السياسة النبوية ودولة اللاعنف
مقالات لسماحة الشيخ حسن الصفار في السياسة النبوية
يطل علينا سماحة الشيخ حسن الصفار بثمرة من ثمار فكره الخلاق، ليضيف للمكتبة كتاباً يتناول السياسة النبوية في التعامل مع بعض القضايا التي واجهتها، متناولاً هذه المواقف بالشرح والتحليل.
هو كتيب من القطع المتوسط، بلغت عدد صفحاته مئة واثنتان وستون صفحة، يثبت فيها المؤلف التعامل المحمدي تجاه بعض القضايا التي ترافقت مع ظهور الإسلام، تعامله مع المنافقين، واحتوائه للمواقف السيئة من أجل السلم والاستقرار.
يفتتح المؤلف كتيبه بمدخل عن الأمة وتحدي الإصلاح الداخلي، مبيناً أن التدخل في شؤون الإنسان البالغ الراشد الذي يدير شؤونه بنفسه مرفوض من قبل الشرع والعرف والناس، أما التدخل في شؤون القاصر الفاقد للأهلية أمر مشروع ومطلوب؛ لحفظ مصلحته ورعاية مستقبله، ورعاية المصلحة العامة ثانياً، وهذه القاعدة ــ كما يقول ــ تطبق على المجتمعات والشعوب، حيث إنه من المتفق عليه في النظام الدولي: إدانة تدخل أي بلد في شؤون بلد آخر.
ثم ينتقل سماحته في تحليل للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في قسم عنونه بـ (دولة اللاعنف) حيث يؤكد أن الامتحان الحقيقي لأي قيادة هو في التعامل مع المناوئين أو المخالفين أو المنافسين لها، فإن أغلب الزعامات غير الديمقراطية تقمع مثل هذه الحالات تحت مختلف العناوين والمبررات، ومن تقوم بالقمع هي عقلية الاستبداد، وتضخم الذات، وحب الهيمنة والاستحواذ، ما يؤدي إلى تهميش المجتمع، ووأد طاقاته وكفاءاته، كما يؤسس لحالات الانقسام والمواجهة والصراع.
ثم يشرع في سرد كيفية تعامل النبي محمد كقيادة مع من خالفوه من التيارات المناوئة، والعناصر المخالفة، داخل المجتمع الإسلامي في المدنية المنورة، وهم تيار (المنافقين) هؤلاء الذين أظهروا انتماءهم للإسلام وأضمروا بغضهم له ولمبادئه.
فقد كان عناصر المنافقين بمكانتها القبلية، وتسترها بالإسلام، واستغلالها للمشاعر العاطفية، وآثار العهد الجاهلي ورواسبه، تمتلك مساحة من التأثير في المجتمع، وقد أدرك النبي محمد خطورتهم على مسيرة الدعوة وبناء المجتمع الإسلامي، فكان لزاماً عليه التعامل معهم.
ونرى المؤلف يجمل لنا دور المنافقين في عهد النبوة حيث قاموا بعدة أدوار منها: التشجيع على محاربة الإسلام بتواصلهم مع المشركين واليهود وتنسيق الجهود والمواقف معهم، وسعيهم المحموم لإضعاف الجبهة الداخلية للإسلام ببث الشكوك تجاه الإسلام وقيادته، وتآمرهم ضد الإسلام ووضع الخطط الكيدية، وإرباك وتثبيط عزائم المسلمين، وعرقلة أوامر القيادة وإفشال البرامج والسياسات.
وتحت عنوان (سياسة الاستيعاب) يوضح سماحته أن الرسول الأكرم تعامل مع المنافقين بصدر رحيب واحتمال عظيم رغم إساءاتهم الخطيرة، فيوضح الخطوط العريضة لأوجه تعامل الرسول مع المنافقين فيما يلي: عدم اللجوء للقوة والقمع رغم جرائمهم واستفزازهم، وعدم مصادرة أي حق من حقوقهم المدنية، بل إنه كان يبذل لهم الإحسان ويحوطهم بمداراته ويشملهم بكريم أخلاقه.
والسيرة النبوية على امتداد سنواتها معطرة ومطرزة باحتوائها لكل المواقف السيئة التي تصدر عن قصد أو بدون قصد تجاه الإسلام وشخص النبي محمد ولم يستخدم ضدهم القمع والعنف في أي حالة من الحالات رغم توفر الأسباب والمبررات.
فإدارة النبي محمد لكل جزئية من الجزئيات ترفض العنف، وتبني دولة اللاعنف، بحث يجد الناس أمامهم فرصة للتعبير عن آرائهم وأفكارهم مهما كانت مخالفة لتوجه القيادة دون أن يتعرضوا للتصفية والتنكيل.
وضمن عنوان (بناء الوحدة والشراكة الاجتماعية) يتساءل سماحته: كيف يمكن تحقيق الوحدة السياسية والاجتماعية في مجتمع يعيش انقسامات حادة على أساس قومي أو ديني أو مذهبي أو مناطقي أو قبلي ؟ وللإجابة على هذا التساؤل، يرجعنا إلى الإنجاز التاريخي الذي تحقق على يد رسول الله بقيام الدولة والمجتمع الإسلامي الأول، فبعد أن كانت نزعة الطرف والولاء للقبلية، وحالة الصراع والاحتراب بين قبائل العرب سائدة، استطاع الرسول الأكرم في أقل من ربع قرن من الزمن أن يقلب المعادلة، ويبني من تلك القبائل المتناحرة مجتمعاً متماسكاً حقق رجاله معجزات علمية.
استطاع النبي محمد أن يذوب كل تلك الحواجز التي كانت بين القبائل في قالب إيماني اخترق تلك النفوس المتصارعة، وحولها إلى نفوس مطمئنة. حول ولاءهم إلى الهوية الإسلامية المشتركة بدل الانتماء العشائري، ليفخر الجميع بدرجة متساوية بإسلامهم رغم اختلاف قبائلهم وتفاوت مكانتها وقوتها.
كما رسخ النبي محمد ثقافة الوحدة، وذلك باجتثاث جذورها النفسية والفكرية، ومقاومة آثارها السلوكية، حيث أكدت التعاليم السماوية أن الأصل واحد لكل بني الشر، ونسفت كل مبررات التفاضل الزائفة بين الناس إلا على أساس كسبهم الاختياري للصفات الفاضلة، كما شن الرسول الأكرم حرباً ضارية على الأفكار والتصورات الجاهلية كالتفاخر بالأنساب والأحساب، أو التفاضل بالانتماء القبلي أو العرقي.
ولا شيء يحقق الوحدة الاجتماعية كالشراكة الفعلية بين أطرافه كلها، حيث كان الرسول يمارس الشورى على الصعيد الاجتماعي العام ليدلي كل شخص سواءٌ أكان صغيراً أم كبيرا برأيه، كما أن الحوار والإقناع هو ديدن الرسول ومن يقرأ سيرته يرى أن الحوار كان منهجه في الدعوة إلى الله تعالى.
ويبرز الكاتب معاناة الرسول في تبليغ الرسالة في فصل يخصصه لذلك، ويورد قصصاً حدثت في سبيل تبليغ الرسول للدعوة، كقصة الحصار والمقاطعة، وأذى عمه أبي لهب، ومحاولات الاغتيال والضرب والإهانة والسخرية والتحقير ويوم الطائف.
هو كتاب يضعك على مفاصل مهمة في الفلسفة الإسلامية، فلسفة التعامل مع الغير، وثقافة الاختلاف، فلسفة الاختلاف في إطار الاحترام.
«لقراءة الكتاب اضغط هنا»