الفرصة متاحة حتى اللحظة
ها نحن في نهاية الشهر الكريم، وبيننا وبين وداعه أمد قصير، لكن الفرصة لا زالت متاحة لكلمات خاشعة، ودعاء صادق، ولسان لا زال بمقدوره أن يكون لهجا بذكر الله، قبل أن يمنع من النطق، فالمتأمل في خطابات القرآن الكريم المتعلقة باللسان حين الحساب يوم القيامة، يلحظ تعاملا ملفتا ومخيفا، فبينما هو طليق وحر في الدنيا، نجد أن المعادلة تتغير معه في الآخرة، مما يدفعنا إلى الاستفادة القصوى منه قبل أن تتغير قواعد التعاطي التي تبدو كالتالي:
1/ يحول الله سبحانه وتعالى بين المرء ولسانه، فيسلب منه القدرة على النطق، بعد أن كانت عضلة اللسان من أكثر العضلات حركة ونشاطا في الدنيا،﴿هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾، وكأن من صفات ذلك اليوم الموعود أن الإنسان لا يستطيع الكلام، إذا ما عساه أن يقول وقد أتيحت له الفرصة ليقول لربه ما شاء لكنه بخل في التحدث مع خالقه.
لذلك تتفنن الأدعية مشجعة لنا لنحرك ألسنتنا بالدعاء وذكر في الدنيا الله قبل التحسر على الكلام يوم القيامة ((فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقاً لئن تركتني ناطقا لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين)).
2/ ولو فرض أن الإنسان أراد الاعتذار لما أسلف من موبقات في حياته وأسرف في الذنوب والمعاصي طول عمره، فإن هذا الباب مغلق أيضا، ولا يتمكن الإنسان من ولوجه﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾، بعد أن كان الله سبحانه وتعالى يتمنى على الإنسان أن يقترب منه بالدعاء والاستغفار﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، لكنه في ذلك اليوم العسير لا يأذن له حتى بالاعتذار.
3/ في إشارة إلى احتقار ذلك اللسان الذي بعد عن ذكر الله سبحانه وتعالى في الدنيا وغفل عن الاستغفار والمناجاة، يُحدث الله استبدالا غريبا علينا يسيرا عليه سبحانه، فلا يطلب اعتراف الإنسان وإقراره بذنوبه من اللسان، بل من الجوارح الأخرى التي هي أصدق من اللسان البعيد عن ذكر الله في الدنيا ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
هذه الكلمات هي دعوة - قبل أن تشغلنا بهجة العيد - للاستفادة مما بقي من شهر رمضان المبارك بإطلاق اللسان بفنون الدعوات والابتهالات لله سبحانه، علنا نكسب غفرانه ورضاه.
لا زال ربنا يتحبب لنا بقوله ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.
هذا التحبب يعكسه الوعد بالاستجابة، وإشعار الإنسان بأن مالك الملك قريب يسمع ويستجيب، وهنا يكون الإنسان مسؤولا بعد كل هذا التودد عن إعراضه واستكباره، ونحن نقرأ في الدعاء((فلم أر مولى كريما أصبر على عبد لئيم منك علي، يا رب إنك تدعوني فأولي عنك، وتتحبب إلي فأتبغض إليك، وتتودد إلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك. ثم لا يمنعك ذلك من الرحمة بي والإحسان إلي، والتفضل علي بجودك وكرمك)) وكل عام وانتم بألف خير.