المجتمع وصناعة الرؤية
المجتمعات البشرية وخاصة في أوقات الأزمات والمشاكل، هي أحوج ما تكون إلى نضوج الرأي ووضوح الرؤية، لأن ذلك يساعدها على تجاوز الأزمات وتخطي المشاكل، فالرأي الناضج والرؤية الواضحة، توجه مسيرة المجتمع نحو أفضل السبل والطرق، فلا تهدر الجهود والطاقات إلا فيما يعود بالربح والنفع المناسب لخدمة مصالح المجتمع.
لذلك ورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال: «ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»[1] .
ويحذّر الإمام الصادق من يبذل جهد دون رؤية، بأنه قد يخسر هدفه بدل أن يحققه، يقول فيما روي عنه: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً»[2] .
وقديماً قال الشاعر أبو الطيب المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان | هو أول وهي المحل | الثاني
فالشجاعة في مكانها المناسب تؤتي الثمار الكبير، لذلك يرتبط استخدام القوة بالقرار السياسي، وتعطي المؤسسات العسكرية أولوية لجهة الدراسة والتخطيط.
هذه حقيقة لا يتنكر لها ولا يجادل فيها عاقل، فلا أحد يقول بجدوى العمل والتحرك دون فكرة وخطة تحدد الهدف، وترسم الطريق إليه، لكننا حينما نتحدث عن قضايا المجتمع، وصناعة الرأي والرؤية تجاهها، نحتاج إلى إثارة عدد من النقاط والملاحظات:
نخبة كل مجتمع هم أصحاب الكفاءة ومواقع النفوذ والقدرة، من علماء دين وأكاديميين ومثقفين ورجال أعمال، هذه النخبة بما تمتلك من قدرات معرفية وخبرات عملية، هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن تكوين رأي وتشكيل رؤية حول قضايا المجتمع ومشاكله.
لكن المؤسف أن معظم أفراد هذه الشريحة قد لا يجدون أنفسهم معنيين ببحث ودراسة قضايا مجتمعهم، والاجتهاد في تقديم الحلول والمعالجات، إما للانشغال بالهموم الذاتية، أو لضعف الإحساس بمعاناة الناس.
وقد يكون لبعضهم رأي لكنه لا يريد أن يتحمل مسؤولية رأيه، فلا يجهر به، حذراً من اعتراض هذه الجهة أو تلك، أو أن يجد نفسه مطالباً بدور ما انطلاقاً من رأيه.
ثمة مشكلة أخرى تكمن في انعدام الأطر والبرامج التي يلتقي من خلالها أفراد هذه النخبة، فيتشاورون ويتناقشون لبلورة الآراء وإنضاجها، وللتعاون في تفعيلها، أسوة بمجتمعات أخرى تشكلت فيها ملتقيات ومؤسسات تجمع علماء الدين، أو المثقفين، أو الناشطين سياسياً واجتماعياً.
إن تخلي النخبة عن ممارسة دورها الريادي في الحراك الاجتماعي، يطيل أمد معاناة المجتمع، ويفسح المجال لبروز توجهات قد تنقصها الحكمة أو النضج، مما يعود بالضرر على مصالح المجتمع ومستقبله.
وبعض أفراد هذه النخب قد يأخذ دوراً سلبياً تجاه الفاعليات الاجتماعية، لتبرير تقاعسه، فهو لا يطرح رأياً ولا يقوم بدور، لكنه بالمرصاد لمبادرات الآخرين وأطروحاتهم.
إذا كانت النخبة هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن صناعة الرأي والرؤية، فإن ذلك لا يعني إعفاء جمهور المجتمع من المسؤولية، فكل أبناء المجتمع شركاء فيما يرتبط بقضاياهم العامة، لا يحتكرها أحد دون أحد، وهم جميعاً مسؤولون عن سوء الواقع الذي يعيشونه، ومطالبون بتغييره وإصلاحه.
يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[3] ، وورد عنه أنه قال: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»[4] .
وحينما وصف الله تعالى مجتمع المؤمنين بالتشاور بقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ فإنه لم يحصر التشاور في فئة محددة.
وحين أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة فقال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ فإن ذلك يشمل جميع المسلمين، ولذلك كان يخاطب جميع أصحابه قائلاً: «أشيروا عليَّ»[5] .
لقد منح الله تعالى لكل إنسان عقلاً يفكر به، وقد تنقدح فكرة مهمة في ذهن إنسان عادي، وقد يلتفت احد الأشخاص العاديين لأمر خطير لم ينتبه إليه غيره وكما قيل: «العلم كله في العالم كله».
يروي الحسن بن الجهم قال: كنا عند الرضا فذكرنا أباه، فقال: كان عقله لا توازى به العقول وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه)[6] .
ويشير أمير المؤمنين علي إلى ضرورة التكامل بين أفراد المجتمع، فلا يشعر أحد مهما كان موقعه بالتعالي والاستغناء عن سائر الطاقات، ولا يستصغر أحد نفسه في إمكانية مساهمته في الشأن العام. يقول : «ولَيْسَ امْرُؤٌ وإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ ولا امْرُؤٌ وإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ واقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ»[7] .
وإذا كان الفارق المعرفي كبيراً في ماضي الزمان بين النخبة وعامة الناس، فإن المسافة تقلصت الآن إلى حدٍ كبير، حيث انتشر التعليم، وتوفرت وسائل المعرفة والاطلاع، وارتفع منسوب الثقة بالذات.
مما يدفع بتوسيع رقعة المشاركة الشعبية في الشأن العام، وهذا ما يحصل في البلدان المتقدمة، حيث يشارك الناس في اتخاذ كل القرارات المرتبطة بأوضاعهم، يُستفتون على دستور بلادهم، ويختارون قيادتهم السياسية، وينتخبون ممثليهم للتشريع والرقابة على السلطة التنفيذية.
ولا يتردد أي مواطن في تلك البلدان عن الإدلاء برأيه في أي شأن عام أمام وسائل الإعلام.
نعيش الآن عصراً توفرت فيه وسائل صناعة الرأي، وأتيحت فيه فرص التعبير عن الرأي، فمعظم المعلومات عن قضايا المجتمع وشؤونه مبذولة متاحة لمن يرغب في الاطلاع عليها.
وخبرة البحث والتحليل يمكن لأي أحد أن يكتسبها من خلال البرامج التي تبثها مختلف الوسائل الإعلامية والمعلوماتية.
ولم تعد هناك عوائق كبيرة تحول دون التعبير عن الرأي، حيث يستطيع الإنسان من غرفة نومه أن ينشر آراءه ويبثها إلى مختلف أنحاء العالم، عبر الشبكة العنكبوتية.
والجهات الأمنية والسياسية لم تعد قادرة على قمع الرأي وحجبه، كما كانت في السابق.
هذه الظروف المناسبة والفرص المتاحة، وإن لم تكن بشكل مطلق، تُسقط كل الأعذار والتبريرات التي يتذرع بها البعض للتقاعس عن المشاركة في الشأن العام. ويجب أن تكون دافعة لتوسيع رقعة المشاركة، وتضافر الجهود من أجل خدمة قضايا المجتمع.
بمبادرات رائدة، وجهود أهلية خيّرة، قامت في المجتمع مؤسسات تعنى بالنشاط الديني والثقافي والاجتماعي، من مدارس دينية، وجمعيات خيرية، ولجان ثقافية، وهيئات تهتم بالشعائر المذهبية..
والمجتمع في هذه المرحلة من تطوره يحتاج إلى مؤسسات معرفية تخدم صناعة الرأي، كمراكز المعلومات ومؤسسات البحوث والدراسات الاجتماعية، وعقد المؤتمرات الجادّة..
إننا بحاجة إلى قاعدة بيانات ومعلومات تُعنى بمختلف قضايا المجتمع، كالفقر والبطالة، وما يتعلق بالأمن الأخلاقي والاجتماعي، ومشاكل التمييز الطائفي.
كل هذه القضايا وأمثالها تحتاج إلى رصد وتوثيق، لا يستغني عنه من يريد صنع الرأي واتخاذ القرار.
كما أننا بحاجة إلى مراكز أبحاث ودراسات تشجع على دراسة قضايا المجتمع وبحثها في إطار علمي موضوعي، وتستقطب الكفاءات التخصصية في مجالاتها.
وإذا ما توفر الاهتمام بهذا البعد المهم، فستنطلق المبادرات نحوه، كما انطلقت نحو سائر المجالات، وكأي توجه جديد قد يكتنفه في البدء شيء من الهيبة والرهبة، لكن الإرادة والإقدام ستتجاوز بالمبادرين كل ذلك.
من الطبيعي أن تتنوع الآراء في المجتمع، وان تتعدد الخيارات تجاه القضايا الحساسة، تبعاً لاختلاف التوجهات والمصالح، واختلاف زوايا النظر والتقويم لجهة تشخيص الواقع، أو احتمالات المستقبل.
ولا يمكن لأحد أن يحتكر حق الرأي، أو يفرض وصايته على المجتمع، فكما يحق له طرح رأيه والعمل على أساسه، فإن للآخرين نفس الحق.
لكن البعض يضيق ذرعاً بالرأي الآخر، ويطرح رأيه كخيار وحيد أمام المجتمع، لا خلاص إلاّ به، ولا خير إلاّ فيه، ويوجه سهام التجريح والتسفيه والإسقاط نحو الخيارات الأخرى ومن يتبناها.
إن طرح الرأي حق مشروع، ونقد الرأي الآخر أمر مقبول, لكن تسفيه الرأي الآخر والنيل من دُعاته، أمر مرفوض وخلق سيء، يكشف عن غرور أو حقد.
ومن أخطر الأمراض المزمنة في مجتمعاتنا سوء التعامل مع الرأي الآخر, فعلى الصعيد الديني يتهم بالمروق والضلال والابتداع، وعلى الصعيد السياسي يتهم بالخيانة والعمالة.
وهي اتهامات يمكن أن يوجهها أي طرف لآخر، فلكل طرف مستوى من القدرة والتأثير، وكما قال الشاعر العربي:
جاء دريد شاهراً | رمحهإن بني عمك فيهم رماح |
لكن ذلك يحوّل المجتمع إلى ساحة نزاع واحتراب داخلي، بدل أن تتجه الطاقات والجهود صوب الأعداء، ونحو خدمة قضايا المجتمع.
إن التشكيك في النيّات واتهام المقاصد عدوان وانتهاك لحرمات الآخرين، واعتراف بالعجز عن النقد الموضوعي للرأي الآخر، والإقناع بالرأي المُدعى.
علينا أن نحوّل تنوع الآراء إلى فرصة إثراء للحراك الفكري الاجتماعي، وأن نفتح بتعدد الخيارات مجالات الاستيعاب لطاقات المجتمع، وأن نذكي بالتنافس الايجابي روح الإبداع والعطاء في أوساط النخبة والجمهور.