الأموال لا تصنع زعيما
أحترم التعليقات التي وصلتني عن المقالات الثلاثة السابقة المرتبطة بالموضوع الحالي، لكن بعضها كان يذهب إلى واد آخر ما كنت قاصدا إياه أبدا.
بعض التعليقات الجميلة التي وصلتني، رأت أن ركائز الزعامة هي المال أو الدعم الرسمي، أو الجاه العائلي، ومع افتراض تفهم ذلك كله، يمكنني القول ان ذلك لا ينتج زعامة مجتمع، بل ينتج سرابا (قدرة) خلناها زعامة، وفي العالم أشخاص كثيرون لا ينقصهم حضور المال بين أيديهم لكنه لم يصنع منهم شيئا.
نعم المال ينتج في شقه السلبي رهبة الشخص وتحاشي صدامه أو تلمس بعض فتاته، وعلى أعلى التقادير فالمال يصنع وجاهة تتكئ على سند خارج عن ذاتها وقدراتها، وفي شقه الايجابي يوجد يدا كريمة مبسوطة متواضعة لحاجات الناس وقضاء أمورهم، وهذه وجاهة محترمة، خيرها لا يقدر على شكره إلا الله سبحانه وتعالى، وعلى كلا التقديرين فالكلام أجنبي عما أقصده من الزعامة.
الزعامة المرتكزة على المال لا يندفع المثقفون للتعاون والتعاطي معها، لأن بحثهم وتطلعهم واستنارتهم لا ترى بؤرة احتضان تتناسب معها في أموال يمتلكها هذا أو ذاك، فهذه الفئة تأنس بالفكر ومطارحاته، وتحيا بالرأي وحواراته سواء اتفقت معه أم اختلفت، فبحرها دائما هو الفضاء المعرفي الواسع والأفق الثقافي الرحب، والرأي الحصيف والقدرة على التحليل والتنظير والتخطيط.
والزعامة المالية لا تحتوي التجار ضمن أطرها، ولا يقبلون عليها إلا للضرورات القاهرة، فهم أرباب المال والممتلئون منه، وهم إذ يقتربون من زعامة زيد أو عمرو فلأنهم وجدوا فيها ما يعتقدون حُسنه غير المال والثروة والغنى.
والزعامة المالية لا تستقطب أجيال الشباب لأنهم يحتاجون إلى استيعاب حقيقي لا يوفره تكدس المال في يد هذا أو ذاك، بل يتهافتون على من يشعرهم بقيمتهم وكرامتهم، وينسجمون مع من يقرأ الحياة من خلال عيونهم، ليفهم من هم؟ وماذا يريدون؟ ولماذا يطمحون؟ ومما يتوجعون؟
مع كل ما قلناه لنسأل: هل توجد زعامة في العالم لا مال عندها؟ ولا قدرة مادية تسيّر مشاريعها؟
الجواب لا، وهذا ما أوجب خلطا كبيرا عند الكثير من الناس، إذ الزعامة الاجتماعية الحقيقية هي التي توفر المال وليس العكس، فالمال كما أسلفت لا يصنع زعامة حقيقية بل يصنع فزاعة أشرت لبعض مواقف الناس منها في بداية المقال.
لا توجد زعامة في هذا العالم فقيرة وغير قادرة على العطاء والبذل من أجل مشاريعها، وحتى الزعماء الدينيين الذين نتغنى بزهدهم وتقواهم وعفتهم، مهم لنا أن نعلم أن زهدهم الشخصي فيما بين أيديهم هو خُلق تمليه عليهم مبادئهم وقيمهم، ومهم لنا أن نعلم كذلك أن امتلاء أيديهم بالقدرة المالية أمر تحتمه ضرورات عملهم وقدرتهم على تحريك برامجهم الدينية المطلوبة منهم، فالزهد الشخصي شيء، ووجود القدرة وكل ما يحتاجه عملهم ونشاطهم شيء آخر.
لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) في غنى عن مال خديجة وأمامه تلك المهام التي تنتظره، لكن مال خديجة لم يصنع فيه ﴿وشاورهم في الأمر﴾ ولم يخلق فيه ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾، فمال خديجة خدم إمكاناته الذاتية والقيادية ولم يصنعها.
البعض يمارس خلطا أخاله واضحا لكل ذي لب، فهناك فرق بين من يُنفخ بالمال والنسب والحسب والألقاب والرتب والوجاهة ليصبح زعيما ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾، وبين من ينتزع مكانته من العدم ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى﴾ فتأتيه الإمكانات وتخدمه الطاقات وتتعاطى معه الكفاءات، ويتداخل معه الرسمي وغير الرسمي.
هناك فرق بين من يبسط له البساط، وتدفعه الأيدي للسير عليه جاهزا مجهزا، دون أن يذوق مرارة صنع الزعامة، وبين من تواجهه التحديات والصعاب، من الحساد والمعاندين والكائدين والجهال، وهو بعد لا يحمل اسما معروفا ولا رسما موصوفا، ولا عصبة تدافع، أو جماعة تمانع، بل يحمل فكره ورأيه، وبعض عتاد الصبر والتحمل، وسعة الصدر، وجرعة محدودة من العناد، وإذا به يقترب من بعض نعم الله التي منّ بها على نبيه بقوله ﴿ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى﴾.
من يتابع سيرة الزعماء ويقرأ مذكراتهم منذ سنيهم الأولى، كيف صنعوا أنفسهم في الزمن الصعب؟ والظرف الضاغط، والتحدي المستمر، ومعاكسة التيار، إلى أن وصلوا لموقعيتهم، يمكنه أن يهتدي لتحليل سليم.
ومن يقرأ الزعماء بعد أن أصبحوا زعماء، ويحاول أن يفهمهم من موقعهم الحالي، بما عندهم من قدرات الزعامة وآلياتها، فسيخطئ النتيجة والتصور، وسيحتاج إلى بعض الاتهام والتجريح، لأنها قراءة من النهاية، دون استيعاب لما جرى منذ البداية، والأمل أن يكون ذلك عن غفلة لا تعمد.