الإمام علي (ع) وعبادة الأحرار
ورد عن مولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أنه قال «إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار».
وقال في مناجاته لله: "إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رغبةً في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك".
ونحن نعيش ذكرى استشهاد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب فإن علينا أن نلتفت إلى بعض زواايا العظمة في شخصيته وأن نأخذ الدروس والعبر من سيرته ومن أهم تلك الجوانب:
علاقته مع الله سبحانه وتعالى فهو يضع منهاجا لتوجه الإنسان العبادي لربه وهذا المنهاج يعتمد على قاعدتين:
إذا تعرف الإنسان على ربه وعرف شيئا من عظمته ورحمته فإن هذه المعرفة تدفعه لعبادة الله وتجعله مقبلا عليها. وبالنسبة للذين لايعبدون الله إما لأنهم يجهلون الله خالقهم أو لأنهم غافلون عن عظمته سبحانه وتعالى. أمير المؤمنين يرسي هذه القاعدة ليس من أجل أن هذه العبادة تعود بمردود على الإنسان أو تدفع عنه ضررا وإنما لأن الخالق يستحق أن يعبد فقوله (إلهي ماعبدتك خوفا من عقابك ولا رغبة في ثوابك) لا يعني هذا الكلام أن عليا لا يخاف عقاب الله ولا يرغب في ثوابه وإنما يعني أن الدافع لعبادة الله عند علي بالدرجة الأولى هي معرفته لعظمة الله سبحانه وتعالى (ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) ولتبسيط هذه العبارة نضرب المثل التالي:
بالنسبة لتبادل الاحترام بين الناس يدور في:
• شخص احترمه حتى احصل على المزيد من عطائه.
• وآخر أبدي له الاحترام والتقدير حتى ادفع عن نفسي سوءه والأذى الصادر منه.
• وشخص أقدم له كل الاحترام والتقدير لا لجلب مزيد من العطاء أو دفع لشره، بل لأنه يستحق الاحترام حيث تتحلى نفسه بالكثير من المزايا والكمالات.
وعودة إلى عبارة أمير المؤمنين التي بلفت فيها نظرنا إلى أنه لا يجب أن نتعامل مع الله تعالى بعقلية الخوف أو الطمع، وإنما يجب أن نلتفت إلى أن الله تعالى هو أهل للعبادة والخضوع بالدرجة الأولى، وهذا المعنى للعبادة ترجمة واضحة للقاعدة الأولى وهي قاعدة المعرفة.
الطمع والخوف يرتبطان بأمر مستقبلي والشكر يرتبط بأمر سابق فلو أن إنسانا صنع لك معروفا واحسن إليك في الماضي فتارة:
• تقدم له الشكر على إحسانه.
• وتارة أخرى تقدم له الشكر لأنك تريد أن يدوم التواصل معه من أجل استمرار وصول إحسانه ومنفعته إليك. أمير المؤمنين يقول عليك أن تشكر الله على ما أسبغ عليك من نعمه، فالمنعم يستحق الشكر. وقوله إن قوما عبدوا الله رغبة مصلحة مستقبلية يريدونها من الله فتلك عبادة التجار يعطي حتى ياخذ رغبة وإن قوما عبدوا الله رهبة خوفا من عذابه خوفا من ألا يعطيهم النعمة التي يريدونها فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا على ما أعطاهم على ما منحهم فتلك عبادة الأحرار.
والسؤال الهام هو: هل هناك فرق بين أن ينطلق الإنسان في عبادته من المعرفة والشكر أو ينطلق في عبادته من الرغبة والخوف؟؟
نعم وتتجلى تلك الفروق في أن من يعبد من أجل الرغبة أو الرهبة فإنه يكتفي بالمقدار الذي يظن أنه يحقق له ذلك مثل الموظف الذي يعمل بمقدار الراتب الذي يعطيه إياه رب العمل، كذلك الذي لا يصلي إلا مافرضه الله من الصلوات الخمس اليومية طمعا في الثواب وتجنبا من عقوبة تارك الصلاة فقط. أما الانسان الذي يصلي لأنه يرى الله أهلا للعبادة ويتعبد حتى يشكر الله على مااسدى إليه من النعم وأفاض عليه من الخير فإنما هو عاشق يخدم معشوقه تقرباً إليه وحباً له هذا اللون من العبادة هي عبادة من يريد ان يشكر نعم الله تعالى عليه وهذه لاتكون بمقدار أداء ما يسقط منه الواجب فقط وإنما بمقدار ما يتمكن ويستطيع، فأداء الصلاة الواجبة مع كافة مستحباتها هي لمن يعبدون الله لأنه أهل للعبادة وشكرا له على آلائه وفضله ونعمه، ولذلك لا يكتفون بهذا الحد وإنما يطالبون أنفسهم بأقصى مايستطيعون ويتمكنون وهكذا كانت عبادة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب .
لذلك قال ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة «أما العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة وماظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته وماظنك برجل كانت جبهته كسفنة البعير لطول سجوده» المسألة ليست مسألة أداء واجب وإنما مسألة الشكر لله والعبادة له لأنه أهل للعبادة.
أما بالنسبة للروايات التي تبين أنه كان يصلي في اليوم والليلة الف ركعة فإن عبادته هذه ليست فقط من أجل أن تعطينا رقماً أعلى في العبادة فليس المقصود الرقم الأعلى، بل إن المقصود أنه كان يصلي أكبر عدد ممكن من الركعات في اليوم والليلة.
أما الدعاء فقد ورد عن الإمام الصادق أن أمير المؤمنين رجل دعاء - يعني كثير الدعاء وقد حفظ لنا التاريخ شيئا من أدعيته العظيمة الرائعة وكيف كان يناجي الله سبحانه وتعالى نذكر هذا المقطع من عبادته ومناجاته، فقد نقل أبو الدرداء قال: (شهدت علي ابن أبي طالب بشويحطات النجار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيرات النخل فافتقدته وبعد علي مكانه فقلت لحق بمنزله فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول إلهي كم من موبقة حلمت عني فقابلتها بنعمتك وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك إلهي إن طال في عصيانك عمري مع كل هذه العبادة انظروا كيف يناجي ربه إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما انا مؤمل غير غفرانك ولا أنا براج غير رضوانك فشغلني الصوت يقول أبو الدرداء واقتفيت الأثر فإذا هو علي ابن أبي طالب بعينه فاستترت له وأخملت الحركة فركع ركعات في جوف الليل الغابر ثم فزع إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى فكان مما ناجى به الله أن قال إلهي أفكر في عقوبتك إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي ثم قال آه آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول خذوه فياله من مأخوذ لاتنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته يرحمه الملا إذا أذن فيه بالنداء ثم قال آه من نار تنضج الأكباد والكلى آه من نار نزاعة للشوى آه من غمرة من ملهبات لظى وصار يناجي ربه حتى وقع مغشيا عليه وكم ذكر التاريخ من موارد لمناجاة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب تتجلى فيها خشيته وتعظيمه لله سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة إننا حين نحتفي بذكرى استشهاد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب فإن علينا أن نهتدي بسيرته وأن نقبل على عبادة الله تعالى وطاعته ونحن في هذا الشهر الكريم شهر رمضان وقد بقيت منه العشر الأواخر والتي كان رسول الله فيها يقبل على العبادة والطاعة، لذا علينا أن نغتنم هذا الوقت ونستفيد من هذه الفرصة فما يدرينا أنعيش إلى عام قادم أم لا لنكسب الفرصة, أطال الله أعمارنا جميعاً في خير وصلاح.
ورد عن مولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أنه قال (ما تواضع إلا رفيع وما تكبر إلا وضيع).
حينما ينعم الله على الإنسان بمكانة من العلم أو المال أو المنصب أو الجاه فإن عليه تجاه هذه النعمة أن يشكر الله سبحانه وتعالى ومن أجلى مظاهر شكر الله على النعمة التي منحها للإنسان هي أن يتواضع للآخرين قربة إلى الله تعالى. كما أن الإنسان حينما يكون واثقا من نفسه وحينما يكون عارفا لقدر نفسه فإنه يتواضع للآخرين فالرفعة الحقيقية تنعكس تواضعا بين الناس. أما الإنسان الذي يشعر من نفسه الضعف والهوان فإنه يريد أن يعوض مايشعر به بالتظاهر بحالة من الرفعة بين الناس ولذلك يقول "ما تواضع إلا رفيع" الإنسان الرفيع في مشاعره وأحاسيسه يتعامل مع الناس بتواضع فلا يتعالى ولا يتكبر على الناس. بينما الإنسان الخاوي الفارغ من داخله يحاول أن يصطنع له مكانة بالتعالي والترفع على الناس.
ومن الطبيعة نستفيد من غصن الشجر الذي لا ثمرة فيه نجده متعاليا، اما غصن الشجر المملوء والمثقل بالثمار نلاحظ انحناءه وتدليه.
وهكذا هو الإنسان إذا كان مليئا بالثمار وبنقاط القوة وهو واع بتلك الحالة فإنه يكون كالغصن المتدلي، فإذا ملكت شيئا فعلي أن أبذله للناس وأقترب منهم، فأمير المؤمنين كان يقول «التواضع من أعظم العبادة» وهو ليس مفهوما فضفاضا أو فكرة خيالية، التواضع سلوك، كيف يتعامل الزوجان بتواضع مع بعضهما البعض؟ ومع الوالدين والأبناء؟
كيف يتجلى التواضع أكثر في التعامل مع من هو دونك في المكانة وأقل منك علما ومالا وقدرة؟
وهل من الفخر التواضع أمام زعيم من الزعماء وتبجيله واحترامه؟ أم إنما الفضل والتواضع والاحترام للفقير والضعيف ومن يعمل تحت اشرافك أيضا؟
لنرى كيف يتجلى التواضع في سيرة أمير المؤمنين عبر الأمثلة التالية:
1- تواضع أمير المؤمنين وتعامله مع خادمه قنبر الذي كان يحترمه حتى أنه يذهب معه إلى السوق فيشتري ثوبين فيعطي قنبر الثوب الأغلى ويقول له أنت شاب ولك شره الشباب فخذ هذا الثوب ويأخذ هو الثوب الأقل قيمة، مع أنه كان في موقع الخلافة والحكم والأهم من ذلك ما يتمتع به من كمالات وخصائص لكنه لم يتعامل على أساس الفخفخة بل كان يرفض ذلك من الناس أن يتعاملوا معه وقال لهم " فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولاتظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عني مقالة بحق أو مشورة بعدل".
2- وعندما عاد من صفين ومر بالأنبار استقبله جماعة ومعهم دهاقينهم فلما استقبلوه نزلوا وجاؤوا يشتدون معه ويسيرون أمامه وخلفه تعظيما له فالتفت إليهم أمير المؤمنين ماذا تصنعون؟
قالوا هذا خلق نعظم به الأمراء، فرفض أمير المؤمنين هذه الطريقة وقال "أما هذا الذي زعمتم أنه خلق منكم تعظمون به الأمراء فوالله ماينفع هذا الأمراء وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم فلا تعودوا له أبدا".
3- يأتي له ضيف مع ابنه فيقدم له الطعام وبعد انتهاء الطعام يقوم الإمام بنفسه ليصب الماء على يد الضيف فيخجل هذا الرجل ولكن عليا يلزمه بذلك فيصب الماء على يد ضيفه فلما جاء دور الولد التفت إلى ولده محمد قال صب الماء على يد الغلام وقال للغلام مايشبه الاعتذار لأن أباك موجود فإني اميز أباك احتراما له أصب على يده ويصب ولدي على يدك ولو لم يكن أبوك موجودا لصببت أنا على يدك.
4- كان متواضعا في داره يخدم في البيت مع عياله وكان يخرج إلى الشارع في وضع عادي دون أبهة ودون موكب كعادة ما يصاحب الزعماء أو الحكام.
5- كان يسير في السوق كما يسير سائر الناس وورد أن رجلا قد جاء من خارج الكوفة لم يكن قد رأى عليا وكان يحمل حملا على ظهره ورأى عليا يمشي قال له هل تحمل عني هذا المتاع ظانا أنه حمال يحمل الأمتعة، قال نعم وحمل عنه ومشى معه، ومر على جماعة وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، فالتفت الرجل من تعنون من أمير المؤمنين قالوا هذا الذي يحمل المتاع فخجل الرجل وصار يعتذر سيدي لم أعلم أنك أمير المؤمنين فرفض الإمام وقال لا حتى أوصلك إلى مكانك فاستمر في حمل متاعه عنه حتى اوصله إلى مكانه.
6- وقد ورد عنه أنه كان يمشي حافيا في خمسة موارد ويعلق نعليه بيده اليسرى يوم عيد الفطر وعيد الأضحى ويوم الجمعة وعند العيادة حينما يذهب لعيادة مريض وتشييع الجنازة ويقول إنها مواضع يحب الله أن أكون فيها حافيا هذا كان من تواضع علي .
إن من يتوالى عليا ويحبه فإن عليه أن يقتفي أثره في التواضع والتسامح مع الناس القريبين والبعيدين فإن ذلك هو سبب العلو والرفعة، علي قد كتب المحبة في قلوب من عاش معهم وفي قلوب جميع الناس التي تطلع على سيرته حتى أعداؤه ومن أساؤوا إليه فبعد أن أصابه ابن ملجم كان يوصي به كلما جيء له بطعام أو شراب يتناول منه شيئا قليلا ثم يقول خذوه لأسيركم هذه هي شخصية علي ومن هنا كانت عظمة علي فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا وثبتنا الله على ولايته وجعلنا من السائرين في طريقه وحشرنا يوم القيامة في زمرته وغفر الله لنا ولوالدينا ووالديكم وجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.