الخطبة الثانية: الوشاة والمحرضون للسلطات على أهل البيت
الاستضاءة بسيرة أهل البيت (ع)
حين تسير ليلاً في طريق متشعب المسارات، مليء بالحفر والنتوءات، فأنت بحاجة ماسة للاستضاءة بنور القمر، من أجل أن تحدد مسار طريقك، وتحمي نفسك من الوقوع في الحفر، والتعثر بالعراقيل.
ولو جذب نظرك سحرُ القمر، وروعة جماله، خاصة حين يكون بدراً، فاتجهت نحوه ببصرك، وحدّقت فيه سارحاً بخيالك، فإنك ستجد متعة نفسية كبيرة، لكن ذلك قد يشغلك عن النظر إلى الطريق، فتهوي في المنزلقات، وتصطدم بالعراقيل، وتتعرض للتيه والضياع.
كذلك هي سيرة أهل البيت ، إنها كالقمر الساطع المنير، الذي نحتاج ضوءه لإنارة دروب الحياة، لكن بعضنا قد ينشغل فكريًّا وعاطفيًّا بجمال وروعة تلك السيرة الطاهرة، فيستغرق في الانبهار والإعجاب بشخصيات أئمة الهدى، وينشدّ إليهم بأحاسيسه ومشاعره، لكنه يغفل عن ترسم طريقهم في الحياة، ويفوته الأخذ بهديهم لمواجهة التحديات، وتجاوز العقبات.
ولا شك أن سيرة أهل البيت بروعتها وصفائها فيها ما يغري بالانبهار والعشق، لكن ذلك لا يصح أن يكون عوضاً وبدلاً عن الاهتداء والاقتداء، بل يجب أن يكون العشق لجمالهم المقدس دافعاً للاقتباس من هديهم، والاستضاءة بنورهم.
ونجد فيما روي عن أهل البيت تأكيداً على أن العلاقة بهم يجب أن تتأسس على قاعدة الاتباع لهم والاقتداء بهم، لا مجرد الانشداد العاطفي إليهم.
قال رجل للإمام الحسن : إني من شيعتكم.
فقال : (يا عبد الله إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها، لا تقل: أنا من شيعتكم ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم)[1] .
وعن الباقر : (لا تذهب بكم المذاهب فو الله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز و جل)[2] .
وعن الصادق : (ليس من شيعتنا من قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا)[3] .
وعن العسكري : (شيعة علي هم الذين يقتدون بعلي)[4] .
إن النظر إلى أهل البيت كلوحات فنية جميلة معلقة على جدار الزمن، نتأمل روعتها وحسنها، ونظهر الإشادة والإعجاب بها، أو كقطع أثرية نادرة تعرض في متاحف التاريخ، نقوّمها بأغلى الأثمان، دون أن يكون لها انعكاس أو تأثير على مسار حياتنا، إنما يعني ذلك التنكر والتجاهل لأهم وظيفة ودور أراده الله تعالى لهذه العترة الطاهرة، وهو دور الإمامة والهداية في حياة البشر.
إن أهل البيت جديرون بكل مدح وإطراء، وأهل لكل فضيلة ومكرمة، بل ما عسى أن يقال فيهم بعد ثناء الله تعالى عليهم في كتابه المجيد، وعلى لسان نبيه الصادق الأمين .
إن ما يسـرّ أهل البيت ، هو معرفة نهجهم واتباع هديهم، لا مجرد الاستغراق في مدحهم وذكر فضائلهم.
كما أن الانتصار لظلامة أهل البيت ومعاناتهم من الحاسدين لهم والجائرين عليهم، لا يكون بمجرد سكب العبرات وجرّ الحسرات، وإنما بالعمل على تحقيق أهدافهم العظيمة في إعلاء كلمة الله تعالى، ونشـر العدل، وإقامة الحق.
فأهل البيت لم يكونوا ذوات تبحث عن مواقع ومناصب، ولا جماعة تتطلع لمصالح خاصة، بل كانوا حملة رسالة عظيمة، وأصحاب قيم سامية، كرسوا وجودهم وحياتهم من أجل خدمة الرسالة ونشر القيم.
وقد تنوعت الظروف الاجتماعية والأوضاع السياسية التي عاصروها طيلة قرنين ونصف من الزمن، مما فرض تنوع الأدوار والمواقف في سيرتهم، مع وحدة الاتجاه والهدف.
إن المصلحة العامة للدين والأمة هي الهدف الأساس الثابت لأئمة أهل البيت .
أما منهجية العمل والموقف فهي متحركة حسب مقتضيات الواقع الاجتماعي.
ذلك أن الثبات ضمن منهجية دور وموقف محدد، لا يستجيب لتغيرات الواقع، أمر مخالف لمنطق العقل، وسيرة الأنبياء ، كما يضـر بالرسالة، ويفوّت فرص خدمتها.
من هنا كان تنوع المواقف والأدوار في سيرة أئمة أهل البيت ، على الصعيد السياسي والاجتماعي. حيث نجد منهم من قام بأعباء الحكم، ومن صالح متنازلاً عن الحكم، ومن ثار في وجه السلطة، ومن هادن ووادع السلطة، ومن قبل منصب ولاية العهد، ومن تحمّل عناء السجون والإقامة الجبرية..
ونجد من تصدى للحركة العلمية، ومن ركز على التربية الإيمانية الأخلاقية، ومن اهتم بحاجات الفقراء والمساكين، بمعنى أن تكون هذه الصفة أو تلك هي الأبرز في سيرته وعهده.
لذا فإن علينا أن نقرأ سيرة أهل البيت بموضوعية وشمول، حتى لا نقع في أسر الأُحادية والفهم المبتور.
وإذا كان تنوع الأدوار والمواقف في سيرة أهل البيت حقيقة تاريخية لا جدال فيها، فإن إسقاط هذا الدور أو ذاك الموقف على واقع اجتماعي سياسي معاصر، يكون مورداً قابلاً للاختلاف وتفاوت وجهات النظر، من حيث تشخيص الواقع الخارجي، وتحديد الموقف الأصلح في التعامل معه.
وحين يختلف التشخيص للواقع، فقد يترتب عليه الاختلاف في الموقف المختار، وبإمكان كل طرف أن يجد في سيرة أهل البيت وفي مجمل التراث الديني، ما يستدل به على صحة موقفه ومشـروعيته، لكنه لا يستطيع إدانة موقف الطرف الآخر، ما دام يتفق معه في المبادئ والقيم، ويختلف معه في التشخيص والتقويم.
فالخلاف ليس على مشـروعية الثورة والمعارضة، ولا على مشـروعية المصالحة والمهادنة، فكلاهما له أصل في الدين، وممارسة في سيرة أهل البيت ، إنما الخلاف وتفاوت الاجتهاد في تشخيص وتقويم الواقع الخارجي، واستلزامه لهذا الموقف أو ذاك.
وقد واجه أئمة أهل البيت أنفسهم بعض الاعتراضات على مواقفهم السياسية من قبل معاصرين لهم، فكانوا يجيبون المعترضين، بتبيين رأيهم في تشخيص الواقع الذي اقتضى منهم ذلك الموقف.
كما أجاب الإمام الحسن المعترضين على صلحه لمعاوية، وأجاب الإمام الحسين الناصحين له بعدم الخروج إلى العراق ومواجهة الحكم الأموي، وأجاب الإمام الصادق الداعين له للانضمام إلى حركة الثورات على السلطة.
ففي تلك الإجابات لم يكن النقاش في مبدأ الجهاد ورفض الظلم، ولا في ضرورة مراعاة المصلحة العامة، وإنما الكلام حول مقتضيات الظرف والواقع.
وكمثال واضح ننقل ما رواه الكليني في الكافي ج 5 صفحة 19 عن عبدالملك بن عمر قال: «قلت لأبي عبد الله (جعفر الصادق) : إن الزيدية يقولون: ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلا أنه لا يرى الجهاد. فقال : أنا لا أراه؟ بلى والله إني لأراه ولكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم».
هكذا يحدد الإمام أنه لا يختلف معهم في مبدأ الجهاد، لكنه يعلم من مقتضى الواقع ما يجهلون.
الوشاة والمحرضون للسلطات على أهل البيت
الإمام علي الهادي ، هو الإمام العاشر من أئمة أهل البيت ، ولد سنة 212ﻫ واستشهد سنة 254ﻫ وعمره الشريف 42 سنة.
هذا الإمام العظيم تعرض إلى محنة قاسية هي ضغوط السلطات الظالمة المستبدة، فالإمام نقل من المدينة المنورة حيث ولد، وحيث كان يعيش، وكان الناس يستفيدون من علومه ومعارفه، لكن المتوكل العباسي نقله سنة 234ﻫ من المدينة إلى سر من رأى، التي كانت عاصمة لخلافته، عشـرون سنة عاشها الإمام تحت الإقامة الجبرية، مطوقاً بالأجهزة الأمنية للحاكم، وتحت إشرافه، ممنوعاً من الاتصال بقواعده ومحبيه، لم يكن هذا الوضع سهلاً، فمن الصعوبة بمكان أن يعيش الإنسان في إقامة جبرية لا يخرج ولا يدخل عليه أحد إلا بعلم السلطان، كما أن القواعد الشعبية تتأثر بغياب القائد الموجه لحركتها.
في هذه العجالة نريد أن نسلط الضوء على جانب مما تعرض له الأئمة من الوشاة، نحن نعلم أن السلطات الحاكمة آنذاك كانت سلطات مستبدة ظالمة، تريد من الناس الخضوع لها، وتريد من العلماء والفقهاء وشخصيات المجتمع أن يبثوا في الناس ثقافة الخضوع، لكن أئمة أهل البيت ما كانوا ليسمحوا لأنفسهم أن يقوموا بهذا الدور، بل على العكس من ذلك فما عندهم من معارف دينية كانت تنبه الناس، وترشدهم إلى حقوقهم، وإلى ما يجب أن تكون عليه حياتهم السياسية والاجتماعية، وهنا محل التناقض بين السلطات، وبين أئمة أهل البيت ، الأئمة لم يكونوا طلاب سلطة، ولا طلاب مناصب، كانوا يعملون على نشر الوعي والمعرفة وتربية الناس على تعاليم الدين، وما كانوا متوجهين بشكل أساس للصدام السياسي مع السلطات، كان يمكن للسلطات أن تقبل من الأئمة مثل هذه الحالة بشكل أو بآخر، وبعض الحكام قبل بهذا الأمر، لكن الوشاة كان لهم دور آخر، كان هناك من يحرِّض الحاكمين على الأئمة، يكتبون التقارير، ويقدمون الوشايات، ويخوّفون الحاكم، ويثيرون القلق في نفسه تجاه الإمام، طبعاً احتراف الوشاية والتحريض أمر موجود على المستوى السياسي في كل العصور والأزمنة، حتى أننا نجد في أزمنتنا من يحترف التحريض على الآخرين، إما بسبب الحسد والمنافسة، أو الحصول على الأطماع والمكاسب، أو بسبب الحقد لتغاير الرأي والاتجاه، لهذا نقرأ في سيرة الأئمة أنهم عانوا من مثل هذا الأمر.
ينقل التاريخ أنه في عهد الإمام موسى الكاظم كان من أشدّ الوشاة والمحرضين عليه هو ابن أخيه: (علي بن إسماعيل بن جعفر)، هذا الرجل كان له توجهات مصلحية، دخل على هارون الرشيد، وقال له: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلّم عليه بالخلافة، وإن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب.
علي بن إسماعيل بن جعفر، ابن أخ الإمام!! ومع ذلك يقوم بهذا الدور القذر، الحاكم في حدِّ ذاته منزعج من وجود الإمام، لأن الإمام لا يخضع له، ثم تأتيه هذه الوشاية فيكون لها دور التحريض على الانتقام من الإمام.
وكذا نقرأ في سيرة الإمام الهادي ، كيف أن عبد الله بن محمد الذي أقامه المتوكل في يثرب واليًّا على إقامة الصلاة، وسائر الشؤون الحربية، أثاره التفاف الناس حول الإمام علي الهادي، فكتب إلى المتوكل يحذّره من خطر الإمام على حكمه, لكن الإمام الهادي كتب رسالة إلى المتوكل لتطمينه، وأنه لا يريد له وللسلطة أي سوء. وفي ذلك درس لضرورة الانتباه لدور المحرضين وإفشال مسعاهم.
وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب ج 4 ص 11 أنه: «سعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، فوجّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم مَن هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره، فوجده في بيت وحده مغلق عليه وعليه مدرعة من شعر، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصـى، وعلى رأسه ملحفة من الصوف متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأخذ على ما وجد عليه، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشـرب وفي يده كأس، ولا حالة يتعلل عليه بها، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني منه، فعافاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم | غلب الرجال فما أغنتهم | القلل
إلى آخره.
قال: فأشفق كل من حضـر على علي، وظن أن بادرة تبدر منه إليه، قال: والله لقد بكى المتوكل طويلاً حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضـره، ثم أمر برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً».
حينما يكون الحاكم عاقلاً فإنه لا يأخذ هذه الوشايات بعين الاعتبار، الحاكم يعلم أن عند الناس اختلافات، وعند بعضهم أطماع، لذلك لا يسلم عقله وقراره للتحريض، لأن البعض يريدون أن يحرضوه على طائفة، يكتبون التقارير، ويرفعون الأخبار، وينشرون المعلومات، هم لهم مصالح في التحريض، ولكن الحاكم العاقل هو من يلتفت إلى مصلحة حكمه، وأن من مصلحة حكمه التوازن والعدل والاستقرار، وليس الاستجابة لهؤلاء المحرضين على هذه الفئة أو تلك، فإن ذلك يسبب زوال الاستقرار، ويسبب اضطراب الأمور، ويوقع الحاكم في المزالق، يحتاج الحاكم إلى من يلفت نظره حتى لا يقع في فخ المحرضين والوشاة، في بعض الأحيان يتوفر للحاكم أشخاص يلفتون نظره إلى هذا الأمر، وفي أحيان أخرى لا يوجد هؤلاء، وإنما تكون الساحة للمحرضين، يحتاج الحاكم أن يكون من حوله من أهل الرشد والعقل ليكونوا ناصحين وليس محرضين، لقد ابتلي أئمة أهل البيت بمثل هؤلاء المحرضين، و للأسف أولئك الحكام العباسيون كانوا يستجيبون لهذا التحريض، ويلاقي هوى في نفوسهم، لذلك تعاملوا مع أهل البيت بتلك الصورة القاسية، تأتي وشايات للمتوكل ضدّ الإمام الهادي ، ويأمر بأن يتسوّر عليه منزله من على السطح، ويفتشوا البيت، لعلهم يجدون فيه أسلحة أو أي شيء مما يدين الإمام ، فلا يجدون شيئاً، لا يجدونه إلا جالساً على مصلاه، لقد تحمل الإمام هذا العناء، وهذا الاضطهاد في سبيل الله، واحتسبه عند الله، حتى مضـى شهيدا محتسبا، فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيًّا.