الإبداع والتطوير في البرامج الاجتماعية
الإبداع والتطوير في البرامج الاجتماعية
الإسلام فتح المجال من أجل أن يطور الناس حياتهم إلى الأفضل؛ لأنه ليس من الصحيح أن يستمر الإنسان على حالةٍ معينة وأوضاع ثابتة، وإنما يبتكر ويكتشف الطرق الأفضل لإدارة أمور حياته ولتكييف أوضاعه بما وهبه الله من نعمة العقل، فيتلافى الثغرات ويزيد من فرص الراحة والمصلحة لنفسه، فتنقدح في ذهنه هذه الفكرة أو تلك، في شأن مسكنه ومأكله وملبسه وفي جميع شؤون حياته الخاصة والعامة.
عندما تنقدح فكرة في ذهن إنسان ما، ثم يمارسها فيراها الآخرون ويقتنعون بأنها شيء حسن، يتبعونه في تلك الفكرة فتتحول الفكرة من فرد ابتكرها إلى حال عامة في المجتمع، إنه بذلك سنَّ سُنَّة حسنة اتبعه فيها الآخرون، فله أجرها وأجر من عمل بها.
وهذا التطور الذي نعيشه في أمور الحياة كانت بداياته ـ في الغالب ـ هكذا، إما تعاليم موحاة من السماء عبر الأنبياء ، أو أنها أفكار انقدحت في أذهان الناس.
وأي فكرة قد تبدأ بصورة محدودة، ثم ما تلبث أن تتطور ويضاف إليها التعديلات والتحسينات، حتى تصل إلى مستوى متقدم ومتطور.
وكلما تعاقبت الأزمنة تكون الحاجة إلى التطوير أكثر إلحاحًا، فهذه هي طبيعة الحياة، سواء كان ذلك في الشأن الفردي أو الاجتماعي.
وكمثال على ذلك: التعليم، حيث لم يكن بهذه الطريقة المنظمة المقننة، وإنما كان ضمن حالات تتناسب مع البيئات السابقة، ولكنّه تطوّر شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح بهذا الشكل الحديث. وحينما بدأ تقنين التعليم كان قد بدأ في مكان ما وفي مجتمع ما، ثم ما لبثت أن انتشرت التجربة في سائر المناطق.. وهكذا في مجال الصحة والعمران وفي مختلف المجالات الحياتية الأخرى، حيث يسُنُّ أحدهم سنّة معينة يخطو بهذا المجال إلى ما هو أفضل، ثم ما تلبث أن تنتشر بين الناس حينما يرون فيها الفائدة.
والمجتمعات تتفاوت لديها حالة الابتكار والتطوير، فبينما تكون بعض المجتمعات لديها قابلية مناسبة للتطوير، والتطوّر فيها متسارع، بينما تجد بعض المجتمعات الأخرى تستعصي على التطوير، فالعادات هي هي، والسلوكيات والطبائع كما هي عليه، في مختلف جوانب الحياة، وإذا طرحت فكرة إيجابية فدون انتشارها خرط القتاد.
ورد في حديث عن رسول الله أنه قال: «مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»[1] ، هذا الحديث الذي يرويه الشيعة والسنة: يعني أنه من الممكن أن تكون هناك أعراف وعادات وسنن جديدة، بخلاف ما يراه بعض المتشددين في المدرسة السلفية من أن كل شيء جديد لم يكن في سيرة السلف الصالح فهو بدعة، حيث يمكن مناقشته بمضمون هذا الحديث، فما هو مطلوب من أجيال المسلمين عبر التاريخ ألا يتسمروا عند الأوضاع التي كانت سائدة في عهد السلف الصالح، وإلا فما معنى حديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة ...»؟!، إن مضمون الحديث يؤدي إلى أن يكون هناك تطوير في الجوانب المختلفة، وهو أمر محمود ومندوب إليه، بدليل أن رسول الله يُرَغِّب في ثوابه، حيث يقول : «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء»، وفي المقابل فَـ«من سن في الإسلام سنة سيئة [مكلفة للناس وليست في مصلحتهم ولا تتطابق مع القيم والمبادئ الإسلامية]، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقض من أوزارهم شيء».
وأود الحديث هنا عن إحدى العادات الطيبة والسنن الحسنة التي بدأت في مجتمعنا لكنها أوشكت أن تختفي، وهي مهرجانات الزواج الجماعي، إذ إن من عادة المجتمعات أن يكون هناك احتفال ومراسيم لحفل الزواج، وهو أمر حثّ عليه ديننا الإسلامي، حيث يستحب إشهار الزواج وتستحب الوليمة فيه ودعوة الإخوان له.
وقد انبثقت فكرة طيبة بخصوص طريقة الاحتفاء بحفل الزواج، وهي أن يكون هناك زواج جماعي، بدل أن يتزوج كل إنسان على حده، وتكون له مراسم خاصة به، تستلزم جهدًا ومالاً، فيجتمع أبناء المنطقة في مهرجان واحد وحفل واحد، وهذا أمر له فوائد كبيرة، منها:
الفائدة الأولى: خفض التكاليف، من بذل المال والجهد وهذا أمر ملحوظ.
الفائدة الثانية: تعزيز التلاحم الاجتماعي، حيث تظهر قوة المجتمع وتلاحمه، فالجيل الجديد من أبناء المجتمع يفتحون أعينهم على حياة اجتماعية متماسكة، حينما يكون حفل يحضره الآلاف ويقف العرسان إلى جانب بعضهم بعضًا ويقف معهم أهاليهم، ويقوم الشباب من غير أهالي المتزوجين بالخدمة في هذا الحفل البهيج، إن هذا يخلق جوًّا اجتماعيًّا رائعًا يدرب أبناء المجتمع على أن يتعاونوا مع بعضهم، وأن تبرز فيهم كفاءات تدير أمور المجتمع.
القائدة الثالثة: تجنيب المجتمع بعض العادات السيئة والسلبية؛ ففي مهرجانات الزواج الجماعي غالبًا ما تكون هناك إدارات تحافظ على أن تكون مراسيم الحفل وبرامجه طبق الشرع، وطبق المقبول في المجتمع، بينما إذا كان كل إنسان يقيم حفل زواجه على حدة، وحسب مزاجه الشخصي، قد تظهر بعض الأمور المحرمة شرعًا وبعض العادات السلبية.
الفائدة الرابعة: توفير فرصة للتأهيل والتوجيه قبل الزواج، ففي كثير من المناطق حينما يكون مهرجان زواج جماعي تعمل إدارة المهرجان على تنظيم بعض الدورات التثقيفية للمتزوجين وللمتزوجات، لتوعيتهم بشئون الحياة الزوجية، وكيفية إدارة حياتهم، فهذا مكسب كبير، وفيه فائدة عظيمة وكبيرة.
لقد انبثقت هذه الفكرة في هذه المنطقة ثم ما لبثت أن انتشرت في المناطق المختلفة من هذا الوطن، فها نحن نسمع عن مهرجانات رائعة أصبحت تعقد في مختلف أنحاء المملكة، لكن ما يؤسَف له أن تتراجع وتنحسر هذه الظاهرة في المنطقة التي انبثقت منها. ففي الأسبوعين الماضيين ـ ولعلكم تابعتم الصحف والجرائد المحلية ـ عُقِدَت عدة مهرجانات في مناطق مختلفة من الوطن، ففي منطقة تبوك عقد زواج جماعي لألفين وثمانمئة واثنين وثمانين شابًّا وفتاةً، بمشاركة أمير المنطقة والعلماء والمسئولين وكبار رجال الأعمال، وكان هناك مهرجان زواج جماعي في الطائف لِـ140 شاب وفتاة، شارك فيه مفتي المملكة ومعه كبار المسئولين في المحافظة.
و نشرت الصحف عن زواج 60 شابًّا وفتاةً في محافظة خليص، قامت بدعمهم مؤسسة إبراهيم آل إبراهيم الخيرية وهي المؤسسة التي دعمت 600 زواج في 8 مناطق من المملكة كان منها هذا الزواج الذي حصل في محافظة خليص.
وإخواننا في الأحساء لهم مهرجانات زواج جماعي تشكلت لجنة تنسيقية بين هذه المهرجانات، وخلال هذه الأيام لديهم مهرجانات يزف فيها أكثر من 1400 شاب وفتاة.
إننا نتساءل: لماذا انحسرت هذه الظاهرة التي انبثقت في القطيف، بينما تلقفتها المجتمعات الأخرى واستفادت منها؟! لماذا تجهض الأفكار الإيجابية عندنا؟
فنحن نفرح عندما تكون مثل هذه المهرجانات في المناطق الأخرى، لكننا نتألم عندما يحرم مجتمعنا من ذلك، إن بعض المناطق في القطيف التي كانت تحيي مهرجانات الزواج الجماعي ما عادت تتمكّن من إحيائها الآن، كما هو حال مدينة القطيف نفسها التي كان فيها مهرجان للزواج الجماعي، لكنه انحسر وانتهى بعد سنوات قليلة من بدئه، وتشاركها في ذلك بعض المدن والقرى التي انحسرت هذه الظاهرة فيها أيضًا، كما أن بعض البلدات تعاني من ضعف الإقبال فلا يلتحق بالمهرجان إلا عدد قليل.
إن أي عاقل يرى أن هذه الظاهرة إيجابية، وأكبر دليل على ذلك أن المجتمعات الأخرى قد تلاقفتها واستفادت منها.
في بعض الأحيان يكون السبب حالة التفاخر بين الأسر والعائلات، لأن البعض يعتقد أن هذا الزواج الجماعي للفقراء وليس للمتمكنين، ومن العيب أن يزوّج ابنه في الزواج الجماعي، وهذه فكرة سلبية.
إننا نحتاج إلى جهات تتصدى لمعالجة هذه الظاهرة، وبخاصة في مدينة القطيف، وإلى أن نستنهض همم شبابنا ورجالات مجتمعنا حتى تتكون مبادرة جديدة للتصدي لهذا الأمر الإيجابي، وعلى رجالات المجتمع وعلماء الدين والوجهاء أن يتقدموا بالدعم المعنوي والمادي وبالمشاركة في مثل هذه الأنشطة الاجتماعية المهمّة.
إنني أهيب بكم جميعًا أيها الإخوة إلى تبني طرح هذه الفكرة والترويج لها والتشجيع عليها، عسى أن يكون هناك من يتبنى.
ولا يسعنا إلا أن نشيد بإخواننا في مدينة صفوى الذين طوروا مهرجانهم بحيث لم يقتصر على الرجال، وإنما صنعوا مهرجانًا موحدًا آخر للعريسات الزوجات، وهي فكرة مبتكرة لم تحصل في مناطق أخرى إلى الآن.
ما أحرانا أن نتلقف مثل هذه والأفكار الإيجابية التي تنفع المجتمع وتفيده ونعمل من أجل تثبيتها وتدويرها فيه.
ثقافة البذل والعطاء
الإنسان في هذه الحياة يمكنه الله تعالى من كسب المال وتحصيل الإمكانات، وبالتأكيد فإن ذلك لا يحصل إلا بعون الله تعالى؛ لأن الله هو الذي يعطي الإنسان جسمًا وعقلاً، يتحرك بجسمه وعقله من أجل أن يتحصل على الرزق والامكانات، كما أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أودع كنوز الرزق في هذا الكون، ليأكل الإنسان من رزق الله، ويحصل ما يحصل عليه من فضل الله سبحانه وتعالى، ولكن الناس يتفاوتون في قدراتهم وفي بيئاتهم، وفي مدى الجهود الذي يبذلونها من أجل تحصيل الرزق، ولذلك تتفاوت مستوياتهم في الرزق، وفي بعض الأحيان تكون هناك ظروف معيقة أمام الإنسان تمنعه من الوصول إلى رزقه، ولكن الرزق والمال اللذين يحصل عليهما الإنسان عليه أن يعرف أنه مؤتمن عليه، يصرف منه على نفسه ومصالحه وعلى الحاجات العامة والآخرين، فمن الخطأ الكبير أن يعتقد الإنسان أن ما يحصل عليه من مال هو له فقط.
إن الله سبحانه وتعالى قدر الأمور، فنجد بعض الناس يصلون إلى أرزاقهم مباشرة، بينما البعض الآخر منهم يصلون إلى أرزاقهم بوساطة الآخرين، فجعل الله حصصهم في الرزق مع حصة أولئكم الذين يحصلون على أرزاقهم مباشرة، ولذلك أوجب الله علينا في الإسلام أن ندفعها إلى من لم يتمكن من الوصول إليها، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[2] ، وفي آية أخرى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[3] ، لذلك على الإنسان أن يعرف أن المال الذي عنده ليس له فقط، وإنما فيه حصص للآخرين للشأن العام، كما أن ما ينفقه الإنسان على الشأن العام يعود عليه بالنفع باعتباره جزءًا من هذا المجتمع، وكذلك باعتبار ما ضمن الله تعالى للإنسان من عوض، فهذه مسألة مهمة جدًّا لا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام، الإنسان يبذل جهده للحصول على المال ولكسب الرزق، ولكنه لا يضمن أن يوفق في جهده، فكم من إنسان يسعى ويعمل ولكنه لا ينجح فيما سعى إليه.
البعض قد يكون لديه المال، لكنه يضطر لإنفاقه على أشياء أخرى، كأن يصاب هو أو أحد أفراد عائلته بمرض، فيضطر أن يصرف أكثر ماله من أجل مصاريف العلاج، أو يضطر لصرف جزء كبير من ماله جرّاء حدث ما.
إن هذه الحوادث تعوق الإنسان من أن يتمتع بهذا المال، والشيء الواضح أنه سيفارق هذا المال عندما ينتقل إلى العالم الآخر.
وفي مقابل كل هذه الاحتمالات، فإن الله سبحانه وتعالى يفتح أمام الإنسان شركة تأمينات مضمونة بضمان إلهي، فالله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، إن الله يضمن للإنسان تعويض ما ينفقه، ويبقى على الإنسان أن يثق أو لا يثق بوعد الله وضمانه، ولذلك على الإنسان أن يفكر بموضوعية وعقلانية، فحينما ينفق فإن ذلك يسبب له المزيد من التوفيق في أعماله التي يسعى فيها، فيدفع عنه المشاكل التي تستهلك ماله، ويكون قادرًا على التمتع بما رزقه الله من أموال، ويمكنّه من الشعور بالسعادة بهذه الأموال وهذه المكاسب، والأهم من ذلك: الثواب العظيم من الله سبحانه وتعالى.
علينا أن ننشر ثقافة العطاء؛ لأن البعض قد يسأم إذا طرق بابه أكثر من شخص من القائمين على البرامج الاجتماعية، إذ يتبرّم ممن يطلبون منه المساعدة والدعم قائلا: للتوّ قد تبرعتُ للجهة الفلانية، وأمسِ قد أنفقت على المشروع الفلاني وهكذا.
على الإنسان ألا يتبرم من فعل الخير، فبما أنه يغنم كل يوم، فليتبرّع كل يوم أيضًا، لتكون هذه المشاريع من اهتماماته ومصروفاته الدورية، كما هو الحال مع فواتير الكهرباء والاتصالات الهاتفية وغيرها. فهذا من مال الله، يقول تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾[4] .
روي عن رسول الله يقول الله تعالى : «يا ابن آدم، أَنْفِقْ، أُنْفِقْ عليك»[5] .
وعنه : «من يبسط يده بالمعروف إذا وجده، يخلف الله له ما أنفق في دنياه ويضاعف له في آخرته»[6] .
وعن رسول الله أنه قال: «أرض القيامة نار ماخلا ظل المؤمن فإن صدقته تظله»[7] ، وعنه : «ما نقص مال من صدقة قط، فأعطوا ولا تجبنوا»[8] ، لا يكن الإنسان جبانًا في العطاء، فإذا دار صراع في نفسه بين الرقم الأقل والأكثر، فليدفع الأكثر، ولينتصر على نفسه. هذا ما تعلمنا إياه النصوص ويربينا عليه الإسلام
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «من أيقن بالخلف جاد بالعطية»[9] . ويقول : «لم يرزق المال من لم ينفقه»[10] .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لأعمال الخير والبذل والعطاء، وأن نشجع الناس على ذلك، فالقائمون على أعمال الخير يجب ألا يخجلوا من طلب الدعم والمساعدة، بل يجب أن يلحوا وأن يذهبوا مرارًا متعددة لأصحاب المال وأصحاب الإمكانات؛ لأن ذلك في مصلحتهم ومصلحة المجتمع.
والحمد لله رب العالمين