تدخلوا وأصلحوا أيها العقلاء
كنت أتسامر مع زميل عزيز على قلبي، في دردشة مهمومة، يخنقها غبار الجو أحيانا، وترد طرفها خاسئا وهو حسير سحبٌ سوداء تحجب الرؤية، وتوحي بالخوف.
كنا نتفق على مشترك كبير بيننا (في خلافاتنا الاجتماعية والأسرية) وهو أن موجا غير مألوف بدأ يحركنا ويهزنا بقوة وعنف، والخوف كل الخوف أن لا يبقى في المحمل من يتمكن من أداء صلاة الأموات على صاحبه، فالخشية أن يبتلع الموج بعلوه غير المعتاد كل المحمل بمن فيه.
لم تكن حياتنا الاجتماعية والأسرية خالية من الاختلافات والمشاكل والمنغصات،لكننا كنا نرى أنفسنا في محملنا الصغير هذا نمسك بحبل من هنا ولوح من هناك فنشعر بالقدرة على تحمل ما اعتدنا عليه من موج يحتاجه البحر لحياة الكائنات فيه، وتحتاجه الكائنات لما يرافقه من التجدد وعدم التأسن.
كانت السيطرة على الخلافات في كل أزمة اجتماعية بيد الكبار والآباء والصلحاء، الذين لهم الرأي والقول الفصل، والموقف العدل، فكانوا صمام الأمان في أسرهم وعوائلهم ومجتمعاتهم.
أما اليوم فقد تخلى الكبار عن أدوارهم الاجتماعية والأبوية، ورعايتهم الرحيمة للجميع، فحرمونا عقلهم الراجح، وموقفهم الحكيم، وتوجيههم الصادق، وكان البديل للفراغ الذي تركوه هو عقليات لا تعي مواصيل الأمور ونتائج الكلمات والمواقف التي تتخذ مع غياب الحسابات الصحيحة، سواء على الصعيد الاجتماعي أم الأسري.
يمكنني القول في مقالي هذا وإن كان محليا بعض الشيء،إن الكثير من التناقضات والصراعات الاجتماعية تحتاج إلى موقف الكبار ليس انتصارا ولا اصطفافا ولا تخندقا مع أحد، بل ليقدموا التوجيه والنصح والشهادة العادلة والمحايدة،كالأب الرحيم الذي يكون على مسافة واحدة من أبنائه.
وما أحوجنا اليوم أن نتأمل ونعمل بقول الله سبحانه وتعالى ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما﴾ في كل نزاعاتنا وصراعاتنا الاجتماعية، ليصبح الإصلاح شغلا إنسانيا ودينيا مقدسا في مجتمعاتنا، فالمشاكل والنزاعات ليست قليلة، والمسؤولية مشتركة على الجميع، لكنها على الكبار قبل الصغار
أصلحوا أيها الكبار والعقلاء وتدخلوا ولا تلوذوا بالصمت تحت ضغط التقسيمات، والفرز الأعمى، فأحيانا تصل القضايا الاجتماعية إلى ذروتها، فلا يعرف دمارها الحدود المرسومة، ولا يسلم من شظاياها حتى أولئك الواقفين على التل بحثا عن السلامة، واستمتاعا بمشاهدة الحلبة في انتظار نتيجة كل جولة.
تدخلوا وأصلحوا حتى نحافظ على الفتن فلا يأخذ رقابنا إلى التقاتل أعوج من هنا وأهوج من هناك، وليبق الاختلاف كما عهدناه ضمن ضوابط رسمها العقلاء بينهم بالتباني والاتفاق الضمني والتسالم الذي تعبر عنه سيرتهم والذي يجعل للاختلاف أطره، ويشخص للمجتمع حدوده، ثم يدفع حراكهم نحو دوائره المعقولة، و منابره المناسبة، متمسكا في ذات الوقت بحفظ كرامات الأشخاص مهما اختلفوا وتعاندوا.
قولوا كلمة المعروف وانصحوا كل متنازعين بالقاعدة القائلة﴿من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته﴾ فإذا أهين اليوم من يختلف معك(من أبناء مجتمعك) بأي طريقة وأية وسيلة فأنت تمهد الطريق والدرب لإهانات ستأتيك كرشق السهام، ولن تهنأ بالغلبة إلا بمقدار ما تسترد طرفك، لأنك استعملت سلاحا يستطيع الجميع اقتناءه والاستفادة منه، أي كان هذا السلاح وبأية وسيلة نفذ الهجوم ضد الأشخاص واسقط مكانتهم.
أصلحوا أيها العقلاء ولا تستسلموا لهواجس سمعتكم وشخصيتكم التي تفضل أن تنأ ى بعيدا كي لا تمس ذاتها المقدسة، فالقداسة والاحترام في كل مجتمع صغر أم كبر إما أن تكون للجميع أو لا تكون للجميع، ولنقلب أوراق الماضي القريب لنستخلص منه أن دوائر الزمان لا ترحم أحدا، وأن البعيد عن النار بالأمس قد يقرب منها في وقت آخر.
أما السمعة فأستغرب أن يبخل الإنسان في إنفاقها بهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح أمور الناس، وتقريب قلوبهم ولم شملهم.
ترى متى سيستفاد من هذه السمعة إذا لم توظف في التقريب بين الناس؟ ومتى سننال نظرة كريمة (لحل قضايانا وخلافاتنا) من المكانة العالية لوجهائنا وعلمائنا وصلحائنا إذا لم تنصح وتوجه وترعى الود بيننا؟ ثم متى تتواضع القامات الاجتماعية السامية لتسمع أحاديث الألم الذي يعتصر الناس ويتعب نفوسهم ويفرق شملهم؟ ومتى ستقرر طيب القول وجميل الفعل المرجو منها؟
لها تقدير الوقت الأصلح، ولها اختيار الظرف الأنسب، ولها اتخاذ الأسلوب الأنجع، لها كلنا وعليها علقنا آمالنا، وبموقفها ستتمسك أطراف أناملنا في كل شجار وخلاف وتباين، وكل ما نرجوه هو أن تبادر قبل خراب البصرة.