مواقع الإنترنت وإفساد العلاقات الاجتماعية
يمتن الله تعالى على الإنسان بأن زوده بالأدوات والوسائل التي يكسب بها العلم والمعرفة، فالإنسان يأتي إلى الحياة لا يعرف شيئاً عنها، بل لا يعرف شيئاً عن وجوده وذاته، وحينما تبدأ حاسة السمع والبصر بالعمل عند الإنسان، وكذلك بقية الحواس تدريجياً، يصبح قادراً على كسب العلم والمعرفة. وحاسّتا السمع والبصر هما الحاستان الرئيستان في كسب العلم والمعرفة والانفتاح على الحياة. صحيحٌ أن لبقية الحواس كاللمس والشم دوراً، إلا أن ذلك يبقى في محيطٍ محدود، وتبقى المساحة الأوسع من علم الإنسان ومعارفه عبر حاستي السمع والبصر.
لكن الإنسان بحاجة إلى مرجعية تقيّم تلك المعلومات وتحكم عليها، بين الصحيح والخطأ، تلك المرجعية هي قوة الإدراك والفهم المتمثلة في العقل. ولو كان الإنسان يرى ويسمع دون أن يكون له عقل يميز به فإنه لا يصل إلى المعرفة الصحيحة، ولا يستفيد مما رأى وسمع.
فالعقل هو تلك القوة التي يُقوّم ويحكم بها الإنسان على مرئياته ومسموعاته. وكلما اتجه الإنسان إلى عقله كانت نظرته وحكمه على ما يرى ويسمع أصح وأدق، أما إذا غفل عن عقله فإنه معرض للوقوع في الضلال والخطأ. من هنا يؤكد القرآن الكريم على وجود هذه المرجعية، ففي معظم الآيات القرآنية التي تذكر حاستي السمع والبصر يردف ذكرهما بذكر العقل للدلالة على دوره، وأن حاستي السمع والبصر من دون العقل لا يقدّمان للإنسان الفائدة المطلوبة التي يحتاجها في حياته. وقد ورد في القرآن الكريم خمس آيات تذكر حاستي السمع والبصر ثم تردفهما بذكر العقل، يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾[1] ، والأفئدة تعني العقول. ويقول تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وفي آية أخرى الله تعالى يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾[2] ، في آية ثالثة: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾[3] وفي آية رابعة: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾[4] ، في آية خامسة: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً﴾[5] . هذا التأكيد على ذكر الأفئدة بعد السمع والأبصار يلفت نظر الإنسان إلى عدم التعجل في قبول ما يرى أو يسمع، وإنما عليه أن يرجع إلى عقله ليُقوّم تلك المعلومات.
إضافةً لذلك فإن هناك نصوصاً كثيرة تؤكد على الإنسان بأن لا يقبل كل ما يسمع، وإنما عليه أن يفكر وأن يتأمل، بل إن بعض النصوص تجعل التأني أو العجلة في قبول المعلومات مقياساً ودلالة على أن الإنسان يستخدم عقله أم أنه أحمق، ومن ذلك ما ورد عن الإمام الصادق أنه قال: «إذا أردت أن تختبر عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه في خلال حديثك بما لا يكون فإن أنكره فهو عاقل وإن صدقه فهو أحمق»[6] . وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقّاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله»[7] . فالمقياس هو مطابقة الكلام للحق أم لا، وليس المقياس من قال هذا الكلام. فلو أن إنساناً من أهل الباطل قال كلاماً يوافق العقل والمنطق فليس لنا إلا أن نقبل كلامه، لأن «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أين وجدها». ولو أن إنساناً من أهل الحق قال كلاماً باطلاً، لا يتوافق مع المقاييس والقيم، لغفلته أو لاشتباهه، أو لأي سبب آخر، فلا ينبغي متابعته ومسايرته فيما قال.
نحن نعيش في عصـر تبادل وتداول المعلومات، بحيث أصبحت الوسائل المعلوماتيه متوفّرة بشكلٍ هائل ورهيب جداً، خصوصاً مع وجود شبكة الإنترنت، إذ يوجد عليها أكثر من (186) مليون موقعاً لحد الآن في مختلف المجالات وبشتّى أصناف اللغات. إضافةً إلى الفضائيات، والهواتف النقّالة، والصحف والمجلات، ووسائل الإعلام المختلفة. وهنا يرى الإنسان نفسه أمام سيلٍ من المعلومات، لذا يجب أن يكون العقل يقظاً لا أن يكون الإنسان مستسلماً لما يسمع ويرى، وخاصة حين تكون هذه المصادر المعلوماتيه والخبرية ضمن أجواء يشك الإنسان في مصداقيّتها، هنا يكون أمر التأني أكثر إلزاماً، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[8] .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المصادر المعلوماتية يُمكن اختراقها بسهولة، وترويج المعلومات السلبية عبرها، وبإدراكنا لوجود استهدافات من قبل الجهات المعادية، فإن مسألة التأكد من صحّة المعلومات يحمي المجتمع من هذه الاستهدافات. فقد أصبح واضحاً وجود جهات تستخدم هذا التقدم التقني في إثارة الفتن ونشـر المعلومات التي تفسد العلاقات بين هذا الطرف وذاك عبر الانترنت وبأسماء مستعارة ووهمية وبمختلف الطرق والأساليب.
وتجاه هذا الواقع ينبغي علينا أن نكون واعين لأن هناك من يستهدف إفساد العلاقات في مجتمعاتنا، فعلى مستوى الأمة الإسلامية هناك من يريد إيقاد الفتن المذهبية، أحياناً تكون الأسماء والجهات معروفة، وأحياناً تكون مصادر مجهولة، وتنقل آراء مكذوبة لا أساس لها من الصحة، وهنا على العقلاء أن يكونوا واعين لخطورة هذا التوجّه الذي يهدف لإفساد العلاقة بين شرائح الأمة.
وضمن المجتمع الواحد قد تتجه بعض الفئات لإفساد العلاقات الداخلية لهذا المجتمع إذا وجدت فيه نشاطاً وحراكاً لا تستسيغه، سواءً كانت هذه الجهات سياسية أو دينية متشددة. وهذا ما نُلاحظه تجاه المجتمع الشيعي الذي يشهداً حراكاً وفاعليةً، قد تُزعج بعض الجهات الأخرى لتجد نفسها بين أمرين: إما القبول بالواقع المتقدم لهذا المجتمع، أو تسعى لإضعاف المجتمع وإشغاله بالخلافات الداخلية.
وهنا يأتي دور الوعي عند الناس، ويأتي دور النخبة في المجتمع، إذ لا ينبغي أن نقبل أي كلام ينشر في الانترنت، خاصة إذا كان من جهات ومواقع مشبوهة، فقد تأسست مواقع مشبوهة تريد تخريب المجتمع وإيجاد الفتنة، وقد يحمل بعضها عنوان الدفاع عن المجتمع. فينبغي أن لا تغرينا العناوين، وأن نعرف ماذا في هذه المواقع، وماذا تريد، وفي أي مصب تصب المواضيع التي تنشرها.
علينا أن نكون واعين، لنا أعداء يريدون تخريب العلاقات في داخلنا، وهناك مغرضون يريدون إشغالنا ببعضنا بعضا، وعلى النخبة الواعية أن تذكّر الناس بهذا الأمر حتى لا تنجح مثل هذه المحاولات المغرضة على مستوى الأمة وعلى مستوى المجتمعات في داخل الأمة.
الدعاء للآخرين في ظهر الغيب
ورد في رواية عن الإمام أبي محمد الحسن بن علي أنه قال: «رأيت أمي فاطمة الزهراء قائمة في محرابها، ليلة جمعة، فلم تزل راكعة ساجدة حتى انفجر عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار»[9] .
ونحن في رحاب ذكرى ميلاد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ، هذه المرأة التي شاء الله أن تكون الأنموذج والحجة على الناس في سلوكها وسيرتها، والتي كانت ولادتها أفضل هدية إلهية أسرّت قلب رسول الله .
وفي هذه المناسبة رأيت أن أقتبس هذه الرواية حتى نأخذ منها درساً من سيرة الزهراء ، هذه الرواية تُشير إلى أن الصديقة الزهراء تصلي وتتعبد ليلة كاملة، ثم تدعو ربها إلا أنها لا تدعو لنفسها، وإنما تدعو للآخرين، تذكرهم بأسمائهم.
هذه الرواية تنسجم مع نهج تؤكد عليه روايات وأحاديث كثيرة بأنه ينبغي للإنسان المؤمن في خلواته، في ظهر الغيب، أن يدعو لإخوانه المؤمنين والمؤمنات قبل أن يدعو لنفسه، وتشير الأحاديث والروايات إلى أن دعاء الإنسان للآخرين أفضل وأنفع من دعائه لنفسه، وهذه الروايات مدرسة تريد أن تُربّينا كيف نتجاوز ذواتنا ونفكر في الآخرين قبل أن نفكر في أنفسنا.
إن تفكير الإنسان بالآخرين واهتمامه بهم في موقع المناجاة والدعاء هو دلالة صدق، فقد تدعو لإنسان أمامه، مجاملة له أو تملقاً إليه.
أما حينما تدعو لأخيك في ظهر الغيب فإن ذلك دليل محبّتك له، وصدقك في طلب الخير له. وهذا ما تريد الأحاديث أن تربينا عليه في العلاقة مع الآخرين بأن نكون صادقين في حبنا لهم، وفي طلب الخير لهم. في الليل وأنت تصلي صلاة الليل، أو قبيل صلاة الصبح، أو في تعقيب صلاتك، أو في أي وقت بينك وبين ربك تذكر المرضى وتدعوا لهم بالصحة والعافية، وتذكر السجناء وتدعوا لهم بالفرج، وتذكر الفقراء وتدعوا لهم بالغنا والثروة، وتذكر المهمومين والمكروبين وتدعوا الله أن يفرج عنهم. ومن المستحبات في صلاة الليل أن يدعو الإنسان لأربعين مؤمناً بأسمائهم. وهذا يربي الإنسان على الصدق والإخلاص في محبة الآخرين وعلى الاهتمام بهم.
ونسجّل هنا بعض تلك الروايات الواردة:
عن علي ابن إبراهيم ابن هاشم قال: حدثنا أبي قال: رأيت عبد الله ابن جندب بالموقف، وهو من تلامذة الإمام الصادق ، قال: رأيته بالموقف الموقف فلم أرى موقفاً كان أحسن من موقفه، مازال ماداً يداه إلى السماء ودموعه تسيل على خديه حتى بلغ الأرض فلما انصرف الناس قلت له يا أبا محمد ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفك، قال: والله ما دعوت فيه إلا لإخواني، ذلك أن أبا الحسن موسى بن جعفر أخبرني أنه من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش ولك مئة ألف ضعف مثل ما دعوت له، فكرهت أن أدع مائة ألف ضعف مضمونه لواحدة لا أدري تستجاب أم لا.
وعن رسول الله أنه قال: «دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يرد»[10] .
وعن الإمام الباقر : «أوشك دعوة وأسرع إجابة دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب»[11] .
وعن الإمام الصادق : «إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش ولك مئة ألف ضعف مثله، وإذا دعا لنفسه كانت له واحده، فمائة ألف مضمونه خير من واحدة لا يدري يستجاب له أم لا»[12] .
الإمام زين العابدين يقول: «إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعوا لأخيه المؤمن بظهر الغيب أو يذكره بخير قالوا نعم الأخ أنت لأخيك تدعوا له بالخير وهو غائب عنك وتذكره بخير، قد أعطاك الله عز وجل مثلي ما سألت له وأثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه، ولك الفضل في ذلك»[13] .
ويقول الإمام الصادق : «من دعا لأربعين رجلاً من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه»[14] .
وعن رسول الله أنه قال: «اطلب العافية لغيرك ترزقها في نفسك»[15] .