تلويث السمعة
لو تناولنا مطعما من مطاعمنا المحلية، واتفقنا ثلاثة أشخاص فقط وفي ليلة واحدة أن نقول لكل من نلقاه أن هذا المطعم يخلط لحومه التي يبيعها بلحم الخنزير، ثم سكتنا بعد تلك الليلة فسنسمع بعد أيام وأسابيع صدى تلك التهمة وامتداد تموجاتها، وسنلحظ تأثيرها، فلكل كلمة أثر كبر أم صغر، ولكل قول أناس يقتنعون به ويصدقونه في حق الآخرين وإن كان أصحاب المطعم – حسب مثالنا- هم أتقى الأتقياء.
ذاك لو كانت القضية للتسلية فقط وتضييع الوقت، وكانت مصلحتها بهذا الضيق- أرباح مطعم - أما لو صيغت التهمة ضمن نظام تعارض المصالح أو قانون التطرف، أو الحروب المفتوحة وتصفية الحسابات (علي وعلى أعدائي) فالمصيبة أكبر من أن تستوعب أو توصف.
ولو استبدلنا المطعم بشخصية عالم أو وجيه أو ناشط اجتماعي، وتفننا في التهمة والتلويث لكل بحسبه، فسيعيننا قوم آخرون - ربما تبرعا وفي سبيل الله حسب زعمهم - يتضررون من هذه الشخصية أو تلك، أو يحسدونها، أو أن نظام نفوذهم ومصالحهم الفردية أو الجماعية يتضارب معها ومع توجهاتها، ويقومون بالواجب عنا وأحيانا أكثر من الواجب.
لعل من أصعب القضايا أن تأتي ميكروبات التلويث تلك من أناس مقربين ولصيقين لصاحب المطعم، أو من أناس كانت تربطهم معه شراكة المطعم، وقد لا يكون الأمر مطعما بل ارتباطات وعلاقات بنيت على هموم مشتركة، وآمال ربما نالوا بعضها ولا يزال بعضها الآخر مرا -لأن الأيدي لم تصله - وزمن مديد من الجهد والتعب والعناء والدماء، والأيام التي تقاسموا فيها لقمة العيش القليلة بحب ورضا، ولكنهم اختلفوا وتباعدوا تبعا للمصالح أو لاختلاف التصورات والآراء أو لأي سبب آخر، قد يكون طبيعيا ووجيها بحكم تغير قناعات الناس وتبدل الظروف المحيطة بهم.
الصعوبة فيما قلته هو أن عامة الناس قد يسرعون لتصديق ما يقال، والمانشيت العريض هو (وشهد شاهد من أهلها) و(أهل الدار أعلم بما في الدار).
العديد من العراقيين الذين كتبوا مذكراتهم عن العراق ظلموا تاريخهم وتاريخ الآخرين، ولوثوا سمعتهم وسمعة من اشتركوا معهم في المحن والويلات، والكثير مما كتبوا عن التضحيات في فلسطين المحتلة يخجل الإنسان من هرائهم، فكل جهة تلعن أخواتها، وتلعن الذين اشتركوا معها في المسيرة والتاريخ والراية الواحدة، والأمر يصدق في كافة المناطق ومختلف الأعمال، فالكثير من الاخوة والأزواج يعيشون مع بعضهم في انسجام تام وما ان يختلفوا حتى يتقول كل واحد منهم على الآخر بما يخجل ويخزي.
بعض المناظرات التي تحصل على أعتاب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في بعض الدول، تحمل انحدارا وهبوطا يتجلى في الكلمات والاتهامات المستعجلة التي يقولها المرشحون ضد بعضهم في مناظراتهم التي تتلقفها الفضائيات وتنقلها للمشاهد، وفي بعض الأحيان يكون ثمن تلك المقابلات والمناظرات باهظا ومكلفا لأنها تمس السمعة أكثر من أي أمر آخر.
وهل تتلوث سمعة وتبقى سمعة أخرى طاهرة ونزيهة؟
يتصور الكثيرون أن تلويث سمعة الآخرين والجرأة على ذلك يعني شهادة حسن سيرة وسلوك للذات، وتطهيرا لها من كل دنس، بعد أن تلصق التهم بالآخرين، وأحيانا يعتقد هؤلاء أنهم يكونون في مأمن على سمعتهم من الناس بعد أن حملوا غيرهم مسؤولية كل شيء، واعتقدوا أنهم غير مسئولين عن شيء أبدا.
في غالب الظن أن الذي يسيء تدور دائرة الأيام بسوئه، فيستفاد من كلامه ضد الآخرين أولا، ثم يستفاد منه ضده.
شطب الآخرين، وجرة القلم، التي تحول المؤمن إلى فاسق، والمجاهد إلى خائن، وصاحب الرأي والعمل والنشاط إلى مصلحي ضال ومتسكع يبغي السلامة والأمن لنفسه وعياله، حكت الأيام وستحكي أنها ستطارد صاحبها حتى تنال منه.