تقديم كتاب: «المرجع والأمَّة»
المؤلف: صالح محمد آل إبراهيم
الكتاب: المرجع والأمة ـ دراسة في طبيعة العلاقات والمهمات
دار النشر: الطبعة الأولى 1993م، دار البيان العربي، بيروت
يراد للإنسان في المجتمعات المتخلفة أن يعيش معصوب العينين وأن يسلَّم قيادة وأزمة أموره بيد جهة ما دون أن يدري إلى أين؟ ولماذا؟ وكيف؟
فهو يخضع لسلطة حاكمة لم يكن له رأي ولا اختيار في وجودها، كما لا يعرف بالضبط معايير وموازين اتخاذ القرار من قبل السلطة، وليست له مشاركة في صنع القرار، ولا حق الاعتراض عليه أو المطالبة بتفسيره، فالتعاطي في الشأن السياسي ممنوع، والتدخل في السياسة خطر وجريمة لا تغتفر، ودع ما لقيصر لقيصر، والشيوخ أبخص، ومالنا والدخول بين السلاطين!!
ولا يقتصر التجهيل والتعتيم والغموض على المجال السياسي، بل حتى الجانب الديني المرتبط بعمق حرية الإنسان واختياره تحوّل إلى منطقة محظورة على عقل الإنسان وفكره، فهناك واقع قائم في إدارة الشؤون الدينية، وسقوف من الأعراف والتقاليد لا يجرأ الإنسان على اختراقها وتجاوزها، وما على الإنسان إلا الخضوع والتسليم لهذا الواقع الحاكم دينياً دون أن يستخدم فيه عقله، أو يحاول المحاكمة والمحاسبة على ضوء العقل والشرع والوجدان.
ورغم أن الدين في الأساس خطاب موجّه لعقل الإنسان ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾[1] ، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[2] .
وأن »العقل أقوى أساس«، وأن »العقل رسول الحق« كما يقول الإمام علي . وحسب كلام الرسول فإن »قوام المرء عقله ولا دين لمن لا عقل له«. إلى كثير من النصوص الشريفة التي تعطي للعقل دوره الريادي والقيادي في حياة الإنسان المتدين..
رغم كل ذلك فإن واقع المتدينين فيه الكثير من التنكر لدور العقل، والتجميد لفاعليته، لصالح الأوهام والأعراف والتقاليد.
ونشير هنا إلى نموذج هام في المجال الديني وهو (قضية المرجعية والقيادة الدينية)، وهي قضية خطيرة وأساسية من حيث اهتمام الدين بها ومن حيث تأثيرها في حياة المتدينين..
والمرجعية الدينية شأن عيني أي تهم وتعني كل فرد مكلف من المتدينين حيث لا بد له ما لم يكن فقيهاً مجتهداً أن يرجع إلى من تتوفر فيه شروط المرجعية والتقليد ليكون حجة فيما بينه وبين الله سبحانه.
وبناءً على ذلك لا بد وأن تتوفر المعرفة بمسألة التقليد وقضية المرجعية لكل فرد مكلف معني بها.. لكن الواقع شيء آخر فكثير من الناس لا يعرفون من المرجعية والتقليد إلا الاسم والعنوان، ولا يستخدمون عقولهم وأفكارهم في انتخاب واختيار المرجع، بل يتبعون الجو المحيط بهم، فالأب هو الذي يختار المرجع لعائلته كما يختار لهم بيت السكن، والزوج يعينّ المرجع لزوجته، وشيخ القبيلة في المجتمعات العشائرية هو الذي يحدد مرجع التقليد، ورجل الدين في المحلّة هو المسؤول عن انتخاب المرجع.. وهكذا، وبقية الناس تبع وإمّعة لا يعرفون حتى مقاييس الانتخاب والاختيار للمرجع.
ثم ما هي طبيعة العلاقة بين المقلدين ومرجعهم هل هناك حقوق وواجبات متبادلة؟ أم هي حقوق من طرف واحد للمرجع على المقلدين؟ وما هي حدود العلاقة بين الطرفين؟
والمرجع ما هي وظيفته؟ وما هو دوره في الأمة؟ وهل المرجعية منصب تشريفاتي لا شأن له ولا دخل فيما يجري ويدور؟ أم ماذا؟
وكيف يدير المرجع أموره ويسِّير شؤون مرجعيته؟ كيف يتخذ القرارات؟ وماذا يصنع بما يأتيه من الحقوق الشرعية؟ وما هي طبيعة جهاز عمله؟
كلها أسئلة حائرة قد يعتبرها البعض خواطر شيطانية وتشكيكات ووساوس تقود إلى التمرد والضلال!! فلا يكلفون أنفسهم عناء التفكير فيها والبحث عن أجوبة لها.
فالشأن المرجعي أعلى من أن يفكر فيه الأفراد العاديون و (قلدها عالم واطلع منها سالم).
فما عليك ماذا يصنع وكيف يفكّر المرجع!!
و(لحم العلماء مسموم) فلا تعطي لنفسك حق المراقبة والمحاسبة والمساءلة!! و(المرجعية منحة وهبة إلهية يعطيها الله لمن يشاء) فلا تتعب نفسك في البحث والمفاضلة بل اتبع السواد الأعظم!!
إلى ما هنالك من قيم وأعراف حاكمة على الشأن المرجعي عند أكثرية الناس. ولكن هل هذا الواقع صحيح ومقبول؟
وإلى متى تستمر حالة التجهيل والغموض والتعتيم في أهم القضايا خطورة؟ إننا نعيش في زمن الانفتاح العلمي والثقافي والاجتماعي ونرى كيف تنتخب الشعوب قياداتها الدينية والسياسية وفق أنظمة ومعادلات واضحة بغض النظر عن جانب الصحة والخطأ فيها..
والأهم من كل ذلك إننا أبناء دين أساسه العقل، يأمرنا بالتفكير في كل شأن ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ ويرفض التقليد الأعمى والإتباع بدون حجة ووعي ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾[3] .
وفي ديننا تكون العلاقة بين القائد والرعية قائمة على أساس الخضوع للمبدأ والالتزام بالقانون فالقائد ليس فوق القانون بل هو محكوم به: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾[4] . ومطلوب من القائد مشاورة الرعية ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾[5] .وعلى الرعيّة مراقبة القائد ونصيحته: »الدين النصيحة.. ولأئمة المسلمين« كم عن رسول الله .
من هذا المنطلق فقد رحبّت كثيراً بمحاولة الأخ المؤلف الشيخ صالح محمد آل إبراهيم في هذا الكتاب لتسليط الأضواء على مسألة المرجعية الدينية، وتبسيط قضاياها لتكون في متناول عامة جماهير الأمة، ولكني أشفقت عليه لخطورة الموضوع وحساسيته.. وقد أعجبني هدوءه وموضوعيته في تناول جوانب البحث. ولست هنا في مقام الحكم على جميع الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب لكنني أشيد بطريقة المعالجة، وأشجع على تناول هذه المواضيع الخطيرة لإخراجها من خلف الكواليس المظلمة ومن وراء الأستار الحاجبة إلى ضوء الشمس وإلى الفضاء الرحب ليشارك فيها أكبر قدر ممكن من أبناء الأمة. والمؤلف الكريم شاب طموح لازال يخطو في العقد الثالث من عمره لكنه يمتلك وقار الكبار وجدّيتهم، كما عرفته من خلال دراسته وكتاباته وعلاقاته الاجتماعية. أسأل الله أن يتقبل عمله وأن ينفع الأمة بعطائه، وأن يوفقه للمزيد من التقدم العلمي والعملي إنه ولي التوفيق والحمد.
حسن بن موسى الصفار
5/11/1413هـ
27/4/1993م