دعاة التقريب وإشكالات المتحفظين
في عصور التخلف التي عاشتها الأمة اختفت عناوين كثيرة لمبادئ وتشريعات إسلامية أساسية. تحت ضغط واقع التخلف المناقض لتلك المبادئ والتشريعات. وحين أفاقت الأمة على واقعها الفاسد، وتحركت تطلعات التغيير والإصلاح في نفوس أبنائها، وانفتحت الأمة من جديد على مفاهيم دينها في ظل الصحوة الإسلامية الواسعة ، عادت لساحة الأمة تلك العناوين الغائبة والمغيبة، كعنوان حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والديمقراطية، والتعددية، والحرية، والشفافية، وسيادة القانون... وهي عناوين إسلامية أصيلة قد أُغفلت، وأصبح البعض ينظر إليها بريبة وكأنها أفكار دخيلة ومفاهيم مستوردة..
ومن تلك العناوين الغائبة المغيبة عنوان الوحدة والتقارب والانفتاح بين طوائف الأمة ومدارسهم المذهبية والفكرية.
إن أي مسلم لديه شيء من المعرفة بمبادئ الإسلام لا يستطيع إنكار مبدأ الدعوة إلى وحدة الأمة، فهو مبدأ أساس نصّت عليه آيات محكمة من كتاب الله، وأحاديث صحيحة من سنة رسول الله ، كما يؤيده العقل والوجدان، وتؤكد عليه تجارب الأمم القوية الناجحة.
فقضية وحدة الأمة ليست من القضايا النظرية التي تقبل الأخذ والردّ، وتحتاج إلى البرهنة والاستدلال، بل هي من ضروريات الدين المسلّم بها عند فقهاء المسلمين. لكن عصور الاستبداد والتخلف، التي عاشت الأمة في ظلها انقساماً مذهبياً حاداً، على الصعيد الثقافي والنفسي والاجتماعي، صيّر الفرقة والقطيعة والانطواء واقعاً مقبولاً، وكأنه الحال الطبيعي الذي يجب أن يستمر في حياة الأمة.
بينما أصبحت عناوين الوحدة والتقارب والانفتاح، وكأنها شعارات وهمية براقة، ينخدع بها الحالمون، وضعاف العقيدة في مذاهبهم، واللاهثون خلف المصالح السياسية.
إن دعاة الوحدة والانفتاح والتقارب بين أتباع المذاهب، تلاحقهم علامات الاستفهام، وتثار أمام حركتهم الإشكالات، وكأنهم يدعون إلى منكر، أو يرفعون شعارات تشكل خطراً على مصلحة المذهب وصدق الاعتقاد.
وتتبنى هذا الموقف المناوئ لدعوة الوحدة والتقارب أوساط دينية من السنة والشيعة، تظهر الحماس لحماية المذهب وحراسة العقيدة.
وبدل أن يتجه السؤال نحو العلماء المتقاعسين عن وظيفتهم الشرعية في الدعوة إلى الوحدة، والسعي إلى التقارب، وبدل أن يُدان ويحاكم المحرضون على الفرقة والنزاع باسم الدين والمذهب، أصبح الدعاة إلى الوحدة والتقارب في موقع السؤال والاتهام!!
ويبدو أن هذه الأوساط المذهبية المتحفظة على دعوات الوحدة والتقارب، تريد بإثارة الشكوك والاتهامات تجاه دعاة الوحدة، التبرير لتقاعسها وتخليها عن مبدأ هو من أهم مبادئ الإسلام، أو أن لها مصالح في هذا الواقع الفاسد، أو أنها لا تجيد غير لغة التعبئة الطائفية وإثارة العواطف ودغدغة المشاعر المذهبية.
إنهم يثيرون بعض الإشكالات والشبهات تجاه الوحدة والتقارب، لمنع جماهير الأمة من التفاعل معها، ولتشويه صورة دعاة التغيير والإصلاح.
إن الأمة الآن على مفترق طرق فيما يرتبط بعلاقات طوائفها المذهبية، وخاصة بعد الأحداث المرعبة في العراق، فإما الاستمرار في خط المفاصلة والتخندق المذهبي، وإما تدشين عصر جديد من الانفتاح والتقارب.
ولأن الرهان على وعي أبناء الأمة، فلا بد من تسليط الأضواء على ما يثار حول الموضوع من تساؤلات وإشكالات، ليكون جمهور الأمة على بيّنة من أمره، وليكون اختيار المسار عن بصيرة ووعي.
للالتفاف على مطلب الوحدة يطرح بعض المتشددين شرطاً تعجيزياً لتحقيق الوحدة، وهو إلغاء الطرف الآخر، حيث يقول بعض علماء السنة: إن الوحدة لا تتحقق إلا إذا اجتمع المسلمون على مذهب أهل السنة والجماعة.
ويقابلهم علماء من الشيعة يقولون: إن الوحدة لا تتحقق إلا إذا اجتمع المسلمون على إمامة وولاية أهل البيت .
ومؤدى كل من الطرحين إلغاء الآخر، بأن يصبح الجميع سنّة وينتهي وجود مذهب الشيعة، ضمن الطرح الأول، أو يصبح الجميع شيعة وينتهي وجود مذهب السنة حسب الطرح الثاني.
إنه شرط تعجيزي، إذ كيف يمكن إلغاء أي من الطرفين؟ هل بالإبادة الجماعية؟ أم بإجبارهم على اعتناق المذهب الآخر؟ أم بالسعي لإقناعهم بالتنازل عن مذهبهم؟ وماذا إذا لم يقتنعوا أو لم يقتنع بعضهم؟
إن كلا من الطرفين يعتقد أن مذهبه هو الحق، وأن الآخر مخالف للحق، كما أن التوجهات الدينية لا يحكمها الجانب العقلي والمنطقي وحده، بل للعواطف والمصالح والتكيّف الاجتماعي تأثير لا ينكر، قد يتجاوزه بعض الأشخاص والمجاميع، ولكن من الصعوبة بمكان أن يتجاوزه الجمهور كله في الأديان والمذاهب، وهذا ما يفسّر بعداً من أبعاد بقاء الأديان والمذاهب، وتوارث الأجيال لها.
لقد كان رسول الله يمثل بدعوته الحق اليقين، ويمتلك قوة الحجة والبرهان، لكن ذلك لم يحسم الموقف مع أتباع الديانات الأخرى كاليهود والنصارى الذين عاصرهم، حيث استجاب عدد منهم للإسلام بينما تمسك الباقون بدينهم.
وهنا نجد أن رسول الله وضع صيغة للتعامل مع هذا الأمر الواقع، بما يخدم الاستقرار في مركز الدعوة الإسلامية، ضمن ما يعرف بصحيفة المدينة، التي أقرت ميثاق وحدة وطنية بين أتباع الديانات المختلفة، في ظل القيادة النبوية.
يثير المتحفظون على دعوة الوحدة والتقريب في الوسط الديني، مشاعر القلق من تقديم تنازلات للطرف الآخر، على حساب العقيدة والمذهب.
وقد طرح العلماء الوحدويون من الطرفين، منذ بداية مسيرة التقريب في هذا العصر، أن غرض دعوة الوحدة والتقريب، هو تحقيق التعايش السلمي بين أبناء الأمة، وتوفير أجواء الاحترام المتبادل، والسعي للتعاون في خدمة المصالح المشتركة.
وأن الوحدة والتقريب لا تعني تحوّل أتباع مذهب إلى مذهب آخر، ولا تلفيق مذهب ثالث بين المذهبين، ولا طلب التنازل من أحد عن معتقداته وآرائه التي يدين الله بها.فأمور العقيدة والدين لا تقبل المساومة، وهي شأن قلبي يستعصي على الإخضاع، كما يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[1] فهذا النفي في الآية الكريمة للإكراه في الدين ، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين، أنتج حكماً دينيا ينفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً إنشائيا تشريعياً كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، على حد تعبير السيد الطباطبائي في الميزان.
هناك شيء واحد لا بد من التنازل عنه وهو الإساءة والعدوان، من أي طرف تجاه الآخر، فليس مقبولاً صدور فتاوى التكفير، ولا خطاب التحريض على الكراهية، ولا الإساءة للمقدسات والرموز.
والمشكلة أن بعض المتشددين من علماء السنة يرى إصدار فتاوى التكفير وإثارة الكراهية ضد الشيعة تكليفاً شرعياً، كما أن بعض المتشددين من الشيعة يرى إظهار الإساءة بالسب واللعن لرموز يقدسها ويحترمها أهل السنة تكليفاً شرعياً.
ولا شك أن التقارب بل التعايش في ظل هذه الآراء المتشددة غير ممكن، وأن هذه الآراء توجه الأمة إلى خيار الصراع والاحتراب الطائفي، وتنتج الخصومة والفتنة بين أبناء الوطن الواحد.
فهل يدرك هؤلاء وخامة هذه النتيجة؟ وهل يتحملون مسؤوليتها أمام الله؟ وعلى الناس أن يسألوا أنفسهم في كل بلد تتنوع فيه المذاهب هل يقبلون ذلك؟
وإذا كان التنازل غير مطلوب ولا وارد في المعتقدات، فإنه قد يكون مطلوباً ووارداً في بعض المظاهر والممارسات، إذا اقتضته المصلحة العامة للأمة، أو المصلحة الخاصة بالطائفة، أو المصلحة الأخص على المستوى الفردي.
ألم يتنازل رسول الله في كتابة وثيقة صلح الحديبية عن (بسم الله الرحمن الرحيم) وعن ذكر صفته (رسول الله)؟
قال الواقدي أمر النبي علياً يكتب، فقال رسول الله : أكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو ممثل قريش: لا أعرف الرحمن، أكتب كما كنا نكتب: باسمك اللهم. فضاق المسلمون من ذلك، وقالوا: لا نكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذا لا أقاضيه على شيء. فقال : أكتب باسمك اللهم! هذا ما اصطلح عليه رسول الله. فقال سهيل: لو أعلم انك رسول الله ما خالفتك، وأتبعتك، أفترغب عن أسم أبيك محمد بن عبدالله؟
فضج المسلمون منها ضجة أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجال من أصحاب رسول الله يقولون: لا نكتب إلا محمد رسول الله. فقال : أنا محمد بن عبدالله فاكتب!.
وفي الإرشاد للشيخ المفيد أن علياً بعد أن كتب: هذا ما صالح عليه رسول الله واعترض سهيل بن عمرو وقال له النبي : امحها يا علي. فقال علي: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق لمحوها. فقال : فضع يدي عليها، فمحى رسول الله بيده كلمة: رسول الله نزولاً عند رغبة سهيل مفاوض قريش[2] .
كما أن أمير المؤمنين علياً تنازل عن المطالبة بحقه في الخلافة، وانضوى تحت حكم الخلفاء، حفاظاً على مصلحة الإسلام ووحدة الأمة كما قال : (وَالله لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ)[3] .
وتنازل الإمام الحسن عن الخلافة لمعاوية ابن أبي سفيان فيما بعد حقناً للدماء، ورعاية للمصلحة العامة.
وفي المدرسة الشيعية تؤكد تعليمات أهل البيت لشيعتهم على تقديم التنازلات في الممارسات العبادية والخارجية لإخوانهم أهل السنة، اتقاء للسوء والأذى، أو صيانة لأجواء التعايش والمحبة، حيث يأمر أئمة أهل البيت شيعتهم أن لا يمارسوا شيئاً من أمور مذهبهم يسبب لهم الضرر والحرج لو عاشوا في محيط متشدد أو يسبب نفور الآخرين منهم ويؤدي إلى عزلتهم ونبذهم، ولذلك قسّم الفقهاء الشيعة التقية إلى قسمين: التقية الاضطرارية، والتقية المداراتية. وبعبارة أخرى: التقية خوفاً من الآخر، والتقية تحبباً إلى الآخر، كما عنونها المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
يقول: ( إن غاية التقية لا تنحصر في حفظ الأنفس ودفع الخطر عنها، أو عن ما يتعلق بها من الأعراض والأموال، بل قد يكون ذلك لحفظ وحدة المسلمين، وجلب المحبة، ودفع الضغاين فيما ليس هناك دواع مهمة إلى إظهار العقيدة والدفاع عنها)[4] .
نؤكد مرة أخرى أن الوحدة والتقارب والانفتاح لا يعني التنازل عن شيء من المعتقدات، كما أن الظروف المعاشة في أغلب البلدان الإسلامية تتسع للممارسات المذهبية الخاصة بأتباع كل مذهب من المذاهب، لأن عالم اليوم لا يقبل تقييد الحريات الدينية.
ويجب على دعاة الوحدة والتقارب - قبل غيرهم- معارضة أي قيود على الشعائر والممارسات الدينية لأتباع أي مذهب من السنة أو الشيعة، لكن الأمر الذي لا يمكن قبوله شرعاً ولا عقلاً هو الإساءة من أي طرف للآخر، وإذا كان أحد يرى أن تكليفه الشرعي هو إبداء الإساءة للآخر، فإنا نخالفه الرأي في ذلك، ونطلب منه إن عجزنا عن إقناعه بخطأ رأيه، أن يتنازل عن العمل بذلك الرأي رعاية للمصلحة العامة، وحماية للوحدة، ودرءاً للمفسدة والفتنة.
ومن أولويات الفقه ومنطق العقل تقديم الأهم على المهم عند التزاحم.
حينما لا يجد المتحفظون إشكالاً منطقياً يثيرونه في وجه دعاة الوحدة والتقريب، فإنهم يلجأون إلى التشكيك في الغايات واتهام النوايا، والقول بأن دعاة الوحدة يسعون لتحقيق مصالح سياسية، وأنهم يعملون ضمن برامج سياسية؟
والغريب أن هؤلاء المتحفظين وهم غالباً ما يتظاهرون بالقداسة والورع، والتزام الاحتياط، كيف يسمح لهم ورعهم بالحكم على النوايا والمقاصد التي لا يعلمها إلا الله تعالى؟ وكيف لا يحتاطون في التعرض لحرمات الآخرين؟
ثم إن دعاة الوحدة والتقريب فيهم مراجع فقهاء وعلماء فضلاء انطلقوا في دعوتهم من باعث ديني شرعي، ومن إخلاص واهتمام بمصلحة الإسلام والأمة. وفي طليعتهم من المعاصرين مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده وشيخ الجامع الأزهر الشيخ محمود شلتوت، والشيخ سليم البشرى، والشيخ احمد حسن الباقوري، والشيخ محمد الغزالي، ومفتي سوريا الشيخ احمد كفتارو، والمرجع الأعلى السيد حسين البروجردي، والإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والشيخ محمد تقي القمي،والإمام الخميني وأمثالهم من الفقهاء والعلماء....
وإذا كان المقصود بالمصالح السياسية التي يستهدفها دعاة الوحدة هو حفظ الأمن والاستقرار والنظام في الوطن، وحماية وحدة الأمة، ورصّ صفوفها لمواجهة العدوان الأجنبي، فهي مصالح مشروعة بل فرائض واجبة، على المتحفظين أن يعيدوا النظر في مواقفهم تجاهها، وأن يتقوا الله في مصالح الدين والأمة، حتى لا تكون ضحية تشددهم وتطرفهم المذهبي.
أما إذا كان المقصود اتهام دعاة الوحدة والتقريب بان لهم مصالح شخصية مادية، كالمناصب والمواقع والزعامة والظهور، فان واقع الساحة يثبت أن دعاة الوحدة يدفعون ثمناً باهظاً من سمعتهم وراحتهم، لأن إظهار الولاء والتشدد المذهبي هو السلعة الرائجة على المستوى الشعبي، وهو لغة اللعبة السياسية في المنطقة حالياً.
فمن يريد الكسب والمصلحة الذاتية عليه أن يدغدغ مشاعر الجمهور المذهبي، وأن يرفع لواء الدفاع عن الطائفة، وحراسة المذهب، وذلك هو نهج المتحفظين، فهم الأولى بهذا الاتهام لو كنا نقبل أسلوبهم في اتهام النوايا.
إن دعاة الوحدة والتقريب يسيرون بعكس تيار العواطف والمشاعر، ويواجهون اللعبة السياسية القذرة التي تريد تفتيت الأمة، وتمزيق وحدة أوطانها.
فهل يدرك المتحفظون والمتشددون مذهبياً أنهم يخدمون المصالح السياسية المعادية للإسلام والأمة؟
من المؤسف أن أكثر هؤلاء يخدم مصالح الأعداء في الخارج والداخل دون وعي وقصد.
من الطبيعي أن تكون هناك إفرازات لاتجاهات التشدد المذهبي، تتمثل في فتاوى التكفير، وخطابات التحريض على الكراهية، وتبادل الاتهامات، وحالات العداء، والانتهاك للحقوق المادية والمعنوية، كسياسات التمييز الطائفي، وحوادث العنف والعدوان.
إن هذه الإفرازات منتج طبيعي لاتجاهات التشدد المذهبي، ولواقع التباعد والتنافر بين المنتمين للمذاهب المختلفة.
والدعوة إلى الانفتاح والتقريب والوحدة إنما جاءت لإنقاذ الأمة من هذا الواقع السيئ، ولإصلاح خلل العلاقة بين أتباع المذاهب، بما يضع حداً لتلك الإفرازات البغيضة.
إن صدور إساءات ضد هذا المذهب أو تلك الطائفة يجب أن يشكل مبرراً ودافعاً للاهتمام بدعوة التقريب والوحدة، وللتدليل على ضرورتها وإلحاح الحاجة إليها، لأنها تقدم المعالجة الجذرية، وتبشر بعهد جديد من الأخوة والتفاهم والتعاون.
لكن المتحفظين يوظفون حصول هذه الإساءات لتعزيز الشكوك في مصداقية الدعوة إلى الانفتاح والتقريب، فكلما وقع حدث طائفي، أو حصلت إساءة مذهبية، استغلها المتشددون لتعزيز مواقعهم، وتبرير مواقفهم المتطرفة، ورفع المتحفظون عقيرتهم تجاه دعاة الوحدة والتقريب، ليضعوهم في موقع المساءلة والمحاكمة، كيف تدعون إلى الوحدة مع هذا الطرف وقد فعل هكذا؟ وكيف تريدون التقارب مع تلك الجهة وقد قال أحدهم كذا؟
وهذه مغالطة فاضحة، وتضليل لوعي الناس، فاتجاهات التشدد، والمتحفظون على دعوة الوحدة والتقريب، هم الذين يتحملون مسؤولية استمرار التشنج الطائفي، والخلافات المذهبية. إنهم ينتجون هذه الإفرازات، ويوفرون الأجواء المساعدة على نموها، ثم يوظفونها لإغراق المجتمع في المزيد من التعصب والتشدد، ونهايته المتوقعة هو الاحتراب والفتنة، التي تسفك فيها الدماء، وتنتهك الأعراض، وتمزق الأوطان.
إن دعاة الوحدة والتقريب هم آخر من يحاسب على حصول هذه الإساءات الطائفية، لأنهم يرفضونها، ويدعون إلى السير في طريق الخلاص والسلامة منها.
إن هناك إساءات متبادلة من الطرفين، قد تتفاوت في حجمها من مكان لآخر، لكن كل طرف يغض الطرف عن الإساءات التي تحصل من جماعته تجاه الآخر، كما أنه من الخطأ الكبير تعميم المسؤولية، فلا يصح أن نحمل كل السنة مسؤولية ما يقوله ويمارسه المتطرفون منهم، كما لا يصح أن نحمّل كل الشيعة مسؤولية ما يقوله ويمارسه المتطرفون منهم.
إن هدف المتطرفين في الجانبين إذكاء الصراع وإشعال الفتنة، وعلى الواعين أن لا يقعوا في الفخ، وأن لا يتركوا الساحة للمتشددين والجاهلين.
ولا نجاة للأمة من هذا النفق المظلم إلا بالسير في طريق الانفتاح والتقريب، لتجتمع الأمة على أصول دينها، ولتتحد في خدمة مصالحها المشتركة، مع الاعتراف بالتعددية المذهبية، والاحترام المتبادل بين الطوائف، وإقرار حقوق المواطنة والإخوة الإسلامية، وذلك هو جوهر دعوة التقريب والوحدة.