول سلمي للسلطة، وعلى أنظمة عادلة تدير شؤونهم وأمورهم، لكنّ مجتمعاتنا العربية لا تزال تعيش هذه الحالات المؤلمة من التمزّق والتشتت.
بدئًا بالعراق التي تعيش أوضاعًا مؤلمة، وأودّ أن أؤكد في مسألة الموضوع العراقي إلى أن ما يحصل هناك لا يمت بصلة إلى الحالة المذهبية والصراع المذهبي، فلا يوجد طرف في العراق يقاتل من أجل عقيدته، وإنما كل طرف يقاتل من أجل وجوده كجماعة وطائفة، لتنال هذه الطائفة حقوقها السياسية في المناصب والمواقع، فهو صراع سياسي على الأدوار والحصص والمواقع، كما أننا لا نسمع أن في العراق اختلافًا على هذه الفكرة أو على هذه العقيدة أو هذا الرأي، وإنما الصراع يتركّز على المواقع السياسية، وهذه مشكلة تعيشها مجتمعاتنا العربية في كل مكان، وإنما يستعمل المذهب والطائفة في العراق كعنوان فقط.
ومما يدلل على ذلك أن بلدانًا عربية لا يوجد فيها تنوع مذهبي ومع ذلك نجد فيها حروبًا وصراعات لا تنتهي، ومن أبرز هذه المناطق: منطقة دار فور في السودان.
فدارفور كانت سلطنة مستقلّة عند قيام الحرب العالمية الأولى، ولكنها وقفت مع الدولة العثمانية، فانتقم منها البريطانيون فيما بعد وأضافوها إلى السودان، وأهملوا تنميتها.
مساحتها: 500 ألف كلم2، وسكانها يزيدون على ستة (6) ملايين نسمة.
هذه المقاطعة السودانية تعيش حربًا أهلية منذ خمس سنوات، وتحاول الأمم المتحدة أن تتدخّل وكذلك قوات الاتحاد الإفريقي، والإحصائيات تذكر أن ضحايا هذه الحرب بلغ أكثر من 200 ألف قتيل، وأكثر من مليوني مشرّد. والملايين الأربعة الباقية يعيشون على الإغاثة الدولية كليًّا أو جزئيًّا.
كما تشير التقارير إلى أن قرى بكاملها قد أحرقت بسبب الأوضاع المتأزمة، بالإضافة إلى انتشار حالات الجريمة والاغتصاب والخطف.
إن أهل دار فور جميعهم ينتمون إلى قبائل عربية، بعضها ترجع في جذورها إلى أصول عربية وأخرى إلى أصول إفريقية، وكلهم مسلمون ينتمون إلى المذهب المالكي، أي إنهم من أهل السنة والجماعة، ومع ذلك نرى رحى هذه الحرب التي لم تتوقف منذ أكثر من خمس سنوات.
المشكلة هي في عدم القدرة على التوافق داخل المتجمّعات العربية، حيث يحكمها خلل في العلاقات بين الأطراف.
وهذا أمر نجده كذلك في الصومال، فهذه الدولة تعدُّ من الدول القلائل المتجانسة سكّانيًّا، فكل دول العالم فيها تنوّع عرقي وقومي، وخمسة بالمئة منها فقط متجانسة، والصومال تعدُّ إحدى هذه الدول القليلة المتجانسة، لأن الشعب الصومالي ينتمي إلى عرق واحد، وقومية واحدة، ودين واحد، ومذهب واحد، فالصوماليون كلهم عرب مسلمون من أتباع المذهب الشافعي.
ولكن الشعب الصومالي له الآن أكثر من 30 سنة يعيش حالة التمزّق والحروب الداخلية التي أسقطت الدولة، ولم تقم لها قائمة منذ سنة 1991 م، وهذا يجري في بلد لا يعيش تنوّعًا مذهبيًّا ولا عرقيًّا.
وفي أفغانستان لم يكن الصراع فيها بين سنة وشيعة، فبعد انتهاء الاحتلال الروسي حكم المجاهدون، وهم في الأساس من أهل السنة والجماعة، ثم قامت عليهم حركة طالبان ـ وهم من أهل السنة والجماعة، وحكمت أفغانستان، وبعد ذلك تحالفت أحزاب المجاهدين: حلف الشمال مع الأمريكيين والقوى الغربية وأسقطوا حركة طالبان، والآن تقوم طالبان من جديد تتحرّك وتفجّر مراكز ومناطق لأهل السنة والجماعة، ففي أفغانستان الصراع ليس دائرًا بين السنة والشيعة.
وما نراه اليوم في فلسطين، وهو أمر تتمزّق له قلوبنا، فهذا الشعب الفلسطيني المظلوم الذي تُحتل أراضيه، تدور عليها صراعات بين فصائله المختلفة، من خطف وقتل واستعمال للسلاح وأجواء متشنّجة، وهي صراعات ليست بين السنة والشيعة.
هذا كله يعني أن الصراعات الموجودة في مجتمعاتنا العربية لها جذور غير مسألة التنوّع المذهبي، فنحن كأفراد وفئات في هذه المجتمعات نعيش خللاً في العلاقات، وهناك افتقاد للنظام العادل الذي يتمتّع الجميع فيه بحقوق مواطنة متساوية.
نحن نَعُدُّ إقامة ذكرى عاشوراء ليس مجرّد إثارة للعواطف والمشاعر، أو اجترار للكآبة والحزن، وإنما نحيي هذه الذكرى لنستلهم منها القيم، ولذلك أؤكد على ثلاثة دروس يمكن استفادتها من عاشوراء وإقامة ذكرى استشهاد الإمام الحسين، هي كالتالي:
فالإمام الحسين وأصحابه إنما جاهدوا من أجل بقاء الدين وقيم الإسلام، وليس من أجل أطماع وأغراض دنيوية ، يقول الإمام الحسين في سبب خروجه وحركته: «إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[28] . وفي يوم عاشوراء يقول البطل الهاشمي العباس بن علي بن أبي طالب:
والله إن قطعتمو يميني إني أحامي أبدًا عن ديني[29]
ولذلك علينا أن نخرج من أجواء عاشوراء بهذه الروحية، وبعزم وتصميم على الالتزام بتعاليم الدين، والاجتناب عن المعاصي، والتوبة إلى الله تعالى والمواظبة على أداء الصلوات وجميع الواجبات الأخرى.
كان بإمكان الإمام الحسين أن يبقى في داره، وفي مسجد جدّه ـ كما أشار عليه كثيرون، وكما فعل آخرون ـ، لكنّه أبى إلاَّ أن يتحمّل مسؤوليته الشرعية والاجتماعية، يقول: «وأنا أحق من غيّر»[30] .
وهنا يجب أن نأخذ الدروس في أن نتحمّل المسؤولية تجاه وطننا ومجتمعنا، فكل واحد منّا مطالب بدور، وهذا أمر يمارسه الأفراد في جميع دول العالم تجاه مجتمعاتهم، فينخرطون في المؤسسات التطوّعية لتقديم الخدمات للمستفيدين من هذه المؤسسات.
وفي هذا المجال قرأت تقريرًا عن الأعمال التطوّعية في الولايات المتّحدة الأمريكية، يشير إلى أن خمسين بالمئة من الراشدين الأمريكيين يشاركون في الأعمال التطوّعية، وفي فرنسا يشارك ثلث الشعب الفرنسي في الجمعيات التطوّعية، ولكنّ مجتمعاتنا لا يزال الاهتمام بالعمل التطوّعي فيها محدودًا.
إن الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والأندية الرياضية واللجان الخدماتية المختلفة تشكو من نقصٍ في الكوادر والدعم، وهذه المؤسسات تقدم خدماتها للجميع، وهي بحاجة ماسّة للدعم والتنمية والتطوير في مختلف المجالات.
وما دمنا في أيام عاشوراء لا بدَّ أن نشير إلى أهمية التفاعل مع مشروع التبرّع بالدم، فهذه حالة إنسانية وفيها الأجر والثواب، وبخاصّة حينما ينوي الإنسان أن يهدي ثواب التبرّع بالدم إلى أبي عبد الله الحسين.
في ليلة العاشر من المحرّم أمر الإمام الحسين مناديًا ينادي بين أصحابه: «لا يقتل معنا رجل وعليه دين، فقام إليه رجل من أصحابه فقال له: «إن عَلَيَّ دينًا وقد ضمنته زوجتي»، فقال: «وما ضمان امرأة؟»، بمعنى انه ليست لها إمكانات مادية عادة.
وروي عن موسى بن عمير عن أبيه قال: أمرني الحسين بن علي قال: «ناد أن لا يقتل معي رجل عليه دين، فإني سمعت رسول الله يقول: «من مات وعليه دين أخذ من حسناته يوم القيامة»[31] .
لقد أراد الإمام أن يكون المستشهد بين يديه متحرجًا في دينه، خالي الذمة من حقوق الناس وأموالهم، ولا يريد أن يكون سببًا في ضياع أي حق من حقوق الآخرين.
إن الإمام الحسين يقدّم أداء الدين على شرف الجهاد والنصرة له، مع حاجته إلى النصرة، وهذا غاية سمو الأخلاق والنبل، وأنموذج مثالي من الدروس الأخلاقية العظيمة لكل الأجيال في كل زمان، ويجب أن نأخذ من ذلك درسًا، وبخاصّة مع ما نراه من تساهل عند كثيرين في أداء حقوق الناس، فنرى البعض لا يؤدّي الدين الذي عليه، ويسوّف في هذا الأمر، ونرى بعض أصحاب المؤسسات لا يعطون عمالهم أجورهم، وبخاصّة الأجانب منهم، وهذا لا يجوز شرعًا، فقد ورد عن رسول الله قوله: « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه»[32] .
إننا يجب أن نكون حسّاسين تجاه حقوق الناس، فإنه لا يفيد الإنسان أعمال العبادة والخير إذا كان في ذمّته شيء من حقوق الناس. وفي يوم القيامة أول ما يحاسب عنه الإنسان حقوق الناس قبل الصلاة والصوم والحج، ولذلك علينا أن نكون مهتمّين ومراعين لهذه الحقوق.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أبناء الحسين وعلى أصحاب الحسين.
والحمد لله رب العالمين