الحريات الدينية حق أساس
جاء في السيرة النبوية أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، فحان وقت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده. فأراد الناس منعهم، فقال : (دعوهم، فاستقبلوا المشرق، فصلوا صلاتهم)..
هذه الرواية موجودة في السيرة النبوية وذكرها ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد[1] واستنتج منها مسائل فقهية متعددة، منها:
- جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين.
- تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً، ولا يُمكّنون من اعتياد ذلك[2] .
وهذه الحادثة تنسجم مع مبادئ الإسلام والقرآن الذي يقول: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وفي آية أخرى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾. فمبادئ القرآن كلها تؤكد على الحرية الدينية، وأن الإنسان حر في معتقداته الدينية وفي ممارساته وشعائره العبادية، بل إن الحرية الدينية هي من أهم الحريات عند الإنسان، لأن التدين في أعماق نفس الإنسان وحينما يمنع من ممارسة تدينه وشعائره الدينية فإنما تصادر حرية من أهم حرياته، وحق من أهم حقوقه الإنسانية.
وفي تشريعات الإسلام أن أتباع الديانات الأخرى لهم الحرية في أماكن عباداتهم: كنائسهم، بيعهم، ومعابدهم. ولا يصح التضييق عليهم ولا منعهم من ممارسة حريتهم الدينية فذلك لون من ألوان الظلم وقد توعد رسول الله بقوله: «من آذى ذميّاً فأنا خصمه»[3] و«من ظلم معاهداً كنت خصمه»[4] . فالشـريعة الإسلامية تؤكد أن مصادرة الحريّات الدينية من أبرز ألوان الظلم والأذى، وجاء في السيرة النبوية أن رسول الله كتب إلى أسقف نجران رسالة يلتزم فيها للمسيحيين بحماية معابدهم وحريتهم الدينية، جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وكل أساقفة نجران، وكهنتهم، ورهبانهم، و كل ما تحت أيديهم من قليل وكثير، جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبداً ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين»[5] ، وكذلك خلفاء المسلمين الأوائل ساروا على نفس النهج، ومن ذلك عهد الخليفة عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء ـ القدس: «أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدمنّ ولا ينتقص منها، ولا من حيزاها، ولا من صليبها، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم»[6] .
وقد ذكر الفقهاء، أن اليهودي إذا كان يعتقد حرمة العمل يوم السبت فلا يصح للمسلمين أن يجبروه على العمل يوم السبت. وأن المسيحي إذا كان في بلاد المسلمين وكان من دينه الالتزام بالذهاب إلى الكنيسة في يوم الأحد فلا يصح منعه عن ذلك[7] .
ومواثيق حقوق الإنسان كلها تنص على أن من حق الإنسان أن يعتقد ما يقتنع به من دين ومذهب ورأي، وأن يمارس شعائره وحريته الدينية، وأن على الحكومات في كل بلد أن تحمي هذه الحقوق لمواطنيها ولا تسمح بالنيل أو الانتقاص منها. فقد تكون في البلد أكثرية دينية، في ظل وجود ديانات أخرى من حقهم أن يلتزموا بدينهم وشعائرهم وممارساتهم وإن كانوا أقلية، وكذلك الحال إذا كانت هناك أكثرية مذهبية، فإنه لا يبرر الانتقاص من الحريات الدينية للأقليات المذهبية الأخرى.
إن واجب الحكومة أن تحمي حقوق كل مواطنيها، وأن تحمي الحريات الدينية للجميع. صحيح أن الأمر يحتاج إلى تقنين وتنظيم، إلا أن التقنين والتنظيم ينبغي أن يُراعي العدل والإنصاف، ليكون من أجل مصلحة الجميع، ومن أجل حفظ النظام، وليس الانتقاص من حقوق فئة لصالح الفئة الأخرى.
ونحن الآن نعيش في عصـر العولمة، وعصـر دعوات حقوق الإنسان، والدفاع عن حقوق الأقليات، وحوار الأديان، والحوارات الوطنية، لذلك ليس مقبولاً أبداً أن تكون هناك ضغوط على بعض المواطنين الذين يتعبدون بمذهبهم، بأن يكون لهم مسجد يصلون فيه، أو مجالس يقيمون فيها شعائر مذهبهم، لأن ذلك لا يؤذي أحداً ولا يضـرّ بأحد، بل إن منع هذه الشعائر هو الذي يضر بالوطن، لأنه يولد الغضب والسخط والكراهية، كما يعطي الفرصة للأعداء لأن يشوّهوا سمعة البلد، وأن تصدر التقارير من المنظمات الحقوقية والإنسانية وهي تتحدث عن انتهاك الحريات الدينية، وانتقاص حقوق الأقليات. ويكون أرضية لوجود الحساسيات والنفور بين الأطراف المختلفة.
ولا يخفى على أحد وجود متشددين في المجتمعات السنية والشيعية، فقد لا يعجب البعض أن تكون في أوساطهم مساجد أو مراكز دينية لأهل المذهب الآخر، وهنا يأتي دور الحكومة من أجل أن تحفظ العدل والأمن والاستقرار، فتضع تقنينات بما يراعي حقوق ومصلحة الجميع، فليس مقبولاً أن يُحرم آلاف من المواطنين السنة في منطقة شيعية، أو الشيعة في منطقة ذات أغلبية سنيّة، من أن تكون لهم مساجدهم ومراكز إقامة برامجهم الدينية، في الوقت الذي تتيح فيه الحكومات الغربية الفرصة للجاليات الإسلامية في بلدانها لإقامة مساجدهم ومؤسساتهم الدينية بمختلف مذاهبهم.
أما القول بأن المساجد مفتوحة ليصلي فيها السنة والشيعة، ولا داعي لوجود مساجد للأقلية السنيّة أو الشيعية، فهو تبرير غير صحيح، يراد منه تذويب الأقلية، وعدم الاعتراف بهويّتها المذهبية، لأن واقع التنوع المذهبي في مختلف أنحاء العالم الإسلامي قائم على أساس اختصاص كل طائفة بمساجدها.
كما ليس مقبولاً أن يسجن شخصٌ لأنه أقام مجلس عزاء في بيته، أو أقام فيه صلاة جماعة، حين لا يكون في الحيّ مسجد لهم، فالناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم، طالما كان ذلك في إطار مراعاة القانون العام للدولة، ولا يضرّ بأحد.
إننا نأمل أن لا تتاح الفرصة للتوترات وللتشنجات، وللمغرضين الذين يريدون أن يصطادوا في الماء العكر، وللجهات المعادية التي تريد أن تشوه سمعة الإسلام والمسلمين، نأمل أن تعالج مثل هذه الأمور بالحكمة والعدل لضمان حقوق الجميع وحفظ الأمن والاستقرار لأوطان ومجتمعات المسلمين.
الخطاب الجديد وواقع السياسة الأمريكية
طبيعة الإنسان أنه يحب ذاته، ويريد لها النفع والمصلحة، ويريد إبعاد الأذى والضرر عنها. لذلك فإنه ينجذب إلى كل من يقدم له منفعة ومصلحة، وينفر ويعادي من يسبب له الضرر والأذى، وقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها»[8] .
وكذلك على مستوى المجتمعات والأمم، فكل مجتمع من المجتمعات، وكل أمة من الأمم، إذا رأت أن جهة ما تقدم لها خيراً ومنفعة فإنها تحب تلك الجهة وتنشدّ إليها. أما إذا وجدت الأمة أن جهة ما تسيء إليها وتضر بمصالحها فالأمر الطبيعي أن يكون هناك كره وعداء لتلك الجهة.
في الآونة الأخيرة انطلقت بعض الأصوات في الساحة الأمريكية من بعض المفكرين والساسة لتطرح تساؤلاً عريضاً بعد أن رأت موجة العداء الصاخبة في العالم الإسلامي ضد الإدارة الأمريكية، والسؤال هو: لماذا العرب والمسلمون يكرهون أمريكا؟
وعيّنت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق ممثلاً خاصاً من أجل تحسين سمعة أمريكا في العالم العربي والإسلامي، لأنهم رأوا أن هناك عداءً ونفوراً كبيراً في أوساط العرب والمسلمين تجاه أمريكا. وبالأمس جاء الرئيس الأمريكي الجديد أوباما وألقى خطاباً في القاهرة للتصالح مع العالم العربي والإسلامي. وبالفعل كانت في خطابه نقاط إيجابية وهو يعكس نوعاً ما لغة جديدة تختلف عن لغة الغطرسة السابقة، إلا أنه في خطابه ركّز على وجود الإرهاب والعنف.
وهذه مغالطة واضحة، فنحن نُدين الإرهاب والعنف ولا نقبله، والسؤال الذي نطرحه: كيف ومتى انطلق هذا العنف؟ إنه كان ردّ فعل لسياسات العداء التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية. ولسنا في مورد تبرير هذا العنف والإرهاب وإنما نحن في مورد التحليل والتفسير.
الإدارة الأمريكية أوصلت أوساط المسلمين إلى حالة من الإحباط، بسبب مواقفها المستمرة الداعمة للعدوان من قبل الصهاينة، الذين يحتلون أراضي المسلمين، وينتهكون حرماتهم ومقدساتهم، ويسفكون دماءهم كل يوم، وأمريكا تدعمهم دعماً صريحاً واضحاً في كل المجالات. ودائماً هي بالمرصاد لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة التي تدين بعض عدوان إسرائيل، ودائماً تستعمل حق النقض (الفيتو) لإسقاط أي قرار لإدانة إسرائيل مهما كان عدوانها بشعاً وكبيراً، كما رأينا في أحداث غزة الأخيرة. إضافةً إلى احتلال أمريكا للعراق، وما أثارته من فوضى، واحتلالها لأفغانستان، ودعمها للحكومات المستبدة في العالم العربي والإسلامي، كل هذه الأمور أثارت الغضب في نفوس المسلمين، ومن الطبيعي أن تكون هناك كراهة لأمريكا.
والآن هل يكفي أن يأتي الرئيس الأمريكي ويلقي خطاباً فيه نبرة تصالحية؟!
هنا لا بد أن نثير نقاطاً:
الأولى: هذه اللغة الجديدة ما كانت لتصدر عن الإدارة الأمريكية لولا وجود المقاومة والممانعة في أوساط الأمة، فهي التي جعلت الإدارة الأمريكية تعيد النظر في مواقفها.
إن مجيء هذا الرئيس وخطابه إنما هو تعبير عن توجه وشعور داخل أمريكا، وفي مؤسساتها السياسية والفكرية، بضـرورة إعادة النظر في مواقف أمريكا تجاه قضايا العرب والمسلمين، وهذا لم يحصل إلا بوجود المقاومة والممانعة. وإلا لو كانت الأرض منبسطة أمامهم ولو لم تتحرك الشعوب ضدهم، لما وجدوا داعياً لتغيير تلك اللغة و لإعادة النظر في تلك المواقف.
الثانية: وعي الشعوب تجاوز محاولات الخديعة والتضليل، فما عادت الشعوب تخدع بخطابات تصالحية وبكلمات وجمل برّاقة.
الشعوب تنتظر تغييراً في السياسة الأمريكية وتنتظر فعلاً على الأرض، وليس قولاً في خطاب. ماذا يفيدنا أن يقول الرئيس الأمريكي خطاباً وديّاً تجاهنا، ولكنه يعطي لإسرائيل الصواريخ والأسلحة الفتاكة التي تفتك بأبنائنا وشعوبنا، ويعطي لإسرائيل المواقف الداعمة لها في مجلس الأمن والأمم المتحدة، ويعطي لإسرائيل ما تحتاج من الدعم المالي والاقتصادي. ما عادت شعوبنا تقبل مثل هذه الأساليب وهذه الخدع.
إن المطلوب هو تغيير السياسات على الأرض، وتغيير هذا الموقف المنحاز للظلم والعدوان الصهيوني على العرب والفلسطينيين.
الثالثة: علينا أن نسعى لتكامل المواقف، فمن يسمون بقوى الاعتدال، عليهم أن يعرفوا أنهم بحاجة إلى قوى الضغط والمقاومة.
الصهاينة مع كل دعم أمريكا لهم يضغطون على الإدارة الأمريكية، وتنطلق مظاهراتهم أمام القنصلية الأمريكية في القدس ضد الإدارة الأمريكية، هؤلاء الذين يجدون كل شيء من أمريكا يمارسون الضغط، ونحن الذين نتلقى كل الإساءات من أمريكا مطلوب منا أن نرفع الرايات البيضاء ؟
ينبغي أن تتكامل المواقف، فما دامت لنا حقوق ينبغي أن تكون هناك مقاومة. وأخطر شيء على الأمة أن ينخدع بعض العرب والمسلمين، وينجرّوا إلى الصـراع والصدام الداخلي لكي يحارب بعضنا بعضاً. فإذا كانت أمريكا وإسرائيل لهما مصلحة في مواجهة البرامج النووية الإيرانية، فهل لنا نحن العرب مصلحة في ذلك؟ ولمصلحة من تبقى إسرائيل متفردة بالقوة النووية في المنطقة؟ وإذا كانت أمريكا وإسرائيل منزعجة من مواقف المقاومة في لبنان وفلسطين، فلماذا نحن أيضا نشعر بالانزعاج منها؟
هذا التفكير الذي ينظر إلى المسائل بعينٍ واحدة هو خطأ كبير. فلا بد وأن تتكامل المواقف والأدوار، فقوى الاعتدال لن تحصل على شيء إذا لم يكن هناك مقاومة وممانعة. والدليل على ذلك مسيرة العقود الماضية، فقد مضى أكثر من ستين سنة ونحن نعيش في ظل الشعارات وصدور القرارات من المنظمات الدولية ولكن لم نجن شيئاً.
ينبغي أن تكون ثقتنا بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون اعتمادنا على قوانا الذاتية، وليس على رحمةٍ قد تحل في قلب هذا الرئيس أو ذاك، وإنما يجب أن نتجه إلى داخلنا ونرتب أمورنا كأمة كبيرة مترامية الأطراف تستطيع أن تنتصف لنفسها وأن تنتزع حقوقها بمختلف الأساليب والوسائل المشروعة.