الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
في درسه القرآني الأسبوعي مساء كل خميس، تحدث سماحة الشيخ حسن الصفار هذا الأسبوع ليلة الجمعة 22 ذو الحجة 1424هـ (13 فبراير 2004م) عن موضوع الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وتناول تفسير الآية الكريمة: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(البقرة ، 106).سبب نزول الآية:
عندما نزل قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة، 144)، شكك اليهود في صحة الإسلام، وقالوا: لو كانت القبلة الأولى هي الصحيحة، فلم هذا التغيير؟ وإذا كانت القبلة الثانية هي الصحيحة، فكل أعمالكم السابقة باطلة. فأنزل الله تعالى هذه الآية ليرد على هذه المزاعم وينير قلوب المؤمنين.
معاني مفردات الآية الكريمة.
أولاً- في معنى النسخ.
النسخ في اللغة: الإزالة، وفي الاصطلاح: تغيير حكم شرعي وإحلال حكم آخر محله.
ثانياً- المقصود من الآية.
الآية في اللغة العلامة، وفي القرآن لها عدة معانٍ:
1- مقاطع من القرآن، مفصولة عن بعضها بعلائم خاصة.
2- المعجزة، يقول تعالى:﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ﴾(طـه، 22).
3- الدليل على وجود الله، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ (الإسراء، 12).
4- الأشياء البارزة الملفتة للأنظار كالأبنية الشاهقة، يقول تعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾(الشعراء، 128).
ثالثاً- معنى عبارة (ننسها).
هي من مادة (أنساء) بمعنى التأخير أو الحذف من الأذهان. والمقصود: ما ننسخ من آية أو نؤخر نسخها استناداً إلى مصالح معينة .. نأت بخيرٍ منها أو مثلها ..
رابعاً- في تفسير (أو مثلها).
سؤالٌ يطرح نفسه: لو كان الحكم الناسخ مثل الحكم المنسوخ فلا فائدة من هذا التغيير، لأن النسخ تظهر فائدته حين يكون الناسخ خيراً من المنسوخ.
والجواب: إن الآية الناسخة لها آثارٌ في زمانها كتلك الآثار التي كانت للآية المنسوخة في زمانها.
أقسام النسخ.
هناك ثلاث صورٍ يمكن مناقشتها للنسخ في القرآن الكريم:
الصورة الأولى: نسخ الحكم والتلاوة معاً؛ بأن تسقط من القرآن آية كانت ذات حكمٍ تشريعي، وكان المسلمون يتداولونها ويقرؤونها ويتعاطون حكمها، ثم نسخت وبطل حكمها ومحيت من صفحة الوجود رأساً.
وهذا النوع من النسخ مرفوضٌ عند علماء الشيعة، ويتحاشاه الكتاب العزيز.
وقد حاول بعض المحدّثين إثبات هذا النوع من النسخ في القرآن، بحجة مجيئه في حديث صحيح الإسناد إلى عائشة في (صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، حديث رقم 1452)، إذ قالت: «كان فيما أنزل من القرآن: ((عشر رضعاتٍ معلومات يحرمن)) ثم نسخن بخمس معلومات. وتوفي رسول الله وهنّ فيما يقرأ من القرآن.»
الصورة الثانية: نسخ التلاوة دون الحكم؛ بأن تسقط آية من القرآن الحكيم، كانت تقرأ، وكانت ذات حكمٍ تشريعي، ثم نسيت ومحيت هي من القرآن الكريم، لكن حكمها بقي مستمراً غير منسوخ.
وهذا النوع من النسخ أيضاً مرفوض عند علماء الشيعة على غرار النوع الأول بلا فرق، لأن القائل بذلك إنما يتمسك بأخبار آحاد زعمها صحيحة الأسناد، ولا يُمكن إثبات نسخ آية المحكمة بأخبار آحاد لا تفيد سوى الظن، وإن الظنّ لا يُغني عن الحق شيئاً.
ويستند من يؤمن بهذا النوع إلى أخبار آحاد، ومن ذلك رواية في (صحيح البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، حديث رقم 6830) أن ابن عباس روى عن عمر أنه قال: «إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله.»
الصورة الثالثة: نسخ الحكم دون التلاوة؛ بأن تبقى الآية ثابتة في الكتاب يقرؤها المسلمون عبر العصور سوى أنها من ناحية مفادها التشريعي منسوخة، لا يجوز العمل بها بعد مجيء الناسخ القاطع لحكمها.
وهذا النوع من النسخ هو المعروف بين العلماء والمفسرين، واتفق الجميع على جوازه إمكاناً، وعلى تحققه بالفعل أيضاً، حيث توجد في القرآن الحاضر آياتٌ منسوخة وآياتٌ ناسخة.
ومن الأمثلة على هذا النوع من النسخ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾(المجادلة، 12)، قد نسخت بالآية التي بعدها مباشرةً وهي قوله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المجادلة، 13).
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(البقرة، 240)، قد نسخت هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾(البقرة، 234).
وأيضاً قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء، 15)، وهذه الآية قد نسخت بقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾(النور، 2).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.