تقديم كتاب «مولد أمل» للأستاذ علي بن أحمد القبعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد واله الطاهرين
كنت في حوالي العاشرة من العمر، حينما كان أبي رحمه الله، يأخذني معه في بعض ليالي شهر رمضان المبارك، إلى مسجد الشيخ رضي المحروس في الشويكة، للاستماع للخطيب الملا علي الطويل أطال الله عمره، وكنت أجد في خطابته نكهة خاصة يمتاز بها عن بقية الخطباء الذين أحضر مجالسهم مع والدي.
كان في غالب كلامه يلتزم بالعربية الفصحى، ويتقيد بقواعد اللغة نحواً وصرفاً.
وقتها كنت متفاعلاً مع مواد اللغة العربية التي أتلقاها في الصف الرابع والخامس من المرحلة الابتدائية، لكني أشعر بحالة الانفصال بين ما أتلقاه في المدرسة من مواد اللغة العربية وآدابها، وبين اللغة السائدة في المجتمع، وهي اللغة الدارجة شعبياً، والتي أصبحت في الغالب أيضاً لغة الخطباء على منابرهم، لأن أكثرهم آنذاك لم يدرس قواعد اللغة، وبعض من درس منهم يفضل استخدام اللغة الدارجة نزولا إلى مستوى الجمهور.
أما خطابة الملا علي الطويل فقد وجدت فيها ما كنت أحبه واعشقه من فصاحة اللغة، وسلامة أداء كلماتها، والحرص على حسن التعبير وتركيب الجمل.
والأمر الآخر الذي شدني إلى أبي حسن كان حسن استقباله وإبدائه الاهتمام والتقدير، فقد كان يمسك بيدي طويلا حين أصافحه، ويفاكهني، ويذكر لي علاقته بجدي لأبي الشيخ رضي الصفار وجدي لامي الملا محمد الشيخ عبدالله آل سيف احد أساتذته في الخطابة، وكذلك كان يحكي لي عن علاقته مع والدي وهو احد تلامذته في الخطابة لمدة من الزمن.
فكنت انتظر لحظات مصافحة أبي حسن بشوق، وارغب الذهاب إلى مجلس خطابته كل ليلة.
ثم تعرفت عليه أكثر، وانجذبت إليه أكثر، فصرت أحضر مجلسه بعض الأيام في منزله الصغير المتواضع في القلعة، وكانت جدران الغرفة الصغيرة كلها مغطاة برفوف الكتب، وكانت الجلسة تبدأ في وقت مبكر بعد الظهر، وتستمر إلى المغرب، ويواظب على الحضور فيها عدد من الشباب المهتمين بالثقافة والأدب، وكان الشاي الذي يقدم للزائرين مميزاً، حيث يعتني أبو حسن شخصياً بإعداده بطريقة خاصة، تمنحه مذاقاً خاصاً، وكان أبو حسن يتناول الشاي باستذواق والتذاذ فريد من نوعه.
كان أبو حسن يعرف موقع كل كتاب في مكتبته، مع أنه كفيف البصر، وكان يستثمر حضور الشباب لديه، ليقرءوا عليه، وفي ذلك المجلس يهيئ مادة خطابته، ومما لفت نظري أنه كان يفيد من يقرأ عليه، بتصحيح نطقه بالكلمات، لتلافي مخالفة قواعد النحو والصرف، وعند الاستشكال في أي لفظة، يطلب أبو حسن الرجوع إلى مصدر لغوي كلسان العرب أو مجمع البحرين، أو المغني وأمثالها من كتب اللغة والنحو.
فكان مجلسه مدرسة أدبية ومنتدى اجتماعياً تتداول فيه الأفكار وأخبار المجتمع.
وهكذا استمرت علاقتي وتواصلي مع أبي حسن، ولقيت منه التشجيع والتوجيه حين بدأت ممارسة الخطابة، وحين غادرت البلاد لظروف العمل السياسي، وأقمت في سوريا لسنوات، كان أبو حسن يطلّ علينا في بعضها أيام الصيف، فيسعدني بزيارته لمنزلي كل مساء مع زوجته الطيبة المرحومة أم حسن، فكانت تلك الزيارات والجلسات منبع سعادة وسرور وفائدة، حيث كنت أقرأ عليه بعض مطبوعاتنا في الخارج التي لا تصله داخل البلاد، فكان يأنس بما يسمع، ويتفاعل، ويثري بعض المواضيع بما لديه من معلومات وشواهد.
ولا زلت أجد في أبي حسن ناصحاً صادقاً وموجهاً مخلصاً، أزوره بعض الأحيان مساءً بعد مجلسه العام، طالباً منه الحديث عن بعض الجوانب من تاريخ المجتمع، فيحدثني عن قصص وحوادث تتعلق بدور بعض العلماء وشخصيات البلد، وبمسار الحالة الدينية والاجتماعية، إنه أحد كنوز الذاكرة الوطنية، وكم أتمنى تسجيل ما تحفل به ذاكرته من أحداث، وما في نفسه من انطباعات.
اسأل الله تعالى له طول العمر وموفور الصحة والسلامة.
كما أني أراه نموذجاَ رائعاً وقدوة حسنة في أكثر من جهة وجانب استعرض منها ما يلي:
لم يمنعه فقد البصر عن طلب العلم، ولا قلة اليد عن اقتناء الكتاب، فللكتاب في نفسه معزة كبيرة، إنه يضع قطعاً من القماش أعلى الكتب في الرفوف حتى لا يصيبها الغبار، ويتناول الكتاب من الرف بعناية، وينزعج ممن يفتح الكتاب أو يضعه أو يتعامل معه بدون عناية.
إنه حريص على الاطلاع على أي كتاب يقع في يده، ويصغي بانتباه شديد لمن يقرأ عليه، ويحاول أن يفصل نفسه عن الأحاديث الأخرى التي تدور بين الحاضرين، حتى لا تؤثر على تركيزه، ويطلب من القارئ أن يعيد قراءة بعض السطور والجمل.
كما أنه يهتم باستماع المحاضرات عبر أجهزة التسجيل والمذياع، ويركز في استماعه، وترى التفاعل بادياً على محياه تأييداً أو اعتراضاً، كما ويبدي رأيه حول الموضوع المطروح.
وبالنسبة لي شخصياً، تلقيت منه بعض الاتصالات، ليناقشني في بعض ما قرأ من كتاباتي، أو سمع من خطاباتي عبر المذياع، وهو موضوعي في نقاشه، فقد يقبل وجهة نظرك أو يخالفك الرأي فيها.
المنبر الحسيني في وعي أبي الحسن ليس مجرد مهنة أو حرفة، وليس مجرد مصدر رزق، بل هو مسؤولية ورسالة، لذلك تراه يستعد لخطابته، فلا يقرأ دون تحضير وإعداد، ويحفظ النصوص بإتقان، ويلقيها على المستمع بعناية وذوق، وهو من الخطباء القلائل الذين يتفاعلون مع النصوص الدينية والأدبية التي ينقلونها للجمهور، فهو يعشق النص الذي يختاره ويتذوقه، ويسعى لنقل هذا الإعجاب والتذوق للمستمع، وخاصة حين يقرأ روائع الشعر في مدح النبي وآله، في مناسبات ذكريات مواليدهم، إنه يطرب لتلك الصور الأدبية، والمعاني الجميلة، ويريد منك أن تطرب معه، فيعيد المقطع، ويشرح ألفاظه، ويوضح معانيه، ويتفاعل بقسمات وجهه وحركات يده.
وهو يحرص في خطابته على استخدام اللغة العربية الفصحى، ويلتزم بقواعد النحو والصرف، ويختار الكلمات الرصينة، والجمل الواضحة البليغة.
من ناحية أخرى فإنه يرفض كثرة المجالس فلا يقرأ عدداً من المجالس في المناسبات، إنه يقتصر على مجلسين أو ثلاثة في كل موسم، عدا بعض السنوات القليلة التي تجاوز فيها هذا النهج. ولاحترامه المنبر قرر لنفسه التقاعد قبل سنوات، حيث قلّص التزامه الخطابي، مقتصراً على مجلس واحد في موسم المحرّم، في حسينية البيات، بضغط شديد من أصحاب المجلس والمستمعين. وقبل ثلاث سنوات اعتذر حتى عن هذا المجلس الوحيد، مبرراً تقاعده بأنه قد كبُر وتعب، واحترامه للمنبر لا يسمح له بأن يقرأ دون أن يجد في نفسه القدرة والحيوية الكافية.
إنه في غاية الشعبية والبساطة، يستقبل زائريه بحفاوة واحترام، ويشدّ على يد مصافحيه، ويسأل من لم يعرفه عن اسمه وعائلته وبلده. ويدعو الناس لزيارته، ويبادل كل احد الفكاهة والظرافة، ويتواصل مع الناس في أفراحهم وأتراحهم.
وحين عقدت في مجلسي لقاءً أسبوعياً كل ليلة سبت للعلماء والخطباء وطلاب العلوم الدينية، كان الملا علي الطويل من المواظبين على الحضور أسبوعياً لمدة ثمان سنوات إلا ما ندر.
وفي بعض الأسابيع كان بعض المشايخ يستضيف اللقاء في مجلسه كالشيخ عبدالمجيد أبو المكارم رحمه الله في سيهات ، والشيخ حسن الخويلدي في صفوى، والسيد علي السيد ناصر السلمان في الدمام، فكان أبو حسن يبدي رغبته في الذهاب معنا والحضور في المجلس، تشجيعاً منه لهذه البادرة الطيبة، وتفاعلاً مع أبناء صنفه وطبقته.
يرفض الدخول في الصراعات والخلافات، ويبدي الاحترام لكل المراجع والعلماء، واختلافه مع أحد في الرأي لا يدفعه لمقاطعته أو الإساءة إليه، وقد يناقشه في رأيه لكن بأدب واحترام.
وهذا خلق رفيع وخاصة في الوسط الديني، الذي يعاني من كثرة الخلافات والصراعات، بسبب تعدد الانتماءات المرجعية، واختلاف الآراء والتوجهات، والتي تدفع ببعض عناصر هذا الوسط إلى إظهار العداء لمن يخالفه الرأي، وقد تصل إلى حد التجاوز على الحدود والحقوق، بانتهاك حرمات الآخرين، والسعي لإسقاط شخصياتهم، وتشويه سمعتهم، والدعوة إلى مقاطعتهم، لا لشيء إلا الاختلاف في التوجه والرأي.
لقد عافى الله أبا حسن من هذا المرض الأخلاقي الوبيل الذي يسخط الربّ، ويثقل النفس بالأحقاد، ويسيء إلى العلاقات الاجتماعية.
لهذه الصفات الطيبة وأمثالها أجد في شخصية الخطيب الملا علي الطويل نموذجاً للاحتذاء، وقدوة للتأسي، لذلك اقترحت على الأخ الكريم الأستاذ علي بن احمد القبعة حفظه الله، وهو من رواد مجلس أبي حسن، ومن تلامذة مدرسته الأدبية الأخلاقية، أن يكتب سيرته، وتجارب حياته، وسماته الطيبة الكريمة. وفاءً لحقه على المجتمع، وحفظاً لهذه الصفحة من التاريخ الاجتماعي.
فشكراً للأستاذ القبعة على استجابته لهذا الاقتراح، وعلى الجهود التي بذلها لإخراج هذا البحث الجميل، والذي يضاف إلى جهده السابق في نشر ديوان جده الشاعر محمد بن سلطان القطيفي بعنوان (ودائع السلطان)، وفي انتظار المزيد من عطاء المؤلف وإنتاجه في خدمة الثقافة وتاريخ الوطن، حياه الله وكثّر في أبناء البلاد أمثاله، وجزاه الله خير الجزاء على وفائه وتقديره لرجال العلم والأدب.
وحفظ الله أبا حسن بخير وعافية .
والحمد لله رب العالمين
حسن موسى الصفار
10ربيع الثاني 1429هـ
16 أبريل 2008م