آفاق الاعتقاد بظهور المهدي (عج)
الحديث عن الإمام المهدي حديث عن الأمل المفعم الذي يداعب نفوس أبناء البشر طوال تاريخهم بالخلاص من الظلم والجَورِ والعيش في ظلِّ العدالة والحق.
والحديث عن الإمام المهدي حديثٌ عن عقيدة يقول بها علماء المسلمين وأبناء الأمة من مُختلف المذاهب؛ لأنّ النصوص والروايات الواردة عن ظهور وقيام الإمام المهدي آخر الزمان لا تقتصر على مذهب دون آخر بل هي أحاديث متواترة ومتوفرة في المصادر الإسلامية المُعتمدة عند جميع المسلمين كحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: (المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأُ الأرضَ قِسطاً وعَدلاً كما مُلِئَت ظُلماً وجَوراً)، هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في المستدرك ونعيم بن حماد في كتاب الفتن إلاَّ أنَّ فيه إضافةٌ في مسند نعيم بن حماد عن رسول الهم أنه قال: (المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يحثي المال حثياً لا يعُدّهُ عداً يملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً)، الشيخ الألباني وهو من أبرز أعلام المدرسة السلفية في الحديث نقل هذا الحديث وقال: إسناده حسن.
وهناك حديث آخر عن أُمّ المؤمنين أم سَلمة (رضي الله عنها) قالت: سمعتُ رسول الله يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)، هذا الحديث أيضاً أخرجهُ أبو داود في السنن، وابن ماجة في سننه، والحاكم في المستدرك، والبخاري في التاريخ الكبير، والطبراني في المعجم الكبير، وقال الألباني: هذا سندٌ جيد رجاله كلهم ثُقات وله شواهد كثيرة، وقال الألباني في مورد آخر، في صحيح الجامع الصغير: إنّه حديث صحيح. وأحاديث وراويات كثيرة وردت في مصادر المسلمين.
لا نستطيع أَنْ نتحدّث عن كل الجوانب والآفاق في عقيدة ظهور الإمام المهدي ولكننا سنُشير إلى جانبٍ واحد وهو آفاق الاعتقاد بظهور الإمام المهدي.
الإنسان المؤمن بظهور الإمام المهدي يعيش في حياته رافضاً ومنكراً للظلم متطلعاً للعدل؛ لأنّ اعتقاده بظهور الإمام المهدي إنّما هو اعتقاد بانتصار العدلِ على الظلم، وبَسْط العدل في حياة المجُتمع البشري. وهذا ما تُؤكِّد عليه الأحاديث بأن الإمام المهدي يملأُ الأرضَ عدلاً كما مُلِئَت ظُلماً وجَوراً.
وهذه الخلفية تعني أنَّ يتجه الإنسان نفسياً وفكرياً باتجاه العدل؛ لأنَّ الإنسان إذا كان يتطلع لهدف فإنَّ سلوكه يجب أن يكون مُطابِقاً لذلك الهدف الذي يتطلع إليه. ومَن يتطلع إلى زوال الظُلمِ وسيطرةِ العدل لا يصح له أبداً أَن يُقارِف الظُلم وأن يُمارس الجَور؛ لأن هذا يتناقض مع ما يتطلع إليه، ومع ما يؤمن به.
فالإيمانُ بظهورِ الإمام المهدي يُعزِز في نفس الإنسان ويوجه سلوكه باتجاه التزام العدل وباتجاه كره الظُلمِ والجَورِ، والعمل من أجل العدل ومقاومة الظلم والجَور.
إنّ هذا الدين الذي نؤمن به مرّ بظروف أوشك الناس أن يفقدوا الثقة فيه، لأنَّ الآخرين تقدّموا وصنعوا حضارةً متطورة، بينما كان فهم المسلمين لدينهم فهماً مُتخلفاً، أنتج لهم واقعاً متُخلّفاً، فصار المسلم يرى مفارقةً بين واقعِ الآخرين المتُقدّم وبين واقِعِه المتخلّف المصبوغ بالدين. وأدى هذا الواقع إلى إهتزاز وتزعزع ثقة الناس بدينهم.
وحينما نؤمن بالإمام المهدي إِنمّا يعني ذلك أَنْ نُؤمِّن بأنّ هذا الدين سيستعيد موقعه وسيأخُذ مجاله. ونرى الآن كيف أنّ هذه المسيرة قد بدأت تُعيد لأبناءِ الأُمَّة ثقتهم بدينهم، فتراجعت الطروحات والتوجهات الأُخرى التي انبهر بها البعض في يومٍ من الأيام، وأصبح الإقبالُ والتوجّه إلى الدينِ، سمةً في غالبِ المُجتمعاتِ الإسلامية.
ونُؤمن بأَنَّ هذا الدين ليس صالحاً لنا فقط، إنما هو صالحٌ للبشرِّيةِ جمعاء. ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه: هل أن فهم المسلمين للدين هو الفهم الصحيح، الذي يُحقق صلاح البشرية جمعاء؟
نرى بوضوح أنّ ممارسة الكثير من المسلمين تُعارض التقدُّم والإصلاحِ والتطّور، فإِذا كانت هذه الممارسات هي الفهم الصحيح للدين وأن هذا الأسلوب هو الذي سيحكُم البشرية فيا ويل البشرية منه. فطالما رأينا أنَّ بعض هؤلاء المتزمتين حينما أُتِيحَت لهُم الفرصة ماذا صنعوا في شعوبهم وفي العالم، فقد مارسوا الإرهاب، والعُنف، والقَهر، وفرضوا التخلُّف والرجعية، وأغلقوا مدارس البنات، ومنعوا مشاركة النساء في الحياة العامة، ومنعوا الحريات، وصادروا حقوق الإنسان... فهل هذا هو الدين الذي تُبشّر به الأحاديث، وأنّ الإمام المهدي سيملأُ به العالم قسطاً و عدلاً؟! بالتأكيد كلا، إنّ ما يفهمه هؤلاء من الدين بعيدٌ عن سماحة الدين. وتتفاوت مسافات ومساحات الابتعاد أو الاقتراب من جهةٍ لأخرى.
ومما لا نشك فيه أنّ ما أنزله الله تعالى حقٌ لا يتغير ولا يتبدل ولا يتناقض مع مصلحةِ الإنسان في أيّ زمن، إلا أن ما يفهمه الناس من الدين وما يستنبطونه يتأثر بفهمهم، ومستوى وعيهم، وببيئتهم.
إنّ الواقع الذي عاشه المسلمون خلال القرون الماضية أوجد سوءَ فهمٍ للدين في بعض الأفكار والمعتقدات والممارسات والسلوكيات، ومن الواضح أنّه يُخالف قيم الدين الأساسية، من هنا تأتينا النصوص والأحاديث بأنَّ الإمام المهدي حينما يظهر لا يُطبّق الدين كما هو معروف عند الناس إنَّما يأتي بفهمٍ جديد، يُصحح الفهم السائد عند الناس، وكما ورد في الرواية أنَّه يصنع كما صنع رسول الله ويستأنف الإسلام من جديد، فعنه قال: (رجلٌ مِن عترتي يُقاتِل على سُنَّتي كما قاتلتُ أنا عن الوحي)، وفي إحدى الروايات أنّه سُميَّ المهدي؛ لأنه يهدي الناس إلى أمرٍ قد دَثَرَ وضَلَّ عنه الجمهور، وعن الإمام الباقر قال: ((إنّ قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمرٍ جديد كما دعا رسول الله وإنَّ الإسلامَ بدأ غريباً وسيعودُ غريباً كما بدأ، فطوبى للغُرباء))، وورد أيضاً في روايةٍ: ((إنّ الله يمحو به البدعِ كلها)).
فإنّ الإنسان كفردٍ أو مجتمعٍ تمرُّ عليه ظروفٌ صعبةٌ وقاسيةٌ قد يتمنى فيها مفارقة الحياة، وقد ييأس من التغيير والإصلاح، ويأتي الاعتقاد بالإمام المهدي ليُحيّ الأمل دائماً وأبداً في النفوس.
لذلك على الإنسان المؤمن أن لا يفقد الأمل وأنْ يعيش دائماً متفائلاً وراجياً لرحمة الله، راجياً للإصلاح والتغيير مهما كان يعيش ظروفاً حالكةً قاسية، وهذا من أبعاد الاعتقاد بظهور الإمام المهدي .
فنحن نؤمن بأن الإمام المهدي ليس إماماً لطائفةٍ أو مذهبٍ أو بلدٍ أو أُمّةٍ، بل هو إمام يأتي لإقامة العدلِ على وجه الكرة الأرضية جمعاء، ((يملأُ الأرضَ قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظُلماً وجَوراً)).
لذلك ينبغي أنْ نوجّه نفوسنا وأفكارنا إلى الاهتمام المفتوح بالإنسانية، ومع الأسف الشديد فبسبب ظروف وثقافة التخلّف التي نعيشها حاصرنا أنفسنا في دوائر مغلقة، فأصبح الإنسان يفكر في حدود جماعته، فلا يهتم بكل أبناء مذهبه فضلاً عن أمّته. وإذا اتسع أُفق الإنسان تراه يفكر في أبناء مذهبه، وإذّا اتسع تفكيره أكثر قد يفكر في المسلمين، إلا أننا لو عُدنا لمفاهيم الإسلام وأفكاره الحقيقية لرأيناه يُرّبي الإنسان المؤمن على الاهتمام بأبناء البشريةِ جمعاء لأن رسالة الإسلام للعالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107).
الإنسان المؤمن يتألمّ لألم أيّ إنسان، فهاهو أميرُ المؤمنين عليٌ بن أبي طالب يتألمّ للمرأة المعاهدة غير المسلمة كما يتألم للمسلمة، فيقول : ((بلغنّي أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع منها حِجلها وقُلَبها، وما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ولو أنّ امرئً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً لما كان به عندي ملوماً بل كان به عندي جديراً)، وكان الإمام يفكر بالناس جميعاً، فيقول: ((ولعل بالحجار أو اليمامة من لا طمع لـه في القرص ولا عهد لـه بالشبع)).
ونحن نقرأ في سيرة أئمة أهل البيت أن كلّ إمام يحملُ الجِرّاب على كتفه ويذهب ويتصدق على الفقراءِ والمحتاجين، وفي بعض الأحيان يدخل إلى المسجد ويضع تحت رأس كلَّ نائمٍ من الفقراء رغيفاً. فهل كانت عند الإمام قائمةً من أبناءِ الطائفة يوزع عليهم فقط أم كان يهتم بكلّ المسلمين، وكلّ الناس؟
فاعتقادنا بالإمام المهدي يجب أنْ يُشجِّع في نفوسنا الاهتمام الإنساني والتفكير في البشرية جمعاء، فنبدأ بالدوائر القريبة منا، ولا ننحصر فيها، إنَّما ننطلق منها للاهتمام بكل إنسان، وهكذا يجب أن تتحول عقائدنا إلى منبعٍ للتفكيرِ الإنساني والى مُلهمٍ للسلوكِ الصحيح.
وجود الشعائر أمرٌ طبيعي في كلِّ دينٍ ومذهب. والشعائرُ هي: جمعُ شعيرة، وهي: العلامةُ الواضحة. وباعتبار أن للمذاهب والأديان معتقدات ومفاهيم لذلك لا بد من وجود مظاهر خارجية تكون بمثابةِ العلاماتِ والدلائلِ على تلك المعتقدات والمفاهيم، ولهذا فإنَّ الله سبحانه وتعالى أمَرَ بتعظيم الشعائر الدينية التي هي علامات واضحة على الدين ومنهجه قال الله تعالى:﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج:32).
والقران الكريم حين يتحدث عن الأضحية في الحج، يعتبرها من الشعائر، يقول تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ (الحج، 36)، فالأضحية هي: مَعْلَمٌ يدل على استعداد المسلم بالتضحيةِ بمِا لديه استجابةً لأوامر الله سبحانه وتعالى. ويؤكد الله سبحانه وتعالى في هذا السياق بأن هذه الأضحيات لن ينال الله لحومَها ولا دماؤُهَا, وانما هي رمز يجب الانتباه إلى مضمونه وهو التقوى يقول تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾(الحج:37).
واليوم ونحن نعيش مناسبة مُباركة تأتي ضمن المناسبات العظيمة التي نُحييها تخليداً لذكر أهل البيت ، وهي أيضاً من الشعائر، فبعضها ورد فيه النص من الأئمة ، وبعضها من العادات الحسنة، فكلّ أهلِ مذهبٍ وكلّ مجتمعٍ لهم عاداتهم وتقاليدهم، وهُنا لابُد أنْ نؤكِّد على أمرين:
فلا يحق لأحدٍ أنْ يمنع الناس مِن أنْ يمُارسوا شعائرهم الدينية والمذهبية أو تقاليدهم الاجتماعية ما لم يكن فيها ضررُُ على الوضع العام، وحينما يكون هناك منعٌ فإنّ آثاره ستكون سلبية، وسيتمسّك الناس أكثر بها، لأنّ الإنسان حريصٌ على ما مُنِع، وتزدادُ بذلك حالة التحدي، وتحصل حالةُ سَخَطٍ وغضَبٍ في نفوس الناس وشعورٌ بالتمييز.
وقد جربت مجتمعاتٌ وحكوماتٌ كثيرة محاولة الفرض والقمع لعادات الناس وشعائرهم، وعاد ذلك عليهم بنتائج عكسية، واستطاعت تلك المجتمعات أنْ تستعيد حريتها.
لذلك نحنُ نؤكّد على حُرّية المجتمعات في مُمَارسة شعائرها وعاداتها وأعرافها، ونُدين أي محُاولة لقهرِ الناس وقمعِهِم ومنعِهِم مِن مُمَارسة شعائرهم وتقاليدهم ما لم يكن في ذلك ضررٌ أو أذى للآخرين.
باعتبار أن للشعائر مضموناً، لذا يجب أنْ نهتم بالمضمون وبأهداف هذه الشعائر، لا أنْ نُبالغ في المظاهر على حساب المضمون. ففي بعض الأحيان يحصُل أنّ بعض المجتمعات تُبالغ في المظاهر الخارجية، إلا أن المهم هو: طبيعة الوضعُ السلوكي في داخل المجتمع، ومآل المشاكل والقضايا المتروكة والمهملة. فإلى أيِّ حدٍ التزم المجتمع بقيمه ومبادئه؟ إننا نجد أن هذا الجانب مما لا يكون فيه اهتمام في الغالب.
نفرح بوجود المظاهر الخارجية للشعائر،كمناسبات الأفراح في ذكريات أهل البيت ، والحزن في موسم عاشوراء، وباقي مناسبات أهل البيت . وإلى جانب هذه المظاهر علينا أنْ نُفكر في المضامين، فلا يصح الاهتمام بالمظاهر على حساب المضامين الداخلية، ويجب أنْ نرى إلى أيِّ حدٍ استطعنا أنْ نُعمّق القيّم في سلوك أبناءنا وأجيالنا، وما هي حالةُ التلاحم الداخلي في المجتمع.
هذه الأمور يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وطالما تحدثنّا أنَّ هُناك بعض الأشخاص يُسيئون لهذه المناسبات فيمارسونها بشكل استفزازي، ومسؤولية الموجهين هو ترشيد هذه الحالة ونفي الممارسات السلبية وتعزيز الممارسات الايجابية لهذه الشعائر.