المؤتمرات ظاهرة حضارية
الحمد لله استتماماً لنعمته، واستعصاماً عن معصيته واستسلاماً لعزته، واستجلاباً لرحمته. نحمده سبحانه حمداً يجلب المزيد من نعمه، ويدفع الشديد من نقمه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نتمسك بها ما أحيانا، ونعتمدها للفوز في أخرانا، فإنها فاتحة الإحسان، وعزيمة الإيمان، وحصن الرحمن.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالضياء اللامع، والنور الساطع، وأفضل الشرائع. ونصلي عليه وآله أسس الدين، وحفظة الشرع المبين، وقادة المؤمنين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه فإنها الدرع الواقية في الآخرة من العذاب، والمنجية من الصعاب. جعلنا الله وإياكم من المتورّعين عن محارمه، المبادرين إلى طاعاته.
حين يتّجه الإنسان إلى أي مجال من مجالات العلم والمعرفة ويُصبح من أهل الرأي والخبرة فيه، فإنه سيُدرك قيمة الآراء العلمية وأهمية التجارب والخبرات لدى الآخرين. فالعلم بحرٌ لا متناهٍ، يقول تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء، 85] ويقول تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف، 76].
فمن الطبيعي أن يقف الإنسان بمفرده عاجزاً أمام هذه البحر المتلاطم من العلم، وإذا كان مخلصاً للعلم والمعرفة والمجال الذي يُبحر فيه، فإن ذلك سيدفعه للاطلاع على آراء وخبرات الآخرين.
لذا نجد أن ذوي المعرفة والرأي يتّجهون للتواصل فيما بينهم لتحقيق مستوىً أكثر تقدّماً في مجالات تخصصهم واهتمامهم. ومع تقدّم البشرية أصبح هذا التواصل منظّماً، يتجاوز الحدود الجغرافية ولم تعد اللغة مشكلةً أو مانعاً أمام تعدد الجنسيات، فوجود الترجمة الفورية عالج هذه المشكلة.
والنصوص الدينية تدعم هذا التوجه الفطري العقلي، فقد ورد عن الرسول الأعظم محمدٍ أنه قال: «أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه»[1] .
وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «حقّ على العاقل أن يُضيف إلى رأيه رأي العقلاء، ويضمّ إلى علمه علوم العلماء»[2] .
ويشهد العالم اليوم ظاهرة حضارية تُعتبر معلماً من معالم التقدّم البشري ونموذجاً رائداً على صعيد التواصل بين ذوي الرأي والخبرة في المجالات المختلفة، هذه الظاهرة هي عقد المؤتمرات العلمية، والتي أصبحت ترصد لها البلدان الميزانيات الضخمة لأنها باتت تعكس مدى تقدّم البلد، بحسب كميّة ونوعية المؤتمرات العلمية التي تُعقد فيه.
ومن أهم المكاسب التي تتحقق من خلال المؤتمرات:
1. تُعرّف العلماء والباحثين على بعضهم.
2. تُساعد على تدوير الآراء والأفكار.
3. تصنع الرأي في أوساط النخب العلمية والمعرفية.
4. تلفت النظر عالمياً إلى بعض القضايا والاهتمامات.
واقع المؤتمرات في المجتمعات العربية والإسلامية
بدأ العالم العربي والإسلامي في الآونة الأخيرة يتّجه إلى عقد بعض المؤتمرات حول القضايا التي تُثير اهتمام أطيافه، كموضوع الوحدة، وتكريم الشخصيات الرائدة، إلا أن هذه المؤتمرات ما زالت في طور النمو، فهي حديثة عهد، وتحتاج إلى جهدٍ كبير من أجل تطويرها والرقي بمستواها إلى الواقع المتقدّم الذي يشهده العالم اليوم في مجال عقد المؤتمرات المتخصصة. فمن حيث التنظيم والإعلام وإدارة المؤتمر والجدية في تناول المواضيع والتوصيات الختامية كل هذه الأمور وغيرها تشكو من ضعفٍ كبير، بل إن بعض المؤتمرات التي تُعقد في المجتمعات العربية والإسلامية ليس من ورائها أي جدوى سوى الإعلام والاستعراض، والخسائر المالية والجهود التي تُبذل في تنظيمها، ولو كانت هذه الجهود في مجالٍ آخر لكان أفضل وأكثر منفعة. والمطلوب هو التوجّه لمعالجة نقاط الضعف، وليس التراجع عن عقد المؤتمرات، فهي تمثّل مائزاً بين المجتمعات، وتخلق مجتمعاً واعياً قادراً على مواجهة تحديات العصر.
ما زال مجتمعنا المحلي يشكو من انعدام عقد المؤتمرات المتخصصة، ليس لنقص في الكفاءات والإنجازات، فالمجتمع، والحمد لله، يزخر بالكفاءات على مختلف الصعد، وإنجازاته واضحة المعالم، إلا أن ثقافة المؤتمرات لا تزال غائبة عنه، ويحتاج الواعون إلى قرع الجرس لبدء مرحلةٍ جديدة، وتدشين مؤتمرات متنوعة متخصصة محلية، في مختلف المجالات التي تهم المجتمع، سواءً على المستوى الديني أو العلمي أو الاجتماعي أو الثقافي.
فما أحوج مجتمعنا إلى مثل هذه الخطوة، التي من خلالها يستطيع المجتمع أن يُدشّن عهداً جديداً للمنطقة، تتضافر من خلالها الجهود والكفاءات، وتتبلور الأفكار والآراء، وتتسع رقعة الوعي، ويستفيد الجميع من التجارب والخبرات التي تملأ ساحة المنطقة، إلا أنها مغمورةٌ.
ولكي تتحقق هذه الخطوة يحتاج المجتمع إلى مبادرات أهلية تدفع بهذا الاتجاه، وتُشجّع عليه، وهنا يأتي دور العلماء والمصلحين والمثقّفين ورجالات المجتمع لأخذ هذا الدور المهم في الدفع باتجاه تدشين مؤتمرات متخصصة محلية، يتحقق من خلالها تقدم المجتمع.
بحمد الله تعالى وفّقني سبحانه للمشاركة في مؤتمر الهيئة العالمية للفقه الإسلامي المنعقد في (اسطنبول ـ تركيا) وهي هيئة علمية أهلية مستقلّة وثيقة الصلة بمؤسسة السيد الخوئي في لندن. وشارك في المؤتمر (60) عالماً وباحثاً من السنة والشيعة، وكان عنوان المؤتمر: الفقه الإسلامي وتحديات العصر.
واستمر لمدة يومين، بمعدّل 6 ساعات يومياً، تمّ خلالها تناول الموضوعات التالية:
· المواطنة في الفقه الإسلامي.
· حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي.
· حقوق المرأة في الفقه الإسلامي.
وكانت مشاركتي ببحث حول موقعية حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي. وكانت هذه التجربة ناجحة وجيّدة نأمل لها المزيد من التقدّم والتطور، لتكون أكثر نتاجاً وخدمةً لقضايا مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأن يخطو مجتمعنا باتجاه مثل هذه المؤتمرات الواعية.
العدل والمساواة لحفظ الاستقرار والأمن
قد يُحب الإنسان شخصاً أو يبغض آخر، وقد يُحب طائفة أو يبغض أخرى، لأسباب نفسية أو فكرية أو اجتماعية، فهذا شأنه الخاص. وقد يُفضّل شخصاً لحبه له، ويتجاهل شخصاً لبغضه له في مجال علاقاته الشخصية، وهو حرٌّ في ذلك أيضاً. إلا أن الأمر إذا تعلّق بالشأن العام فهنا ينبغي للإنسان أن يتعامل بعيداً عن ميله النفـسي والشخـصي، ملتزماً بالعدل والإنصاف.
أول دائرة يجد الإنسان نفسه في محيطها هي العائلة، ومع تعدد أفراد العائلة قد تختلف مشاعر الإنسان تجاه كلّ فردٍ منها، فعندما يكون للإنسان أكثر من ولد، فعليه هنا أن يضع في حسابه العدل بين الأولاد، ليس فقط في الأمور المادية، بل حتى الأمور العاطفية التي يُظهرها لأبنائه، فقد جاءت النصوص الدينية لتؤكد على هذا الجانب المهم، يقول الرسول الأعظم : «إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبرّوك»[3] ، وعنه : «اعدلوا بين أولادكم في النّحل (أي العطية والهبة ابتداءً من غير عٍوض ولا استحقاق) كما تُحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ والعطف»[4] ، عنه : «اتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم كما تُحبّون أن يبرّوكم»[5] ، وعنه : «اعدلوا بين أولادكم كما تُحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللطف»[6] ، وعنه : «ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضّلاً أحداً لفضّلت النساء»[7] . وعنه : «إن الله تعالى يُحب أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القُبل»[8] . وعن أمير المؤمنين أنه قال: «أبصر رسول الله رجلاً له ولدان، فقبّل أحدهما وترك الآخر، فقال : فهلا واسيت بينهما؟!»[9] . وعن الإمام الباقر أنه قال: «والله إني لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي، وأكثر له المحبة، وأكثر له الشكر، وإن الحق لغيره من ولدي، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره، لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف إخوته»[10] .
وعن النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطيّة، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد النبي ، فأتى النبي فقال: إني أعطيت ابني من عمرة عطّية فأمرتني أن أشهدك، فقال: أعطيت كل ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم، لا أشهد على جور»[11] .
إنه يحق للإنسان أن يعطي أياً من أولاده ما يشاء، ولكنه يكره له أن يفضّل في العطية بعضهم على بعض، بل يحرم عليه ذلك إذا كان يسبب الفتنة والعداوة.
وكذلك بالنسبة للرجل الذي يكون له أكثر من زوجة، مطلوبٌ منه أن يعدل بين زوجاته في العطاء المادي، والحق الزوجي، وإن كان من الصعب عليه أن يُساوي بين زوجاته في الميل القلبي، يقول تعالى: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾ [النساء،3]، ويقول تعالى: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ﴾ [النساء، 129].
فالمطلوب من الرجل هي العدالة العملية، وغير المستطاع هو العدالة العاطفية.
وكرتبة أعلى من الإطار العائلي يأتي موقع القضاء، إذ يلزم القاضي أن يحكم بعيداً كل البعد عن مشاعره وعواطفه، حتى وإن كان يميل بمشاعره إلى أحد المختصمين، فذلك مما نهت عنه الشريعة الغرّاء، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ [النساء، 135]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء، 58].
ويأتي الحاكم كأعلى موقعية بين الناس، وهنا تكون مسألة المشاعر أخطر بكثير من غيرها، إذ ينبغي على الحاكم بحكم موقعيته أن يكون حذراً جداً من تأثير الميل العاطفي أو القلبي تجاه فئةٍ دون أخرى، فهذا مما يوجب العداوة بين فئات الشعب. نعم من حق الحاكم أن تكون له مشاعره الخاصة، وعواطفه الشخصية، إلا أن ذلك ينبغي أن لا يكون في مجال التعامل وعلى صعيد الحقوق والواجبات، فالتمييز بين الناس أسوء ممارسة يُمكن للحاكم أن ينحو باتجاهها، لأنها لا تضـر بالشعب فقط، بل تضـر باستقرار الحكم، وتوازن القوى، واستتباب الأمن في الوطن، لذلك يؤكد الله تعالى في كتابه العزيز على خطورة الميل العاطفي في مجال الحكم، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة، 8].
بحمد الله تعالى شاركت في المؤتمر الذي انعقد في دولة الكويت حول الوقف الجعفري للمرة الثالثة، وهو مؤتمر يُعقد بإشراف رسمي من حكومة الكويت، وبتمويل من وزارة المالية، إلا أنه بإدارة علماء الشيعة هناك، حيث رأت حكومة الكويت أنه من حق الشيعة أن يُديروا أوقافهم وفق مذهبهم، وكما أنه لدى السنة إدارة خاصة لأوقافهم ويعقدون مؤتمراً سنوياً حولها، فللشيعة الحق في ذلك أيضاً، وهذا ما حصل بالفعل.
وقد عقد المؤتمر بإشراف رسمي من حكومة الكويت، وبرعاية أمير الكويت وبتغطية إعلامية رسمية، مما أعطى المؤتمر قوّة، تُضاف إلى قوة التنظيم الذي اجتهد القائمون على المؤتمر لإظهاره بصورةٍ مشرقة.
إن الشيعة هناك بهذا الموقف من الحكومة يشعرون بأنهم جزءٌ من البلد، وأنهم كبقية المواطنين يشعرون بوجودهم، وباحترام الحكومة لهم.
وحريٌّ بأن يحظى المسلمون جميعاً في مختلف بلدانهم، وإن اختلفت انتماءاتهم ومذاهبهم، بالمستوى المطلوب من العدل والإنصاف والمساواة، فذلك من أهم مسببات استقرار البلاد الإسلامية، واستتباب الأمن في جميع أرجائها.
والحمد لله ربّ العالمين.