الانفتاح على الذات
في كثير من الأحيان يهتم الإنسان بعلاقاته مع الآخرين، ويهمل علاقته مع ذاته، مع أن هذه العلاقة تعدّ من أهم العلاقات الأساسية التي ينبغي أن يهتمّ بها.
وعندما نتحدّث عن الاهتمام بالذات، لا نقصر الحديث على الاهتمام بالبنية الجسمية، من حيث الغذاء واللباس والمسكن وسائر الحاجات المادية والملذات، ذلك أن الجسم جزء من ذات الإنسان، بل هو الجزء المنفعل من الذات، وليس الجزء الفاعل، والجزء المتأثر لا المؤثر، ففي الإنسان ما هو فاعل ومسيِّر له، وهو الجانب الأهم في تكوينه الذاتي، والمقوِّم الحقيقي لذاته، فإننا عندما نريد أن نتحدّث عن ذات الإنسان يمكننا القول بأن الذات هي ذلك الكيان الداخلي الذي يسيِّر الجسد، وهو ما يشكّل مجموع الأفكار والقناعات التي يؤمن بها الإنسان، والأحاسيس والمشاعر التي ينطوي عليها، وما ينبثق منهما من سلوك وممارسات. إنَّ عمْقَ الذات هو تلك القناعات والمشاعر، والجسم يتأثر بما يعيشه كل إنسان من أفكار ومشاعر جيّاشة، فهي تحركه وتسيّره.
لذلك، فإن الشريعة الإسلامية عندما توجّه الإنسان إلى الاهتمام بذاته، عليه أن يتوجّه إلى هذا الجزء من الذات.
ولكن.. كيف يهتم الإنسان بذاته؟
إنّ القرآن الكريم يتحدث كثيرًا حول هذه المسألة، فيقول جلّ شأنه: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، فالإنسان مسؤول عن ذاته بالدرجة الأولى، وهذه الذات هي ما يمكن وصفها بالضلال والهدى، ولم تعبر عن البنية الجسمانية للإنسان، وإنما عمّا يحرك هذه البنية ويوجهها، وهي الأفكار والمعتقدات، حيث هي ما يوصف بالضلال والهداية.
وفي آية أخرى يقول عزّ وجل: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾[1] .
إن الحديث عن ربح أو خسران النفس الإنسانية في المنظور القرآني يكون بميزان الأفكار والمعتقدات وما يوجه السلوك وليس بالمقياس المادي والحسي.
وفي آية ثالثة يوجه القرآن الكريم الإنسان إلى أن يحمي نفسه بالدرجة الأولى، فيقول جلّ وعلا: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، ووقاية النفس - هنا - تكون عبر إبعادها عن مسبّبات الهلاك، وهي هنا لا تبتعد عمّا نحن بصدد بيانه من أهمية الاهتمام بالذات من حيث المعتقد وسلامة الفكر والسلوك.
العلاقة الصحيحة مع الذات يمكن تحقيقها من خلال أمورٍ عدّة، منها:
الإنسان غالبًا ما يعيش مع الآخرين ومع ما حوله من طبيعة، والنصوص الدينية تدفع الإنسان إلى أن يخصّص له وقتًا ينفرد فيه بذاته، فلا ينشغل بأمور أخرى. وهذا ما نجده في عبادة مثل الاعتكاف، حيث يمثّل التأمل والخلوة مع الذات فيها جانبًا مهمًا. والاعتكاف من العبادات الراجحة والمستحبة التي كانت شبه مغيبة في مجتمعنا، إلى أن بادر بعض المؤمنين في السنوات الأخيرة بالتوجه إلى إحياء هذه العبادة.
والإنسان الذي يعتكف يذهب إلى المسجد ليبقى فيه ثلاثة أيام لا يخرج إلا للضرورة، ويكون صائمًا في النهار منشغلاً بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم.
من فلسفة هذه العبادة أن الإنسان يبتعد عن الانشغالات الأخرى ويتفرغ لذاته حينما يكون في المسجد منقطعًا عن المنزل والناس، وهي عبادة تشبه - من حيث الروحية في تشريعها - صلاة الليل والمناجاة، اللتان هما خلوة مع الذات، فالإنسان بعد منتصف الليل ينتصب ليقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، بعيدًا عن الناس والاهتمامات المادية المختلفة ليتفرغ لذاته.
كثير من الناس يأنس حينما يكون مع الآخرين، كما أن الإنسان - بطبيعته - يأنس بالملذات، ولكن الأولياء حقًّا يأنسون بإقبالهم على الله ومناجاته، وهذا الأُنس في حقيقته هو تفرغ للذات واهتمام بها وإحضار لها بين يدي الله سبحانه وتعالى.
ذات الإنسان التي تعني أفكاره وآراءه وأحاسيسه ومشاعره تستحقّ منه أن يتأمل فيها ويقرأها جيِّدًا، فقد ورد عنهم : «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، فهي دعوة إلى الإنسان لمعرفة نفسه وتعرفه إليها وقراءتها بتأمل، إذ على الإنسان أن يجلس مع نفسه ليعرف خباياها وزواياها المتعدّدة.
فكما أن الإنسان يشغل ذهنه وتفكيره في العديد من القضايا، عليه أن يشغل ذهنه بالتفكير حول أحاسيسه ومشاعره الداخلية وصفاته النفسية.
إن علماء النفس والاجتماع - الآن - يحولون هذه القضية إلى عمل خارجي، فتجدهم في عياداتهم النفسية يقومون بتعبئة بعض النماذج المليئة بالأسئلة حول ذات الإنسان، يكتشفون ـ من خلالها ـ العديد من سلوكياته وخلفياتها الذهنية والنفسية، وذلك حينما يواجه الإنسان بعض الأحداث أو تتغير عليه بعض السلوكيات الملفتة، إنها صورة من صور قراءة النفس، والله سبحانه يطلب من الإنسان أن يبادر بقراءة نفسه وأن يجعل هذه النفس واضحة في معالمها أمام عينيه، وذلك بأن يسأل نفسه - كما يستفاد هذا من بعض الروايات -: «ماذا لو مِتُّ بعد خمس دقائق من الآن؟ ما هو مصيري؟ أإلى الجنة أم إلى النار؟»، إن هذا السؤال سيثير في نفسه دافعًا لوضع تصوّر عام عن شخصيته التي على أساسها سيتحدّد مصيره.
وفي موقف آخر قد يوجه بعضنا إلى نفسه هذا السؤال: «ماذا لو كان الإمام المعصوم حاضرًا وطلب مني أن أتجرد عن جميع أملاكي وبيتي، ماذا سأفعل؟ وماذا لو طلب مني أن أتقدم إلى الجهاد والقتال، ماذا سأفعل؟»، أو: «ماذا لو وصلني خبر معين ثقيل على نفسي كيف سأتصرف؟»، علينا جميعًا أن نضع هذه الأسئلة أمام أنفسنا، فهي ستعيننا على قراءة ذواتنا.
من لا يقرءون أنفسهم قد لا يعرفون كيف يتصرفون إذا واجهتهم بعض المشكلات، فالبعض قد ينهار لمجرّد تعرضه لأقل هزّة، لأنه لم يعد نفسه جيّدًا لمواجهتها، فهو لم يقرأ نفسه قبلاً، بل كان منشغلاً بأمور كثيرة منشغل بالأسهم وما يجنيه من أرباحها، ولا يشغل ذهنه بما عليه من تصرّف لو هبطت قيمة هذه الأسهم فذهبت معها نصف أمواله.
بعض الناس يعيشون دائمًا حالة التبرير لأوضاعهم، وهي حالة سلبية لا تجعل الإنسان مندفعًا نحو تطوير ذاته أو الوقوف منها الموقف السليم، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾[2] ، إن مَن يبرر لنفسه دائمًا هو في الواقع يخدع نفسه ويضرها، إن المنهج القرآني يوصي الإنسان أن يكون مع نفسه لوَّامًا: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾[3] ، ويؤيد هذا المنهج ما ورد عنهم : «حاسبو أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا»، و: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم وليلة»، وفي نص آخر: «ليس منا من لم يحاسب نفسه محاسبة الشريك للشريك».
وذلك بتغيير بعض طبائع الذات في عاداتها أو بعض أفكارها، وهذا من أصعب الأمور. فمن يعتنق فكرة معينة مدّة من الزمن من الصعب أن يغيرها، ومن لديه سلوك وطبيعة ربما يكون تغييرها أصعب، لكن هذا هو الامتحان الأكبر بأن يغير الإنسان بعض طبائعه أو أفكاره لمصلحة ذاته ومن أجلها.
وما تؤكّده النصوص الدينية هو أهمية ترويض وتهذيب النفس إلى ما يصلحها، يقول في ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر».
كما يقول في موضع آخر: «أعجز الناس من عجز عن إصلاح نفسه»، فمن كان في نفسه خلل ويعجز عن إصلاحه، فذلك من أشد أنواع العجز. وفي كلمة جميلة أخرى يقول : «سياسة النفس أفضل السياسات»، بمعنى: أن أفضل سياسات التعامل هي سياسة التعامل مع النفس وإدارتها. وفي موضع رابع يقول : «كلما زاد علم الرجل، زادت عنايته بنفسه وبذل في رياضتها وصلاحها جهده»، فزيادة العلم والمعرفة دافع للإنسان لأن يزيد من عنايته بنفسه، وفي المقابل نجد أن زيادة المال تجعل الإنسان منهمكًا أكثر في عنايته به وطلب المزيد منه، أو أن ينشغل بصرف هذا المال في البذخ أو الهوس في ترميم منزله أو تبديل موديل السيارة إلى ما هو أحدث ونحن هنا لا نقلّل من شأن التأنّق والتجمّل فالأناقة والتجمل مطلوبان، لكنهما في بعض الأحيان يبالغ فيهما على حساب الذات والاهتمام بشؤونها المهمّة والمصيرية.
إن شهر رمضان المبارك هو أفضل فرصة لكي يتوجه الإنسان فيه إلى ذاته، وأن يعرض نفسه على القرآن الكريم والأدعية المباركة، فهذه الأدعية إنما هي برامج لمحاسبة الذات، وللتفرغ والمكاشفة والمصارحة معها.
إن ما ورثناه من ثروة عظيمة من أدعية أهل البيت يعطينا هذه الروحية والتوجه.
هذه الأدعية ينبغي أن نعتمدها كبرامج للخلوة مع الذات ومحاسبتها وقراءتها، وكذلك لاتخاذ القرارات الجريئة تجاهها.
مسؤولية الإنسان تجاه من يعيلهم
يتحمّل الأب – بل مجمل الأسرة – مسؤولية كبيرة في تنشئة الأبناء، على القيم والمبادئ والسلوك الحسن، ذلك أن معظم الأسر تهتم بالتنشئة الجسمية والترفيهية في تنشئة أبنائها، ولكنها تهمل التوجيه والإرشاد السلوكي والأخلاقي عند الأبناء من الصغر، بخلاف التعاليم الإسلامية التي تحثّ الإنسان على هذه النقطة، ويكفينا ما تعرضه الآيات المباركة في سورة لقمان، حيث تورد جملة من الوصايا اللقمانية التي وجهها إلى ابنه، فتبدأ بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ - وَهُوَ يَعِظُهُ -: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ باللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[4] ، إلى أن تصل الآيات إلى قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾[5] .
إن مسؤولية الأسرة في تنشئة أبنائها على القيم والمبادئ مسؤولية كبرى ومهمّة شاقة كذلك، ولعلّ مما ييسّر عملية التربية السلوكية على الأسرة طريقين، هما:
فعلى الأب أن يكون قدوة لأبنائه في السلوك القويم وفي تحمل المسؤولية تجاه القيم والمجتمع، يريد بعض الآباء أن يظهروا أمام أبنائهم بصورة خلاف ما هم عليه في الواقع. فحينما يسافر البعض بعيدًا عن أهله يقوم ببعض السلوكيات الخطأ التي ينهى أبناءه عنها عندما يكون بينهم، وهذا ازدواج في الشخصية، وفي حالات أخرى ترى البعض وهو في المنزل يدفع أبناءه إلى غرف النوم حتى يجلس ليتابع بعض الأفلام والمسلسلات المخلّة بالآداب، متصورًا أنه يقوم بذلك دون مراقبة، بينما يدرك الأبناء ما يقوم به مثل هؤلاء الآباء، فالأبناء الآن أذكياء يفكرون ويتحسسون بمختلف الأساليب والوسائل، ومما يؤسف له أن تأتينا رسائل من بعض الزوجات أو من بعض الأبناء يشتكون فيها من ربّ الأسرة بأنه يطالع بعض المشاهد الإباحية سواء على التلفاز أو على جهاز الحاسب الآلي وفي بعض الأحيان على الهاتف الجوّال. في بعض الرسائل التي تأتينا على البريد الإلكتروني تشتكي بعض الزوجات من أن زوجها يتابع هذه الأمور ويصرف وقتًا في متابعتها، مع العلم بأن متابعة هذه الأمور أمر محرّم.
ينبغي للأب أن يربي أبناءه على تحمل المسؤولية تجاه مجتمعهم، فيربيهم على العمل التطوعي وعلى القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يكون له نفع عام على المجتمع، فبعض الآباء يبخلون بأبنائهم على الأعمال الاجتماعية أو الخيرية، فلا يريد أن يشغلهم بأمور غير الدراسة، وهذا خطأ كبير تجاه الابن نفسه وتجاه القيم التي يؤمن الإنسان بها، فها هو لقمان يوصي ابنه بأن يكون صالحًا مصلحًا، فيقول: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، فيوجه ابنه إلى أن يكون آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، وفي وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الأخيرة يقول لابنيه: «كونا للظالم خصمًا وللمظلوم عونًا».
إن الإنسان إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وسار في هذا الطريق تواجهه صعوبات وعوائق عليه أن يربي أبناءه على تحمل الصعوبات والمشكلات التي قد تواجههم، إن لقمان يوصي ابنه قائلاً: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾، فما يصيب الإنسان من مشاكل في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثمّ تحملها هو من عزم الأمور، ذلك أننا نجد كيف أن بعض الأسر ينتجون أبناء عاملين في خدمة الدين والمجتمع يتحملون المسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الدين مع كل الأعباء والصعوبات ويتوارثون القيام بهذا الدور، وهذا توفيق كبير من الله، وهذا أمر نقرأه في سيرة أهل البيت ، إذ كانت حياتهم مع أسرهم في هذا الطريق الذي يتحملون فيه الأعباء ويواجهون الصعوبات والمعاناة في سبيل خدمة الدين والأمة.
وها نحن اليوم ننعى فقيداً من العلماء والشخصيات التي خدمت الدين والأمة، وهو سليل أسرة توارثت خدمة العلم والمجتمع والدين، وهو سماحة السيد عبد العزيز الحكيم (ره)، من أبناء المرجع الراحل السيد محسن الحكيم (ره)، وهؤلاء الأبناء العشرة ثلاثة منهم فقط توفوا بصورة طبيعية، فيما البقية رحلوا عن الدين شهداء في سبيل الله.
نسأل الله تعالى له المغفرة والرحمة، وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان ويحفظ بقية أنجاله والسائرين على درب الخير والحاملين للواء القيم الإسلامية التي تدافع عن مصالح الناس والأوطان الإسلامية، نسأل الله لهم التأييد والتسديد، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ مراجعنا وعلمائنا وعلماء الإسلام العاملين المخلصين في كل مكان، والحمد لله رب العالمين.