علمتنا يا والدي
ما زال التردد يأخذ بقلمي تارة نحو العنوان المكتوب وأخرى نحو عناوين أبعد ما تكون عنه في فكرتها وصياغتها وأهميتها، وسبب هذا التردد هو شعور عارم ينتابني بأن هذا الموضوع ربما يصب في وضع لا يتجاوز الحالة الشخصية أو الأسرية على أرقى تقدير، بينما المقال هنا في جريدة اليوم يحاكي مجتمعا كبيرا متعدد الطبقات والتوجهات والثقافات والأمزجة.
ولعل الدافع في حسم المقال باتجاه العنوان المذكور أمور ثلاثة هي باختصار شديد، أولا: ما لمسته من تفاعل ومواساة الجهات المسؤولة العليا في البلاد (السياسية منها والدينية) وكذلك التفاعل الاجتماعي الزاحف من نجران والمدينة المنورة ومكة المكرمة مرورا بالقصيم والرياض ليغطي جميع مناطق المملكة الحبيبة، دون أن أغفل أهلنا في المنطقة الشرقية الذين غمرونا بحضورهم ومواساتهم لنا.
ومن الإنصاف أن أقول إن كل الفضل في سعة العزاء والتواصل الذي حصل فيه يعود لعلاقات أخي فضيلة الشيخ حسن، الذي نسج علاقاته في أطراف البلاد، وصبغها بصبغة إنسانية قحة، ما سمح لها أن تجتاز كل الحدود والحواجز، لتصل إلى فطرة الآخرين ويرتد صداها في مثل هذه المصائب والمواقف الإنسانية.
كابن عايش أباه والتصق به في سنواته الأخيرة سأكتب ما يمكن أن تكون فيه فائدة من خلال ما شاهدته من حياة أبي(رحمه الله) وما يشهد عليه أبنائي معي من ذكريات جميلة لا تنسى.
بيوت كالنجوم:
يحفظ الوالد قسما كبيرا من القرآن الكريم، وعادة ما يقرأ القرآن قبل نومه وبعد أدائه لصلاة الفجر، لقد كانت هذه السيرة معه منذ أيامه الأولى، ومنذ وعيت لما حولي إلى اليوم الذي غلبه المرض فلم يكن قادرا على قراءة القرآن لم ألحظه في يوم من الأيام متخلفا عن هذه العادة الحسنة.
لقد كان يكرر علي في صغري أن البيوت التي يقرأ فيها القرآن تتراءى لأهل السماء نجوما مشعة كما تظهر لنا نحن أهل الأرض نجوم جميلة نراها زينة في السماء، يمكنني أن أقول إن أهم ما نفتقده اليوم هو صوت الوالد الذي كان يصدح بتلاوة آيات القرآن الكريم سواء في الليل أو بعيد صلاة الفجر.
لك خمسة ريالات:
إلى قبل شهر واحد من وفاته(رحمه الله) كان يقول لإبني ابن الثانية عشرة من العمر: اصعد على الكرسي وارفع الأذان وخذ مني ريالا، ويشجع ابنتي الصغيرة على حفظ بعض السور القرآنية الصغيرة في مقابل بعض الريالات المفرحة لها.
لقد كانت هذه سجيته معي أيضا في صغري فمقابل كل سورة وإن كانت مطلوبة في المدرسة كنت أحصل منه على مبلغ مفرح من المال، وقبلي كان يشجع أخي الشيخ حسن على ممارسة الخطابة بعد مجيئه من المدرسة، وقد أعد له كرسيا خاصا ليعتليه ويخطب عليه مقابل نقود تشجيعية بسيطة.
وليس الأمر مقتصرا على التشجيع في القضايا الدينية فحسب، فأولادنا إلى آخر اختبار شهري اجتازوه كانوا يطلعونه على علاماتهم ومعدلاتهم قبلنا لأنه يكرمهم على حسن أدائهم واجتهادهم بخمسة ريالات لهذا وعشرة لذاك وأكثر من ذلك أو أقل لثالث من أولاده وأحفاده، إنه أسلوب تربوي أفادنا وأفاد أولادنا كثيرا.
لماذا تسكت؟
كثير من الناس الذين يزورونا في المجلس ويحضرون معنا بعض الجلسات المحدودة يتعجبون من نوعية العلاقة التي تربطنا كأبناء بوالدنا، علاقة تسودها هيبة المحبة وقداسة الاحترام، لذلك هي في الوهلة الأولى علاقة أصدقاء وليست علاقة أبناء مع أبيهم، علاقة مفاكهة لا يحدها إلا التقدير ومراعاة الحدود الشرعية في التعامل مع الأب.
كنا أولاده الثلاثة نجتمع مع عوائلنا كل يوم خميس على وجبة غذاء كان يحرص عليها وعلى مواصلتها وعدم انقطاعها، وكنا فيها نتسامر معه بأريحية مهما بالغت في تفاصيلها فلن تعكس الجو السائد بيننا، وإذا رأى أن أحدنا قصره الجواب في الرد على أخيه الممازح له، انبرى الوالد قائلا : أما سمعت ما قاله لك؟ هيا رد عليه، لماذا تسكت؟ ناهيك عن أنه يفتعل بيننا ما يوجب الأخذ والرد ثم ينصت لما يدور بيننا.
كان يحب أن يرانا بمحضره نمازح بعضنا ونعلق على بعضنا، وكنا نراه مرتاحا لطريقته التي ربانا عليها من المزح والنكتة والمفاكهة التي تختزل في محتواها كل الأدب والاحترام والتقدير الذي يبديه الصغير للكبير ويمتثل به الجميع أمامه.
اجلس معنا:
علاقة الوالد بأهل العلم والمعرفة تصعب الإحاطة بها في هذه الأسطر القليلة، سأكتب فقط عن اصطحابنا معه في صغرنا لنكون معه في مجالس أهل العلم ونسمع منهم ونستفيد من علمهم وآرائهم، وحتى حينما يأتيه أحد من الرجال أو أهل العلم أيام صغرنا، لم يكن ليخرجنا من المجلس إلى داخل المنزل، بل كان يصر ويفرح ببقائنا معه، مع أن العادة في ذلك الوقت (فيما رأيت) هي إخراج الأطفال والصغار من هذه المجالس احتراما لضيوفها، لكن الوالد كان يتحمل تصرفاتنا كصغار ويعلمنا ويربينا من خلال ما يلاحظه علينا.
الآن وبعد أن أصبح عندنا أولاد، لاحظته لا يزال يدفعهم ويشجعهم على الحضور في مجالس العلماء، وحين يمتثل أحدهم أمره يغدقه بابتسامات الرضا والمحبة، كأنه يقول له بني هنا يبنى الرجال على الكمال والآداب والعلم والمعرفة والخلق الإنساني الرفيع.
لم أنته يا أبتي وللتكملة مناسبات أخرى.