قيم الشباب الزاحفة
حدثني رجل من تجار بغداد، كان قد زار باريس في إحدى جولاته التجارية، أنه ركب ذات مرة قطارا تحت الأرض، فرأى فيه مشهدا اجتماعيا أثار غضبه، إنه رأى فتى وفتاة يتعانقان، ويقبل أحدهما الأخر، فأخذ يحملق فيهما ويحوقل، وقد استغرب حين وجد الركاب ينظرون إليه شزرا ويحتقرونه بدلا من احتقار العاشقين المتعانقين.(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). بين القيم التي تربى عليها الآباء والسلوكيات التي يندفع لها أبناء هذا الجيل من الشباب بون شاسع وفراق كبير، لكن هذه المسافة في تقلص لصالح الجيل الشاب، وذلك بفعل الزحف السريع الذي تجيده السلوكيات الحديثة للشباب، مقابل التوقف والبرود الذي وصلت له قيم وسلوكيات الآباء من حيث الجذب والتأثير في أساليب نشرها وقبولها في الأجيال الجديدة. ولنا أن نشير إلى بعض مقومات هذا الانتشار المتتابع لتلك السلوكيات الشابة والتي خرجت بعيدا عن قيم الآباء. المقوم الأول هو سعة القاعدة التي تتبنى هذا السلوك، وأقصد هنا مئات الآلاف من الشباب الذين يتوافقون على سلوك معين، ثم يشغلون أوقاتهم ويفجرون طاقاتهم ويتبارون بين بعضهم لفعله وتأكيده على مشهد ومرأى من الجميع. فمثلا لا يكاد المرء يصدق أن ألفين أو ثلاثة آلاف شاب قد يتقاطرون إلى نقطة معينة لحضور حفلة تفحيط أعلن عنها قبل ساعات قليلة في مواقع النت الشبابية، وهم في شوق ورضا وراحة لما يقومون به. قبل أكثر من عام حضرت عزاء لشاب من شلل الاستعراض بالدراجات النارية، وعلى مدخل باب العزاء قلت لبعض الشباب من أصدقائه في المهارة الخطيرة، إن لكم فيما أصابه لعبرة وعظة، فقد مات بسبب سياقته الفوضوية لدراجته النارية، وحين فرغت من أداء واجب العزاء تابعني أحد الآباء مودعا بعد أن فاجأني بقوله: ليتهم يتعظون، لقد قلت لولدي وهو من أصدقاء الميت نفس قولك هذا، فرد علي: إن أجل الإنسان إذا جاء فلا مفر منه!!! المقوم الثاني هو أن تلك القاعدة الواسعة فرضت هذه السلوكيات كأمر واقع، يدعو الجميع للتعامل معه دون حياء أو خجل، وإذا ما فكر مخلوق أن يقاوم أو يناهض الأمر الواقع فليستعد لدفع الثمن، حدث ذلك فعلا مع صديق كان منزله قريبا من إحدى الساحات الاستعراضية لحركات الشباب، فكان يخرج لهم غاضبا، ويتصل بالجهات الأمنية لضبط الوضع وإبعادهم عن تلك المنطقة، فوجد الكراهية بارزة له ليس من الشباب الذين يؤدون تلك الحركات الاستعراضية فحسب، بل من أولاد الحارة والجيران الذين يحضرون للأنس والاستمتاع. المقوم الثالث: هو استفادة تلك الطاقات المتمردة من الضخ الإعلامي العالمي المفتوح، والذي يدفع باتجاه عولمة الكثير من السلوكيات المريضة وتلميعها في صورة معصرنة ومشوقة، لتتحول إلى تنافس يفخر به الشباب فيما بينهم ((وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ))، بالمناسبة كنت أقرأ قبل يومين خبرا في جريدة محلية يقول (تسلّمت المحكمة الجزئية بجدة يوم السبت الماضي دعوى قضائية رفعها أكثر من 100 شخص من مواطني جدة ضد الشاب «م . ع» بعد ظهوره في برنامج على إحدى القنوات الفضائية العربية معترفا بشكل علني بممارسته الرذيلة وارتكابها مع جارته وعمره 14 عاما وتشكيله مجموعة من الشباب والفتيات لممارسة الرذيلة في إحدى الشقق الفاخرة بأحد المنتجعات السياحية بجدة). إن ذلك الإعلام العبثي المدروس والموجه لسلوكيات الشباب لا زال يواجه من قبلنا بتغافل رسمي، وخطابات ثقافية ودينية لا تزال تفتقد الجاذبية، وتفتقر لصنع البديل. لست أغفل التأكيد على أن هناك مقابلا حيا ومتحركا لتلك السلوكيات متمثلا في سلوك العلم والثقافة، يظهر ذلك في الإقبال الجامعي الكثيف، والعلامات العالية التي ينالها الشباب في مدارسهم وجامعاتهم، والرغبة في الابتعاث والتوثب للمعرفة، لكننا لازلنا أمام الزحف الرهيب لتلك القيم لا نحسن صنعا لشبابنا التائهين سوى الحوقلة والاحتساب ((فلا حول ولا قوة إلا بالله)).