التلوث الذي ارتضيناه
لقد انبثق كم هائل من الجمعيات التي لا حد لعددها ولا حصر لاهتماماتها التفصيلية، وإن كان اهتمامها المشترك هو الحماية من التلوث وأخطاره. فهناك جمعية حماية التربة والمياه الأمريكية، ومؤسسة أوشن كونسرفانسي (Ocean Conservancy) التي تنحصر مهمتها في حماية البحار والمحيطات في جميع أنحاء العالم، وجمعيات لحماية الغابات، وجمعيات لحماية الهواء من التلوث، وجمعيات لحماية أدق تفاصيل هذه الطبيعة الجامدة ـ كما نسميها ـ وجمعيات لحماية الحيوان وجمعيات لحماية السواحل إلى آخر القائمة.
أتذكر جيدا كيف جيّش العالم فرقا كثيرة في حرب الخليج الثانية لحماية الخليج العربي وتنقيته من بقع البترول التي تدفقت فيه وغطت وجهه بالسواد، فتنافست شركات ضخمة بعروضها لتذويب تلك البقع وإنهاء أثرها بأقل كلفة من الأضرار المحتملة، وانشغل الإعلام بتسليط الضوء على ذلك التلوث البيئي إلى أن انتهى كابوسه وذابت بقعته وانتصر الخليج.
يكره الإنسان بطبعه التلوث والقذارة، ولذلك ينشئ البلديات ويأتي بعمال النظافة، وبالخدم والحشم ليعيش بعيدا عن التلوث مهما كان وكانت نوعيته، هذا الكره والاشمئزاز جعل بلادنا كغيرها من دول الخليج مليئة بعمالة النظافة الأجنبية في المنازل والمكاتب والشوارع والأسواق والمجمعات العامة. وبقدر هذا الاشمئزاز من تلوث المكان المحيط بالإنسان فإن مجتمعاتنا مليئة بالشوق لتكون قريبة من مصادر تلويث السمعة ولتتعاطى معها وتتحرك في فلكها. وحدها سمعة الإنسان تعيش حالة اليتم والوحدة وعدم التبني من قبل أحد حين تتعرض للتلوث، بل إن الكثير من المحيطين بها يتسربون ويبتعدون عنها، لتواجه بمفردها محاولات الاعتداء عليها، وكأن الحفاظ على كل شيء أهم وأولى من الحفاظ على كرامة الإنسان، الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾.
انظر في قائمة أي موقع الكتروني لترى أن أكثر المواضيع والأخبار قراءة ونشرا وإرسالا وطباعة وتعليقا هي تلك التي تتعلق بتجريح الآخرين والمساس بمكانتهم وتلويث سمعتهم.
ولا يختلف الحراك في الأوساط الاجتماعية والمجالس العامة عن هذه المعادلة. فالكل ينشغل بتلقف هذا النوع من المواضيع والأخبار السيئة الصيت التي تمس سمعة الآخرين وتنال منهم، وحتى الذين يتوقع منهم أن يكونوا رسل ضبط أخلاقي وتوجيهي لسلوك الناس وتصرفاتهم يمارسون نفس السلوك وأحيانا بطريقة أوقح وأسوأ.
حتى وقت قريب كنت أظن أن هذا السلوك المرضي منتشر في مجتمعاتنا بشكل منافس ومتقدم عن المجتمعات الأخرى إما بسبب تقدم تلك المجتمعات وتخلفنا، أو بسبب أن من يمارس هذا السلوك يريد التعويض عن تقاعسه وهبوط مكانته أو بسبب النظرة الأنانية التي لا تريد أن ترى متقدما إلا وترميه بالسهام، لكني وجدته شهية عالمية منفتحة على تلويث سمعة الآخرين في كل الشعوب وكل المجتمعات.
ففي الولايات المتحدة كما يقول الأستاذ فهد عامر الأحمدي في مقاله (تجارة الفضائح) «يكفي أن تكون لك علاقة بنجم سينمائي أو رياضي - أو حتى سياسي - حتى تكسب ثروة، ويعود السر إلى تهافت وسائل الإعلام على شراء حقوق الفضيحة».
حين عبر القرآن الكريم عمن يستغيب أخاه ويلوث سمعته بقوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، لا شك في أنه قصد بهذا المثال معاني بليغة، لكني أتصور ـ إضافة لكل المعاني التي ذكرها المفسرون ـ أن تقريب الموضوع بأكل اللحم دون أي شيء آخر من فضلات الإنسان فيه إشارة إلى جهة الشبع التي يحدثها أكل اللحم، وكأن في تلويث سمعة الناس إشباعا كاذبا وخادعا للنفسيات المريضة. إنه إشباع للفضول والتطفل والوهم، وهو إشباع لأن صاحبه يعتقد نفسه غنيا بالمعلومات ومتميزا بكشف الخبايا، ولذلك يتفاخر بتلويث سمعة الآخرين، خصوصا حين يرى الناس يتهافتون عليه في شوق ولذة، وربما يدفعون له أموالا لتعرية الناس وتشويه سمعتهم.