النجف الاشرف دعوة للوحدة والتقريب
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
تناول القرآن الكريم في العديد من آياته مسألة الاختلافات الدينية، وكيف ينبغي أن يتعامل البشر المختلفون في الدين فيما بينهم، ذلك أن الدين هو في الأساس توجه فطري، حيث إننا نجد أن كل إنسان ـ في حالة سوية ـ يبحث عن دين يتديَّنُ به، لأن هناك أسئلةً كبرى تطرح نفسها على الإنسان، من قبيل: كيف وجدتُ؟ ومن أوجدني؟ وإلى أين يكون المصير؟ ومن هو الموجد لهذا الكون؟ وما هي العلاقة بيني وبين هذا الموجِد والخالق؟، وغيرها من الأسئلة التي ترتبط بمبدأ الإنسان والكون ومَعادِهما.
كل هذه أسئلة تنتصب أمام فكر وعقل أي إنسان سوي يبحث عن إجابة لها، وما يُشكِّل الإجابة عن هذه التساؤلات يطلق عليه «دين»، وقد تعدَّدت الإجابات في فكر الإنسان البدائي، فمنها الصواب والخطأ.
ولكي لا يظلّ الناس تائهين حائرين، بعث الله للناس أنبياء يقدمون لهم الإجابات الصحيحة عن هذه التساؤلات ويهدونهم إلى سواء السبيل في العلاقة مع خالقهم وموجدهم، وهذه هي مهمة الأنبياء والرسل، ولكن العقل البشري لم يكن لينضج دفعة واحدة، فكانت الشرائع ـ وما تحمله من أحكام ومبادئ وقيم ـ تتناسب والتطوّر البشري في علومه ومعارفه والمستوى العقلي، لذلك أتت الرسالات الإلهية متعاقبة في أزمنة مختلفة، تتّحد في دعوتها إلى التوحيد، وتختلف في بعض الشرائع والبرامج التفصيلية، التي كانت تتناسب وتطور الحياة لدى الإنسان.
وقد انقسم الناس تجاه الانبياء إلى قسمين، فمنهم من آمن بهذه الدعوات الإلهية ، ومنهم من أنكر وحارب وواجه رسالات الانبياء.
كما أن أتباع الديانات الإلهية، منهم من بقي على ديانته السابقة، ومنهم من آمن بما تلاها من ديانات، وكانت هذه هي منشأ الاختلاف بين اتباع الاديان السماوية.
وهناك اختلاف ثالث في المجال الديني داخل كل دين من الأديان، إذ تختلف الآراء في فهم أتباع الدين لدينهم الذي ينتمون إليه، ما يولِّدُ نمطًا آخر من التنوّع والاختلاف الفكري والأيديولوجي داخل المجتمعات البشرية.
إذًا نحن أمام تنوّعات وأنماط متعدّدة من التوجّهات الدينية، التي أخذت طريقها داخل التجمّعات الإنسانية فيما يرتبط بالشأن الديني، فالخلافات الدينية أمر طبيعي موجود في المجتمع البشري، ولكن ما يجب إثارته هنا هو: كيف يتعامل البشر مع هذه الاختلافات الدينية؟ هل يُستغَلُّ الدين في الصراع؟ بمعنى: هل يصبح الدين سببًا للصراع والحروب والنزاعات؟ وما هي النظرة الدينية فيما يرتبط بالاختلاف الفكري والأيديولوجي بين الناس؟
إننا حينما نستحضر الوقائع التاريخية، نجد أن الاختلاف الديني، كان سببًا في كثير من الصراعات والحروب، ولكنّنا عندما ندقّق النظر، نجد أن الدين رُفِع ـ في هذه الصراعات ـ كيافطة إعلانية، واستُغِل لتأجيج الجماعات ضدّ بعضها، بدوافع مصلحية شخصية وفئوية، وفي كثير من الأحيان سياسية، وإلا فإن الدين ـ في مبادئه وقيمه ـ لا يأمر أتباعه بأن يحاربوا ويقاتلوا الآخرين باسمه ومن أجله.
وقد تكون الصراعات الدينية، ناشئة عن أمراض أخلاقية، من أبرزها مرض التعصب والاستبداد الفكري وفرض الرأي على الآخرين، فيرى البعض أن ما يعتقد به من معتقدات هي الأصح، ويرى من واجبه الديني فرضها على الآخرين، وهذا سلوك إنساني يتعارض والقيم التي حملتها الرسالات الإلهية، التي كانت تدعو الناس إلى دين الله بالإقناع والدعوة الحسنة، فلم يجعل الله تعالى لأحد حق الفرض ـ في الدين ـ حتى من قبل الأنبياء، يقول سبحانه: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾[1] ، وفي آية أخرى يقول جلّ شأنه: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ﴾[2] .
القرآن الكريم في آيات كثيرة يقدم رؤية حول التعامل عند الاختلاف الديني، سواء كان في أصل الدين أم داخل المعتقد الديني نفسه، وهذه الرؤية تنطلق في اتجاهين:
وردت آيات قرآنية كثيرة تتحدّث عن أجواء الدعوات النبوية الهادية، فكان بعضها على لسان الأنبياء، والبعض الآخر كان نداءً إلهيًّا للإنسان يخاطب فيه عقله وضميره وتفكيره، فكانت معظمها تدور حول فكرة مهمّة، وهي المطالبة بالدليل والبرهان على ما يدّعيه الطرف المقابل، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾[3] ، وفي آية أخرى يقول عزّ وجلّ: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾[4] ، وفي آيات أخرى ترد التعبيرات التالية: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، و﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾، و﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
إنها تطلب إثارة العقل والفكر وتطلب الدليل والبرهان، ذلك أن الأديان حينما تكون مختلفة، والمذاهب متعدِّدة والآراء متنوّعة، لا بدَّ وأن بينها صوابًا وخطأً، إذ لا يمكن أن يكون الرأيان المتناقضان كلاهما حق في كل المجالات. نعم، قد تكون نسبة الصحة متفاوتة، لكنّ هذا لا يُعفي الإنسان من أن يبحث عن الرأي الصواب، وفي هذه الحال سيكون طريق الفكر والعقل هو السبيل للتمييز بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ، في جميع هذه الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية.
حينما يطرح أي صاحب دين أو مذهب أو اتجاه فكري رأيه ومعتقداته، معضِّدًا إياها بالأدلة والبراهين، ولا يقبل الطرف الآخر هذه المعتقدات والأفكار ـ إما لقصور في الأدلّة أو لقصور في فهم الطرف الآخر ـ، فهذا ليس مبرِّرًا لأي طرفٍ منهما أن يتعصّب ضدّ الآخر أو ينزع عنه ما له من حقّ الاحترام والكرامة الإنسانية، يقول تعالى: ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾[5] ، فهو من يتحمل مسؤولية كفره، ومسؤولية اختياره المذهبي والفكري، فالله خلق الناس أحرارًا في دنياهم، وما يعتقدون فيها من معتقدات، ولكن على الجميع أن يتعايشوا فيما بينهم في هذه الحياة على أساس الاحترام المتبادل، ولكلٍّ منهم ما اختار من دين، كما يقول الله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[6] ، بحيث يعيش كل طرف يحترم الآخر، وهذه هي رؤية القرآن التي تمثِّل الرؤية الإسلامية.
هناك قسم من الناس يبقون منشغلين بالجدل والخلاف الديني بين أتباع الأديان والمذاهب، فتجدهم يعيشون على مثل هذه الملفات التي لا تُغْلَق ويطوى قيدها، كلٌّ منهم ينادي بأحقيّة دينه ومذهبه ومعتقده، وهو جدال ونقاش عقيم، لن يؤدّي إلى نتيجة، فليعتقد كلٌّ بما يعتقد به، ذلك أن الانشغال بمثل هذه الأمور يعطّل ويعرقل مسيرة الحياة، ويلهينا بأمور تفصيلية صغيرة عن الأمور والقضايا الكبرى، التي من شأنها أن ترقى بمجتمعاتنا وشعوبنا، وتجعل لنا دورًا في الحضارة الإنسانية المعاصرة.
ما تدعو إليه الآيات في مثل هذه المواقف هو أن يأتي كلٌّ بأدلته، ليكون هناك نقاش علمي هادئ وموضوعي، وفي حال لم يقتنع أحد الطرفين بهذه الأدلة، فليقبل كل منهما الآخر كما هو، وليشتركا سويًّا في إعمار هذه الأرض، بدلاً من الصراعات والعصبيات المذهبية التي تشغل كلاًّ من الطرفين في إظهار مثالب وعيوب الطرف الآخر. كما أن القرآن يطالب في الحوار أن يكون حوارًا يحترم كل طرفٍ فيه الآخر، بحيث يدعوه بالأسلوب والطريقة الأحسن، يقول تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[7] .
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾[8] ، إذ المنسك يعني طريقة العبادة، بمعنى أن لكل أمة طريقتها في العبادة لله، ولا يعني هذا صحّة جميع هذه الطرائق، وليس هذا ما تتحدّث عنه الآية، بل هي بصدد الحديث عن الحالة الطبيعية لكل أمّة وشعب من الشعوب، حيث تشير إلى أن لكلٍّ منها طريقته العبادية التي تتعبّد بها لله سبحانه وترتبط فيها بالغيب الذي تعتقد به.
ثمّ توجه خطابها إلى الرسول محمد ، إذ يقول تعالى: ﴿ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ﴾، وهو أمر وإرشاد إلهي للرسول ، بألا يُشغل نفسه كثيرًا في الجدال والنزاع الفكري مع الطرف الآخر، فإن قبلوا، فالمطلوب هو هدايتهم، وإن أعرضوا فلا سلطان للرسول عليهم.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾، إن الله سبحانه يقول في هذا المقطع لرسوله محمّد : كن مستمرًّا في دعوتك فأنت على طريق الهداية، وعلى الطريق المستقيم، وإن دعوك للجدال والحوار العقيم لا تستجب لهم، بل واصل طريقك، ولا تكن مثل هذه الأمور شاغلة لك عمّا هو أهم.
وهذه المقاطع القرآنية هي موجّهة للرسول ، ولكنّها عامّة لجميع المسلمين، فلنكن حذرين في الدخول في بعض النزاعات الفكرية التي تُبثّ على الفضائيات، فهي لا تختلف ـ في مضمونها ودوافعها ـ عمّا تنهى عنه هذه الآية الكريمة. فبعض الناس ينساق في الجدل المذهبي تحت مبرر الدفاع عن معتقده المذهبي، الذي يريد أن ينتصر له، وهذا خطأ، فالقرآن الكريم يَعُدُّ هذا انشغالاً عمّا هو أهم وأولى. فالنقاش والحوار العلمي مطلوب في حال وجدت الظروف الموضوعية، أما إذا كانت المسألة مجرّد تسجيل نقاط، وذكر مطاعن ومثالب الطرف الآخر، فهذا أمر مرفوض، لهذا يقول تعالى في الآية التالية: ﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، بمعنى: إن أصر البعض منهم على جدالك، فاقطع الطريق عليه، وقل له: إن الله أعلم بتوجهاتكم، ولا تطِلْ معه الحديث، لذلك يقول سبحانه في آية أخرى: ﴿اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[9] ، حيث تشير إلى نقطة مهمّة، وهي أن الحسم والفصل بين الآراء الدينية لا يتحقق في هذه الدنيا، وستبقى التوجهات مختلفة، إلى ان يجتمع البشر بين يدي خالقهم، فيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
ومما يؤسف له أن المسلمين مستمرون لأكثر من 1400 سنة في الجدل المذهبي: «نحن عقيدتنا الأفضل والأصح، وعقيدتكم الباطلة وغير الصحيحة»، «أنتم قلتم كذا وكذا ونحن قلنا كيت وكيت»، وليس هناك كلام جديد، وليس عند المجادلين من أهل السنة إشكال جديد على الشيعة، كما أن الشيعة ليس لديهم جواب جديد عما يثيره أهل السنة، فكل الحديث الذي يتداول اليوم قالوه منذ زمن وأمد بعيد، هذا الجدل يشغلنا عن حياتنا وأمورنا المصيرية، ولذلك ينهى الله سبحانه وتعالى عن الجدل بهذه الطريقة.
إن هؤلاء الذين يصدرون كل يوم بيانًا ويجمعون عليه التوقيعات، وأولئكم الذين يطرحون في كل يوم إثارة ويفتحون هذه الملفات، هم في الواقع إما من أولئك الذين لم يستوعبوا الرؤية القرآنية فيما يرتبط بالاختلافات الدينية، أو أن هناك أغراضًا ومقاصد شخصية وفئوية تدفعهم بهذا الاتجاه، كما أن احتمال تأثرهم بجهات خارجية تدفعهم نحو إثارة مثل هذه الفتن والنعرات الطائفية والمذهبية في بلدان العالم الإسلامي وارد، سواء كان هؤلاء من السنة أو الشيعة، أو من المسلمين أو من غير المسلمين، علينا أن نتجاوز هذه الحالة، وأن نضع نصب أعيننا هذه الآية: ﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، فكلمة الحسم هناك يوم القيامة، وفي حياتنا الدنيا علينا أن نتعايش مع بعضنا بعضًا، مع اختلاف أدياننا ومذاهبنا ومعتقداتنا الفكرية والأيديولوجية.
وفي هذا الخصوص أردت أن أشير إلى حدثَين مهمَّين مرَّا بنا خلال هذا الأسبوع، أخذ أحدهما حقه من الإعلام والإعلان، بينما عُتِّمَ على الآخر، الأول منهما كانت قمّة حوار الأديان في نيويورك، وهي قمة كان من المفترض أن تكون بين الجهات والمؤسسات الدينية على مستوى العالم، ولكنّها اخذت المنحى السياسي، حيث عقدت تحت مظلة الأمم المتحدة، وحضرها رؤساء وزعماء الدول السياسيين، ونحن ـ هنا ـ مع أي مبادرة إيجابية على هذا الصعيد الإنساني.
وكان عقده تحت هذه المظلّة الأممية، وحضور هذا العدد من الزعماء السياسيين، سببًا في أن يأخذ حقّه ونصيبه من الإعلام، وتغطيته من قبل وسائل الإعلام العالمية والمحلّية.
لكن هناك مؤتمرًا آخر أعتقد أنه كان أشد ضرورةً والتصاقًا بحاجات الأمة، وهو المؤتمر الذي حصل في النجف الأشرف بين علماء السنة والشيعة يوم الاثنين الماضي الموافق لِـ 12/ 11/ 1429ﻫ ـ 10/ 11/ 2008م، ومما يؤسف له أن هذا المؤتمر قد عُتم عليه، فلم تتحدّث عنه وسائل الإعلام ولم تسلط الأضواء عليه، مع أن هذه الوسائل ترى البعض منها تتهافت على التقاط أي خبر في العراق، وبخاصّة تلك الأحداث الفتنوية والمذهبية.
لكنها تتجاهل مؤتمراً يحضره حوالي ألف عالم من السنة والشيعة في العراق الذي عانى من صراع وتناحر أعطي له طابع الصراع المذهبي، وانشغلت وسائل الإعلام بتلك الاحداث طويلا، وكان لهذه التغطية الإعلامية السلبية دور كبير في تأجيج النعرات على مستوى العالم الإسلامي، بينما تمر على مثل هذا المؤتمر الايجابي دون اعطائه حقه من الاهتمام.
إننا عندما نتجاوز مسألة التجاهل الإعلامي ـ الذي قد يكون مقصودًا في بعض مواقعه، نرى أن علماء العراق ـ والحمد لله ـ قد استطاعوا أن يتداركوا الموقف، وأن يصلوا إلى تشكيل تجمع مشترك بين علماء السنة والشيعة، بعد أحداث دامية شديدة العنف، طالت العديد من مدن وقرى العراق ومواقعه الدينية، ومما يدعو إلى التفاؤل أن هذا الملتقى هو الثاني من نوعه، حيث عقد المؤتمر الأول في السنة الماضية، ونتمنّى أن تتواصل هذه الجهود والمبادرات الطيّبة المؤثّرة على مستوى العراق والأمة الإسلامية عمومًا.
وفي هذه السنة لم يكن المؤتمر مقتصرًا على علماء السنة والشيعة من العراق فقط، بل شمل علماء من خارج العراق، كما حضر وفد من منظمة المؤتمر الإسلامي، ومندوبون عن المراجع الدينية، وقد صدر عن هذا المؤتمر بيان ختامي عبّر عن مجمل آراء المؤتمرين.
إن هذا المؤتمر يأتي في ظروف حسّاسة بالغة الأهمية، فقد شهدت الساحة الإسلامية خلال الشهور الماضية تصعيداً في اثارة القلق تجاه العلاقات السنية الشيعية، وتشكيكاً في جدوى التقريب بين المذاهب ومساعي الوحدة عبر العديد من الخطابات والبيانات والتصريحات، وهي الحالة التي تقذف في قلوب أبناء الأمة مزيدًا من عوامل الإحباط، ونزعة الفرقة والتباعد بين أطيافها وتوجّهاتها، وكان من ذلك البيان الذي وقّع عليه 190 من إخواننا من أهل السنّة معظمهم ضمن توجُّه المدرسة السلفية، بعنوان التضامن مع الشيخ القرضاوي، وإنه لأسف شديد أن تصدر مثل هذه المبادرات المُحبِطة، في الوقت الذي يعيش فيه عالمنا دعوات الحوار بين الأديان والشعوب والثقافات والحضارات، وإذا بنا أمام دعاوى تثير الشكوك تجاه مساعي الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، ومن قِبَل جماعة من علماء الأمة لنا عليهم حقّ العتاب، بما يكرِّسونه من حالة اليأس في نفوس الأمة من التقدم على طريق الوحدة والتقارب.
بعد كل هذه المحاولات يأتي مؤتمر النجف الأشرف، ويجمع علماء من السنة والشيعة في البلد التي تتضافر فيها العوامل والأسباب للنزاع الطائفي، ولكن هؤلاء الواعين بعد أن جرّبوا ويلات النزاع والاحتراب ودفعوا الثمن باهظاً من نفوس ومصالح شعبهم، رأوا أن هذا الخلاف لا يخدم أحدًا، لا السنة ولا الشيعة، إنما يخدم الأعداء.
وانعقاد هذا المؤتمر في النجف هو أفضل جواب ورد على تلك البيانات المحرّضة والمتشائمة، لأننا لا نؤيد سياسة البيان في مقابل البيان، ولا أسلوب التصريح في مقابل التصريح المضادّ، لأن هذا يصبُّ الزيت على نار الفتنة، وإنما ندعو ـ بدلاً من ذلك ـ إلى ان تتضافر الجهود الإيجابية العملية المثمرة، فهذا العمل الإيجابي الذي تمّ في النجف الأشرف هو أفضل رد على مثل هذه البيانات والخطابات المتشنّجة التي ظهرت في الآونة الأخيرة.
إننا في الوقت الذي نعتب فيه على وسائل الإعلام التي لم تسلط الضوء على مثل هذه الفعالية والحدَث المهم، نهيب بكل مخلص وكل واعٍ أن يهتم بهذا الموضوع، وأن يجعله سببًا في إثارة الأمل والتفاؤل، والدفع باتجاه الوحدة والتقارب بين أبناء الأمة، فخطاب المرجعيات الدينية المشارِكة، والكلمات التي ألقيت في المؤتمر كانت تحمل العديد من نقاط الضوء والأمل للنفوس، وقد توّجها حديث المرجع الأعلى السيد السيستاني ـ حفظه الله ـ أمام وفد علماء السنة والشيعة الذين التقوه بعد المؤتمر، حيث كان بالفعل يعطي الكثير من الأمل والتفاؤل، وأنا أنقل هنا مقتطفات من كلام سماحته؛ لتروا كيف أن المرجعية تحمل هذا التوجه وهذا النهج، ذلك أن مشكلتنا في مجتمعنا أن هناك من يرى أن الكلام عن الوحدة والحوار والتقارب ضربًا من العبث، وتنازلاً وتمييعًا للولاء المذهبي. لكلٍّ رأيه، لكننا نرى أن هذا هو ما تدل عليه آيات القران الكريم، وهذا ما تأمر به روايات أهل البيت ، وها نحن نرى أنه ما تدعو إليه المرجعية العليا، فهذا المرجع الأعلى في النجف الأشرف يؤيّد هذا الاتجاه، لذلك علينا أن نعرف أن التوجه نحو التقارب والحوار ليس توجهًا سياسيًّا مصلحيًّا عند بعض الفئات وبعض الشخصيات، أو هو نوع من إبداء التنازل تجاه الطرف الآخر، أو لهاث خلف الظهور والبروز وتحصيل المواقع، إنما هو منهج ديني رسالي، بدليل ما نراه من مواقف القيادات الدينية وما توصينا به تعاليمنا الشرعية.
- «أتمنى لكم التوفيق في هذا اللقاء وأدعوكم إلى الوحدة، إذ من المفيد أن تلتقوا وتتوحدوا، وأنا أفتخر أن أكون خادمًا لجميع العراقيين».
- «أنا سعيد بما أسمع من خطاب وحدوي لدى علماء السنة، و يعزّ عليّ أن أسمع أحيانًا الكلمات المثيرة للفرقة».
- «الاختلاف في الفكر والاجتهاد لا يجوز أن يكون سببًا للتفرقة، بل "اختلاف أمتي رحمة"».
- «نرحب بمجيئكم للنجف واجتماعكم هذا، وندعوكم إلى أن تكونوا متحدين، وما وقع من اختلافات كان مؤلمًا لقلبي».
- «عليكم التركيز على بيان المشتركات، ولا داعي للتعرض إلى المسائل الخلافية».
- «أنا أجزم أن إرادة التفرقة جاءت من الخارج».
- «بعد التعرض لمرقد الإمامين العسكريين دعوت الشيعة كلهم إلى الهدوء وعدم الردّ، وقلت إن ما حدث لم يقم به أهل السنة».
- «لو راجعتم كلامي خلال جميع لقاءاتي، فإني أدعو باستمرار إلى الوحدة، ولم أتكلم بكلمة واحدة مخالفة لهذا التوجه».
- «درست عند الشيخ أحمد الراوي، وهو من علماء السنة في سامراء، ولم يكن يخطر ببالي أنه على غير مذهبي».
- «كما أننا كنا نراجع بعض الأطباء ـ وهم من أهل السنة ـ، ولكوني من طلبة العلوم الدينية، لم يكونوا يأخذوا منا أجورًا، ولم يفكروا أننا من السنة أو الشيعة، وهذا هو أنموذج التعايش الوحدوي في العراق».
- «لا يجوز أن نساهم حتى بشطر كلمة من شأنها أن تؤدي إلى التفرقة، ويجب الابتعاد عن الخطاب المتشنج».
هذه هي توجيهات مراجعنا العظام، البعض من الخطباء من الشيعة والسنة يعدها بطولة عندما يعرض عقيدته بخطاب متشنّج ومتعصّب تجاه الطرف الآخر، وهذه ليس بطولة، هذه مخالفة شرعية حينما تكون سببًا لإثارة الفتنة، وكم يَسْعَدُ الإنسان بأخبار هذا المؤتمر في النجف الأشرف وبأمثاله من الأنشطة والفاعليات الاجتماعية الوحدوية المخلصة.
وعلينا ألاّ نغفل دورنا الإعلامي والثقافي في التفاعل مع هكذا أحداث، لذلك على الواعين من أبناء المجتمع أن يوجهوا الأنظار إلى مثل هذه الأنشطة، خدمة لواقع أمتنا ومجتمعاتنا.
لم يقم بالمؤتمر أي جهة حكومية، وإنما كان نشاطًا أهليًّا مستقلاً، ضمن الجوّ العلمي، وبمبادرة من الواعين والمخلصين من القيادات الإسلامية الواعية، التي تحفل بها مجتمعاتنا، ولكنها قد لا ترتفع أصواتها كثيرًا.
نرجو أن تتواصل مثل هذه اللقاءات والمؤتمرات ونأمل ـ إن شاء الله ـ أن الشرر الذي وصل إلينا ـ وإلى كل المسلمين ـ مما حصل في الساحة العراقية من مشاكل وكان ضارًّا ومؤلمًا، إننا نرجو أن تكون الساحة العراقية مصدراً ودافعاً لتعزيز التوجهات التقريبية وباعثًا لوحدة الشعب العراقي، ليتغلب على الظروف العصيبة التي مر بها، بقيادة هؤلاء العلماء الواعين الذين يقدمون أنموذجًا للوحدة والتعاون بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة.
والحمد لله رب العالمين