«48» فتيل وعي وليس نكبة
بغض النظر عن صحة إطلاق عام النكبة على العام 1948من عدمه بسبب ما حل بشعب الأرض المباركة (فلسطين)، وبعيدا ( مع الاعتذار ) عن الويلات التي تتابعت بعدها على الشعب الفلسطيني، فكلمة (نكبة) تستفز الإنسان وتعزز في نفسه الإحباط.
لا أدري لماذا عشقنا مصطلح نكسة 67، ونكبة 48، ورحنا نجرعهما أبناءنا وأجيالنا اليافعة منذ اكتوينا بأحداثهما حتى يومنا هذا ؟ ولا أدري لماذا نتعامل معهما كمصطلح مقدس نخشى تغييره مع اختلاف الظروف وتغير الزمان وتبدل الإنسان.
قد يقال إن (نكبة) هي توصيف صادق وسليم لما حصل في ذلك العام على يد المحتل الصهيوني لأرض فلسطين المغتصبة، وما رافقه من تهجير للشعب الفلسطيني من قراه ومناطقه، وهذا ربما يكون سليما، لكننا اليوم في فترة زمنية تتشكل معطياتها بشكل مختلف.
الشيخ والشاب والمرأة والطفل الفلسطيني جازوا جميعا زمنا مديدا عانق الستين عاما من الاحتلال والذل والهوان، وقد استفادوا من تجاربه ليكونوا اصلب شعوب المنطقة العربية والإسلامية، الأمر الذي يدفعنا للنظر إلى تاريخنا بإيجابية أكبر، عسى أن نتمكن من أن نستفيد من تلك الحقبة استفادة ايجابية فاعلة، نواكب بها مستوى النضج والتحدي الذي تجذر في نفوس أصحاب الأرض الحقيقيين.
اكتب هذا لما ينتابني من اشمئزاز نفسي وأنا أشهد سنويا فرحة إسرائيلية بذكرى (48)، يقابلها تعزيز للهزيمة والنكبة في الجانب العربي والإسلامي.
في (48) اعتقد الشعب الفلسطيني أن العرب سيأخذون له حقه وسيعيدون له ما اغتصب من أرضه، وما أهين من كرامته، وسيهب الجميع لنصرته، حين يسمعون نداءه (وا معتصماه)، ليمارسوا الضغط في المحافل الدولية، ويمدونه بما يحتاجه من العتاد والمال والرجال.
بهذا الخيال الديني والعربي الطيب سلّم الفلسطينيون قضيتهم للعالمين العربي والإسلامي، أما اليوم فالفلسطينيون يعودون لسواعدهم، ويتوسلون بوسائلهم الذاتية البسيطة، بعد أن أتعبت حناجرهم مناشدة الجيران والأحباب من حولهم، ليفرضوا معادلة الضعيف المقاوم، وصاحب الحق المضحي بديلا عن الضعيف المشرد واللاجئ المسكين.
الفلسطينيون عولوا على قلب المعادلات وصناعة التوازن بين الإسرائيليين وبينهم بواسطة الفعاليات الداخلية التي أنتجها عنادهم وصبرهم، ليفرضوا على الإسرائيلي ـ شاء أم أبى ـ الاستجابة إلى الوقائع المتغيرة بما يفيد الفلسطينيين ويصب في مصلحتهم.
لقد كان هذا نهجا يقابل التعويل السابق على القرارات الدولية وتدخل مجلس الأمن، والركون للدول والقوى الكبرى بغية الضغط على الكيان الإسرائيلي الغاصب.
بدقة متناهية استفاد الفلسطينيون من تجربة العناد الإسرائيلي مقابل كل القرارات الصادرة من مختلف المحافل الدولية، وكيف أنه اعتنى بالميدان أكثر من استماعه للقرارات التي تصدر من هنا وهناك لتستنكر وتشجب وتدين.
لقد كانت المعادلة تتمثل في تغني فلسطيني بالقرارات العربية والدولية، بينما يقضم الجيش الإسرائيلي بآلته العسكرية ومستوطنيه المحميين من قبله كل الأرض الفلسطينية.
اليوم أصبح الفلسطيني متمسكا بعنفوانه وبندقيته أكثر من تمسكه بالقرارات الدولية، وتصريحات الزعماء من هنا وهناك . لقد ولى الزمن الخادع الذي يقايض الأرض بالقرارات الرنانة، وبدأ الفلسطيني يسترجع أرضه ويزعج من يغتصبها بالفعل القائم على المبادرة والمباغتة والثقة وعدم التأثر بالصراخ والضجيج العالمي الذي يسعى لمنعه من حق المقاومة للمحتل.
اليوم ـ أكثر من أي وقت مضى ـ يزداد يقين الفلسطيني بأن القوة هي لغة الصهاينة التي يجيدونها ويتقنون فن استماعها، وما عدا ذلك فذبذبات لا تلتقطها أذن الإسرائيلي.
القوة الممتلئة بالإيمان الصادق هي الوسيلة الوحيدة التي تفرض على الإسرائيليين الانسحاب تلو الانسحاب وهم يجرون ويلاتهم وحسراتهم، وما عدا ذلك تضييع وقت وإلهاء للشعوب ولعب بأحلامهم وآمالهم.
اليهودي اليوم ـ وفي كل مكان بالعالم ـ يعيش الأمن والهدوء والاطمئنان الذي سلب من اليهودي المغتصب لأرض فلسطين . فاليهودي في أرض فلسطين يتوقع الصاروخ والتفجير والرصاص والخطف في أي لحظة، فهو يألم بعد أن جاء موعودا برغد العيش، ومتأملا في الأمن والاستقرار . إنه يعيش ألما مضاعفا، لن يتحمله مع الزمن رغم تلك الصورة التي تلمعها دولة الاحتلال بإعلامها ومنظماتها المنتشرة في أغلب بقاع العالم.
(48) هو نكبة لليهود في العالم وفتيل وعي وعنفوان للشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي، ولو علم اليهود أن(48) ستوصلهم إلى الخوف والذعر اللذين هما فيهما اليوم لما جربوا تحقيق أمانيهم على هذه الأرض الطاهرة ولبحثوا لمرتزقتهم عن مكان آخر يهضم وجودهم ككيان.