عناصر القوة بين الضبط والانفلات
مع سيطرة القيم الإنسانية والدينية على تفاصيل حياة الإنسان يتحول المرء من الانفلات والممارسة الرعناء لما يتاح له من نعم وإمكانات وعناصر قوة (على أي صعيد كانت)، إلى المسؤولية تجاه هذه النعم والعناصر, وتكون المعادلة هي التأمل والتأني في اختيار الطريق السليم.
لقد أوتي نبي الله سليمان عناصر قوة مذهلة، فالحديد بين يديه لين لا قسوة فيه، وأعطي منطق الطير، والقدرة على الاستفادة من عفاريت الجن والإنس، لكن القرآن يتحدث عن نظرته لتلك العناصر حين حضر عرش بلقيس بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه بقوله ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾.
الشكر والكفر منحيان بينهما تباعد أبدي، لا يلتقيان في نقطة ولا يتفقان في أمر، فالشكر على القدرات المتاحة للإنسان مقيد لها لأنه يربطها بإرادة المشكور وهو رب العباد سبحانه وتعالى، بينما يحرك الكفر كل دواعي الفلتان والتمرد في نفس الإنسان لأنه أصبح قويا وقادرا، ولا حاجة له لا لربه (والعياذ بالله) ولا للناس، وبين الانفلات والضبط تتحرك سلوكيات الناس أفرادا كانوا أم جماعات، ولا تستثنى من ذلك سياسات الدول المقتدرة تجاه الشعوب والدول الفقيرة والضعيفة.
في منحى الانفلات تكون عناصر القوة أسلحة بيد الإنسان يحصل أن يستخدمها باطشا ومتشفيا ومعتديا، لأنه يرى نفسه وحياته وسيادته وعنفوانه فيها ولا يلحظ عليها (بعد أن تعمي بصيرته) قيدا إنسانيا أو دينيا, وفي المنحى الآخر (الشكر والانضباط) تكون عناصر القوة أمانة بيد الإنسان, أمانة ترعى ضمن نهج ديني وإنساني, وتنطلق مختلف التعاملات معها من هذين المنهجين, فقوامة الرجل على المرأة ليست سلاحا ماضيا ضدها, بل هي أمانة يتحملها الرجل لسعادتها واستقامتها, والغنى المالي ليس سلاحا لإركاع الفقراء، بل هو مسؤولية مضاعفة تجاه هذا المال، من خلال سؤال يبقى حاضرا كالجرس المنبه (من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟), وكذلك الجاه والسمعة والمكانة والسلطة والكثرة, كلها في النهج الديني الإنساني أمانات ضاغطة على الإنسان ومقلقة لهدوئه واستقراره، لأنها تحمله بقدراتها مسؤولية أمام الله.
الفرق شاسع بين من يتعامل مع صغاره وأولاده من منطق التعالي والضرب والزجر والإحساس بالقوة أمامهم فقط دون أي هم آخر, فأيامه ولياليه يقضيها كما لو كان عازبا, وبين من يتعامل معهم بتخصيص جزء من راحته ووقته وماله لمؤانستهم وتربيتهم والعناية بهم, فالأول أعطته الأبوة سطوة ومكانا يمارس من خلاله الهيمنة والتجبر, وأما الثاني فقد حملته الأبوة أمانة يشعر معها بقلق الواجب وضرورة النجاح في المجازة والقيام به، وهذا مثال بسيط يمكن أن تقاس عليه أمور لا عد لها ولا حصر في عالم المال والاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها.
وفي منحى الانفلات تصبح عناصر القوة أهم فاتح ودافع لقوة البطش والتشفي والقسوة في حياة الإنسان, ينقل موقع (العربية نت) بتاريخ 28/سبتمبر/2007 عنوانا مثيرا وهو (سعودي يقتلع عين زوجته لأنها أعدت له حساء عدس) لقد كان خطأ المرأة فادحا في نظر القدرة والقوامة التي رآها بين يديه، لذلك كان خطأ زوجته التي أعدت له شوربة العدس للإفطار بها في شهر رمضان، وعدم التفاتها غفلة لطلبه (شوربة الحريرة) مكلفا جدا حين فقدت إحدى عينيها بسبب غضب صاحب القوامة والقوة واندفاعه ملقيا الشوربة الحارة على وجهها، وفي القصة على الموقع المذكور ما يوقف شعر بدن الإنسان.
هذا السلوك يختلف تماما حين تكون القدرة والقوة منضبطة تحت العنوان الديني والإنساني، لأنها قدرة تستشعر الضعف أمام القوي العظيم، وتعرف الحساب والوقوف بين يديه، أنقل هنا إطلالة أخلاقية جميلة ومعبرة يقول الإمام علي رضي الله عنه: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته) في إشارة منه إلى قوة تستجمع كل محفزات التعدي كالإغراء بـ (الأقاليم السبعة)، وهوان ما يسلب (جلب شعيرة) وضعف المسلوب منه والمعتدى عليه (نملة)، لكنه مع ذلك لا يملك إقداما نحو الاعتداء (ما فعلته).