تقديم كتاب «العودة إلى القرآن»
الكتاب: العودة إلى القرآن
المؤلفين: فاضل البحراني - بشير البحراني
الناشر: دار المحجة البيضاء - دار الرسول الأعظم، الطبعة الأولى 1421هـ/ 2000م
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين
العودة إلى القرآن هو خلاص البشرية من البؤس والشقاء الذي تعنيه رغم تقدمها المادي التكنولوجي الهائل.
والعودة إلى القرآن هو سبيل الأمة الإسلامية للعزة والكرامة وتجاوز حالة التخلف الحضاري الشامل.
تلك حقيقة ثابتة واضحة تكفلت فصول هذا الكتاب القيم بتجليتها وتبيينها بأسلوب شيق جذاب، لكن ما أحببت إضافته والتأكيد عليه، هو الحديث عن جيل العودة إلى القرآن. وقد أوحي إلي بهذا الحديث كون المؤلفين الفاضلين ينتميان إلى جيل الشباب الصاعد.
فمن أين تنطلق رحلة العودة إلى كتاب اللَّه؟ ومن هي الفئة التي تقود مسيرتها؟
حينما هبطت آيات الذكر الحكيم لأول مرة على نبينا الأعظم محمد فإن قلوب الشباب هي التي احتضنت القرآن، وألسنتهم هي التي أوصلته إلى المسامع، وسواعدهم خاضت معارك الجهاد لتثبيت منهج القرآن في الحياة.
فأول من شنفت آيات القرآن سمعه من رسول اللَّه كان شاباً يافعاً في أول سنوات شبابه وهو علي بن أبي طالب، والذي استوعب القرآن آية آية وحرفاً حرفاً كما يقول : سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية لأخبرتكم بوقت نزولها، وفيما نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها، وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكّيها من مدنيها.
ويقول في كلمة أخرى: إني لأعرف ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وفصاله من وصاله، وحروفه من معانيه، واللَّه ما حرف نزل على محمد إلا وأنا أعرف فيمن أنزل، وفي أي يوم نزل، وفي أي موضع نزل[1] . وإلى أن انقطع الوحي بوفاة رسول اللَّه واكتمل نزول القرآن، كان علي لا يزال في مرحلة الشباب، حيث لم يتعد عمره الثالثة والثلاثين.
وأول صادح بالقرآن في ملأ قريش كان شاباً اسمه عبد اللَّه بن مسعود، وهو سادس ستة سبقوا إلى الإسلام، ويتحدث عن موقفه البطولي أحد أصحابه قائلاً: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول اللَّه بمكة عبد اللَّه بن مسعود إذ اجتمع يوماً أصحاب رسول اللَّه فقالوا: واللَّه ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟
فقال عبد اللَّه بن مسعود: أنا.
قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.
قال: دعوني فإن اللَّه سيمنعني.
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام، ثم قرأ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم -رافعاً بها صوته- الرحمن. ثم استقبلهم يقرؤها.. فتأملوه قائلين: ماذا يقول ابن أم عبد؟ إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد.. فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته، حتى بلغ منها ما شاء اللَّه أن يبلغ..
ثم عاد إلى أصحابه مصاباً في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشيناه عليك..
فقال: ما كان أعداء اللَّه أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً.
قالوا له: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون.
كان الشاب ابن مسعود يقرأ القرآن بتفاعل صادق حتى روي عن رسول اللَّه أنه قال: (( من أحب أن يسمع القرآن غضَّاً كما أُنزل فليسمعه من ابن أم عبد )) [2] .
وأول من حمل آيات القرآن الكريم إلى المدينة، وعلّم أهلها القرآن، وهيأها لتكون مهجر الرسول ودار الإسلام، هو الشاب المجاهد مصعب بن عمير، والذي اعتنق الإسلام في نضارة شبابه، حيث أخذت آيات القرآن التي سمعها لأول مرة من رسول اللَّه في دار الأرقم بن أبي الأرقم بمجامع قلبه، وأحدثت تحولاً فورياً في وجوده ونظرته للحياة.. فتخلى عن حياة الدلال والترف والرخاء، حيث كان أرفه شاب بمكة، كما يقول عنه رسول اللَّه : (( لقد رأيت مصعباً وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً للَّه ورسوله )) .
لقد انجذب بكله إلى القرآن، وتشربت نفسه مفاهيمه ومعانيه، وارتكزت في ذهنه وقلبه آياته وسوره، فاختاره الرسول أول سفير للإسلام خارج مكة، وانتدبه ليعلم أهل المدينة القرآن، ويفقههم في الدين.
كان في أصحاب الرسول يومئذ من هم أكبر منه سناً، وأكثر جاهاً، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل إليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي إليه بمصير الإسلام في المدينة، التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة[3] .
تلك كانت أمثلة ونماذج من جيل شاب وعى القرآن بدء نزوله وحمله رسالة ومنهج حياة، وأرسى على ضوء هديه أساس الحضارة الإسلامية الشامخة..
أما لماذا كان الشباب هم جيل الاستجابة للقرآن أكثر من غيرهم؟
فذلك للأسباب التالية:
1- أنهم كانوا في مرحلة تفتح الفكر، وتشكيل الوعي، ووجدوا أمامهم أسئلة ملحة عن سر الحياة، وسبب الوجود، وغاية الخلق، ورأوا في القرآن الكريم الهدي والهداية إلى الإجابات الشافية المقنعة، التي تنسجم مع الفطرة وتتوافق مع المنطق وبديهيات العقل.
2- وكشباب مرهفي المشاعر والأحاسيس، كانوا يتحسسون مساوئ الواقع الجاهلي المعاش، من عبادة أصنام، وفساد أخلاق، ونشوب حروب وفتن، لكنهم لا يعرفون طريقاً للخلاص والعلاج، وجاءت آيات القرآن الحكيم، لتمنحهم البصيرة والنور، ولتضع أقدامهم على طريق النجاح والسلام، فاستقبلوها بإخلاص واندفاع.
3- كانت قلوبهم أنقى وأصفى من الآخرين، فلأنهم شباب حديثو عهد بالحياة لم تتمكن المصالح من نفوسهم، ولم تسيطر السلبيات على أذهانهم، ولم تتكرس المساوئ والمفاسد في سلوكياتهم.. فانشدادهم للواقع الفاسد كان ضعيفاً ومحدوداً، مما جعلهم أكثر قدرة على التحرر منه، والإفلات من هيمنته، والانطلاق نحو أفق جديد.
4- ومرحلة الشباب تخلق عند الإنسان ثقة بالذات، ورغبة في المغامرة، وتطلعاً لمستقبل أفضل.. وذلك ما يتناغم مع هدي آيات القرآن الحكيم، ويخلق الأرضية المناسبة للتفاعل معها.
5- وتوجه الرسول لهم وإقباله عليهم، وما كان يفيضه عليهم من حب وحنان، ويبديه لهم من تقدير واحترام، في مجتمع كان السن والمال فيه مناط المكانة والزعامة، كل ذلك جذبهم إلى رسول اللَّه ، واستقطبهم إلى رسالة اللَّه تعالى، فالخلق العظيم الذي تحلى به المصطفى ، وغمر به أولئك الشباب التائهين المهملين في مجتمعهم، هو الذي صنع شخصياتهم القيادية، وفجّر مواهبهم وكفاءاتهم وطموحهم نحو العزة والتقدم.
وكما بدأت مسيرة القرآن الكريم على أيدي الشباب، فإن رحلة العودة إلى القرآن ستكون على أيديهم المباركة إن شاء اللَّه.
فمن ينهل من القرآن في فترة شبابه، ويرتشف من نميره العذب، فإن بناءه النفسي، وتشكيله الفكري، وممارسته السلوكية، ستصاغ على هدي الوحي، فشخصية الإنسان تتبلور معالمها، وتتحدد سماتها في فترة الشباب، فإذا كان فيها قريباً من القرآن، متتلمذاً على آياته، فسيكون قرآنياً في توجهاته ومسارات حياته.
ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (( من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن، اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله اللَّه عز وجل مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة )) [4] .
إن مؤشرات كثيرة تلوح في الأفق تبشر بمستقبل واعد لأمتنا الإسلامية على أيدي شبابها الأعزاء المؤمنين، فهذه الصحوة الإسلامية المباركة، والأنشطة الدينية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، والبرامج القرآنية في تلاوة القرآن وتحفيظه وتعليمه وتفسيره، التي يقبل عليها الشباب الطيبون، كلها بشائر خير على نهضة حضارية قادمة.
وهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم هو من بشائر الخير، وبواعث الأمل المشرق، فمؤلفاه الكريمان الأستاذ فاضل أحمد البحراني وأخوه الأستاذ بشير مثل ونموذج للشباب الرساليين القرآنيين، عرفتهما منذ طفولتهما بالصلاح والأدب، وهما يقدمان الآن كتابهما الثاني (العودة إلى القرآن) بعد كتابهما الأول (نفي التنافي في القرآن الكريم).
وقد قرأت الكتاب، واستمتعت بالاطلاع على بحوثه، ورأيت فيه جهداً طيباً، وإنجازاً مباركاً، حيث عالج الموضوع من أبعاده المختلفة، بموضوعية ووضوح، وبتعبير سلس شائق، بالاعتماد على المصادر المتخصصة والعامة.
كما أن تعاونهما كأخوين في مجال البحث والتأليف بادرة رائعة أرجو أن تدفع سائر الأخوة الشباب إلى مثل هذه التجربة الجميلة، والتي هي مصداق للتعاون على البر والتقوى، وتكريس لمبدأ العمل الجمعي في مختلف المجالات وخاصة في المجال العلمي والثقافي.
أرجو اللَّه لهما التوفيق والمزيد من العطاء والبذل في خدمة المعارف القرآنية، وأن يكتب اللَّه لهما السعادة والنجاح والاستقامة على طريق الخير والصلاح.
وآمل أن يكونا قدوة حسنة..
والحمد للَّه وسلام على عباده الذين اصطفى
حسن الصفار
25/ 2/ 1421هـ