مبررات الهيمنة الاجتماعية
تقوم فلسفة المجتمعات الإقطاعية والتقليدية في قمعها لشخصية الفرد على عدد من المبررات والحجج أبرزها ما يلي:
أولاً: قصور الفرد عن إدراك المصلحة واتخاذ القرار الصائب. مما يجعله بحاجة إلى وليٍّ يسيّره، وراعٍ يصحّح توجّهاته.
إنه من المتفق عليه حاجة الفرد حين يكون صغيراً للرعاية والولاية، لكن هذه الحالة تستصحب في المجتمعات التقليدية، حيث تستمر هيمنة الأب على الأولاد مادام حيّاً، ويكون قرار الزوجة بيد الزوج بشكل مطلق، وتخضع المرأة لوصاية الرجل.
ويجب على الناس طاعة شيخ القبيلة وشيخ الدين وشيخ الحكم، من منطلق أن (الشيوخ أبخص) أي أعرف بالمصلحة.
ثانياً: الوقاية من نوازع الشر والفساد، فلو ترك الفرد وشأنه، فإنه يقع تحت تأثير الشهوات والأهواء، وتحركه نزعات الشر والفساد، فيضر نفسه والآخرين.
ومن أجل حمايته من نفسه، ووقاية المجتمع من شره، لا بد من إحاطته بالرقابة، وسياج الأوامر والنواهي الرادعة.
ثالثاً: تعزيز الروح الجمعية وأولوية المصلحة العامة. حيث تواجه المجتمعات تحديات وأخطاراً على وجودها ومصالحها، فلا بد من تعزيز الروح الجمعية، للدفاع عن الهوية والكيان، بأن يكون الأفراد جنوداً رهن إشارة قيادة المجتمع، وأن يهتموا بما يخدم المصلحة العامة، ويقمعوا أي تفكير في مصالحهم الشخصية.
إن الفرد محدود الطاقة والقدرة، وقوته في قوة مجتمعه، فعليه أن لا يفكر في بناء قوته الشخصية، بل عليه أن يذوب في إطار تعزيز قوة الجماعة.
وإذا كانت هذه المبررات تُساق كمسلمات في المجتمعات القديمة، فإنها الآن أصبحت حججاً واهية في المجتمعات الحديثة، بسبب تطور الحياة، وتقدم وعي الإنسان، ونضاله من أجل انتزاع حريته، وكسب حقوقه.
إن تلك الثقافة القديمة تركز على نقاط الضعف في طبيعة الكائن البشري، وتتجاهل مواقع القوة، كما تقرر المنهج الخطأ في التعامل مع سلبيات الطبيعة البشرية.
فقد منح الله تعالى كل فرد قدرة عقلية عظيمة، يعتصم بها من الجهل وقصور المعرفة والإدراك، لذا يتوجه إليه الخطاب الإلهي محرضاً له على التفكر والتدبر، واستعمال العقل والنظر.
إنه حين يكون صغيراً ليس مؤهلاً للاستفادة من قدراته العقلية بالمستوى المطلوب، فيحتاج إلى الولاية والرعاية، ريثما تكتمل مداركه، ويتعرف على طبيعة الحياة من حوله، فإذا اجتاز عتبة البلوغ، أصبح مكلفاً من الناحية الشرعية، وحين يمتلك الرشد العرفي يكون شخصية مستقلة كاملة الاعتبار، رجلاً كان أو امرأة.
ويشير القران الكريم إلى أن الله تعالى زوّد الإنسان بأدوات يتجاوز بها قصور المعرفة والجهل الذي يصحبه في مرحلة الطفولة، يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [سورة النحل، الآية:78].
إن قصور المعرفة والإدراك عند الفرد لا يعالج باستعباده واستتباعه، وإلغاء شخصيته، بل بتوجيهه إلى عقله، وتشجيعه على التفكير والبحث، ودفعه للسعي نحو العلم والمعرفة، وفتح الآفاق والسبل أمامه.
وهذا هو منهج الأنبياء في الأصل، فهم لا يسلكون سبيل الهيمنة والسيطرة على الناس، والله تعالى لم يسمح لهم بذلك، وإنما يتحدد دورهم في التذكير والتوجيه، وإتاحة فرصة الاختيار واتخاذ القرار.
يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [سورة الغاشية، الآيتان:21-22].
ويقول تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[سورة الكهف، الآية:29].
وهذا ما تسير عليه المجتمعات المتقدمة، التي توفر لأبنائها فرص التعلم، ومجالات البحث، وتطور وسائل الحصول على المعرفة وتدفق المعلومات.
لكن المجتمعات المتخلفة تمارس تجاه أبنائها سياسة التجهيل والتعتيم، وتضع العوائق والعراقيل أمام وصول المعلومات والمعارف بيسر وسهولة للناس.
ثم تبرر الهيمنة على أبنائها بقصورهم وتدني مستوياتهم.
من جانب آخر فإن النظر للإنسان من خلال ما في نفسه من ميول شهوانية، ونزعات شريرة فقط، فيه ظلم وحيف، ففي أعماق الإنسان فطرة نقية، ونزعات خيّرة، إلى جانب دواعي الشهوة والهوى، يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [سورة الشمس، الآيتان:7-8]، وورد عنه أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة»[1] .
فالإنسان مهيأ للسير في طريق الخير والصلاح، كما يمكن أن ينزلق إلى طريق الشر والفساد، يقول تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [سورة الإنسان، الآية:3].
وللبيئة التي تحيط بالإنسان دور مؤثر في اختياره لأحد الاتجاهين.
والمطلوب هو توفير البيئة الصالحة، والتربية المناسبة، ونشر القيم الفاضلة، وبث الدعوة إلى الخير، وتنمية دوافع الصلاح في نفس الإنسان، وتحذيره من عواقب الفساد والانحراف.
أما شلّ إرادة الإنسان، ومصادرة قراره، وإلغاء شخصيته لضمان سيره في طريق الخير والصلاح، فذلك امتهان لإنسانيته، وخلاف لحكمة الله تعالى في خلق الحياة الدنيا كدار ابتلاء وامتحان.
ولعل أهم مبرر يطرحه دعاة الهيمنة الاجتماعية، واهم شعار يرفعونه، هو تعزيز الروح الجمعية وأولوية المصلحة العامة.
ولا شك أن الشعور بالحاجة إلى انتماء اجتماعي، هو من أقوى المشاعر المتجذرة في نفس الإنسان، فهو يوفر له الإحساس بالقوة والأمن، كما أن عضويته في المجتمع تساعده في تسيير شؤون الحياة ومواجهة مشاكلها.
ولا شك أيضاً أن قوة المجتمع تتحقق بتضامن أفراده، واهتمامهم بالمصالح العليا لمجتمعهم.
ويظهر من تاريخ البشرية القديم والحديث أن هناك رؤيتين في الوصول إلى هذه الغاية والهدف:
الرؤية الأولى تبالغ في التقليل من شأن الفرد، وتدعو إلى إذابته وصهره في بوتقة المجتمع، ليسلم قياده، ويكبت رغباته، ويكبح جماح فكره، خضوعاً للإرادة الجمعية، والتزاماً بتوجيهاتها.
وتلك هي سمة المجتمعات الإقطاعية والتقليدية التي يسودها الاستبداد الشمولي، كما تبنت هذه الرؤية المدرسة الماركسية الشيوعية في التاريخ الحديث.
ورغم أن عنوان هذه الرؤية وشعارها هو الجماعة والأمة والمصلحة العامة، إلا أنها غالباً ما أنتجت واقعاً مبايناً ومناقضاً لهذا العنوان في تاريخ البشرية القديم والحديث، حيث تؤدي إلى هيمنة أفراد أو طبقة من الناس على مقاليد الأمور، ليتحكموا في مصير الأمة والشعب، وليتخذوا ما شاءوا من القرارات التي تخدم مصالحهم الخاصة، وتلبي رغباتهم في المزيد من التسلط والاستئثار.
كما نقرأ ذلك في تاريخ العصور الأوربية الوسطى، ومعظم تاريخ السلاطين المسلمين، وفي سيرة ستالين، وهتلر، وعيدي أمين، وصدام حسين، وأمثالهم من طغاة هذا العصر الذين رفعوا شعارات القومية والوطنية، وحكموا باسم الشعب والجماهير.
أما الرؤية الثانية فهي تهتم بإعلاء شأن الفرد، وتدعو إلى احترام خصوصياته الشخصية، وحماية حقوقه المنبعثة من طبيعته الإنسانية، وترى أن قوة المجتمع تتحقق بقوة أفراده وتوافقهم على عقد ونظام اجتماعي لإدارة شؤونهم العامة.
في ظل هذه الرؤية يتمتع الفرد بحرية التفكير والتعبير عن الرأي، واتخاذ القرار في شؤونه الخاصة، وما يختاره لنفسه من أسلوب حياة ونمط سلوك.
ويشترك مع سائر أفراد محيطه الاجتماعي في صياغة قوانين وأنظمة الحياة العامة، وفي تقرير الأهداف العليا للمجتمع.
وأعتقد أن المجتمعات الإيمانية التي اتبعت تعاليم الأنبياء في التاريخ القديم، كانت تأخذ بهذه الرؤية، وتعمل وفقها، قبل أن يصيبها الانحراف والفساد بتسلّط من زوّروا و زيّفوا تعاليم الأديان.
كما أن المجتمعات الحديثة في الدول المتقدمة تنتمي إلى هذه الرؤية، فقوة أمريكا هدف وشعار لمواطنيها، وتعزيز الروح الوطنية منهج بارز، يزداد تألقه وتجليه أمام التحديات التي تواجههم، كما حصل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م.
وكذلك الحال في سائر الدول الغربية التي سعت مجتمعاتها للتوفيق بين ممارسة الحقوق الفردية والحريات الشخصية، وبين تعزيز الروح المجتمعية الوطنية، وخدمة المصالح العامة.
ويقتضي التنويه أن الإشادة بالتوجه العام لهذه المجتمعات المتقدمة لا يعني الإشادة بكل التفاصيل والجوانب، ففي داخل تلك المجتمعات نفسها أخذٌ وردٌّ ومعارضةٌ ونقدٌ للكثير من السياسات والممارسات.