القرض الحسن وأداء الدّين
﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ سورة البقرة، الآية: 280
مفهوم الحقوق مفهوم واسع وشامل لكل أبعاد الحياة، ومفهوم الأمن كذلك أحد مرتكزات الحياة الكريمة، فهناك تلازم معقول بين الحقوق والأمن، فلا يمكننا الحديث عن الأمن بعيدًا عن الحقوق ولا تبقى حقوق في ظل اللا أمن، والحقوق أوسع مطلب في الثقافة الإنسانية نظرًا لتشعباتها، وارتباطها الوثيق بالإنسان، والجميل أن الأمن كمفهوم في القرآن ورد مئات المرات في صيغ متعددة، ومادة "أمن" ورد منها الأمانة والإيمان وكلا الاصطلاحين يشير إلى الحقوق وآفاقها، ومن أشد الحقوق حساسية وجدلية في الواقع الاجتماعي، الحقوق المالية، حيث المال يتعلق بالملك والكرامة والاستقرار المعيشي، من هنا ارتبط الأمن الاجتماعي بحفظ وصيانة هذا العنصر من الحقوق، وتناسب معه طرديًّا، فمع تفشي الاعتداءات على الحقوق المالية في المجتمع تتزايد الجرائم ويختل النظام الأمني الاجتماعي، وتتفاقم الأمراض النفسية من قبيل الخوف والقلق والنكوص والاكتئاب...
إن حماية الحقوق المالية تُعدُّ من أهم أسباب الاستقرار والسلم والاطمئنان الاجتماعي، فالإنسان الذي يعيش في مجتمع تُصان فيه حقوقه المالية إلى جانب سائر الحقوق، ويأمن من الاعتداء على ممتلكاته وأمواله لكونها مصانة محفوظة، هذا الإنسان يعيش مطمئنًا بمجتمعه، لكن تكثر النزاعات والخصومات مع تفشي الاختلافات المالية واختلال حماية وضمان الحقوق.
لقد شرع الإسلام تشريعات تؤكد على حفظ الحقوق المالية وصيانتها كما أراد أن ينشئ المجتمع تنشئة أخلاقية تجعل من أفراده ذوي حساسية مرتفعة تجاه حقوق بعضهم بعضاً, ولذلك هناك أبواب في الفقه الإسلامي تعالج مسائل الدّين، والدّين هو ثبوت حق في ذمة إنسان لآخر.
حيث هناك في الفقه الإسلامي مسائل وتشريعات تعالج هذه المسألة؛ لأنها كثيرة الحدوث والحصول في المجتمع، كما أن هناك عدداً كبيراً من النصوص والأحاديث التي تتناول هذه المسألة وعندما نراجع هذه النصوص نجد أنها:
أولا: تحذر الإنسان المسلم من أن يبقي في ذمته حقًّا لغيره، كلما استطاع الإنسان ألا يكون في ذمته حق لأحد فهو الأفضل، ولهذا فإن الأحاديث والنصوص تحذر الإنسان من أن تكون عليه ديون للآخرين، أن يقترض من الآخرين، أن يبقي في ذمته حقوق الآخرين، إذا اشترى عليه أن يؤدي ثمن ما اشتراه فوراً، إذا كان مستطيعاً، إذا استأجر عليه أن يدفع الإيجار في وقته إذا كان مستطيعًا، وهكذا إذا كان في ذمته دّين لأحد فعليه أن يؤدي الدين الذي عليه، وهو ما تحث عليه الروايات ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: "إياكم والدّين فإنه هم بالليل وذلّ بالنهار"[4] ، وعن الإمام الصادق أنه قال: "خففوا الدّين فإن في خفة الدّين زيادة العمر"[5] ، وورد بالنسبة للأجير ينبغي للإنسان أن يعطي الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه، إنسان استأجرته لأداء عمل عليك أن تعطيه أجرته بأسرع وقت ممكن هذا هو المطلوب من الإنسان المسلم، أن يسعى ألا يكون في ذمته دّين لأحد من الناس.
والبعض من الناس يتساهلون بخصوص الدّين، بحيث يستدين وإن لم يكن في حاجة للدّين.
هناك أشخاص يستدينون من أجل الحصول على كماليات الحياة، هذا خطأ كبير، أضف إلى ذلك الإنسان إذا استدان عليه أن يعجل بأداء الدّين الذي عليه، لقد ورد عن الإمام الجواد أنه قال: "انظر أن تلقى الله عز وجل وليس عليك دّين"[6] لأن المؤمن لا يخون، على كل منا أن يسعى بأن يلقى الله وليس في ذمته حق لأحد هذا من جانب.
ثانيا: من جانب آخر، الإسلام يشجع القادرين على أن يساعدوا محدودي القدرة على إدارة شئون حياتهم بالإقراض مع الصبر، الأحاديث الواردة تشير إلى أن الإقراض ثوابه أكثر من الصدقة، فلو خير الإنسان بين أن يدفع مبلغا صدقة أو أن يقرضه أحداً، فالإقراض ثوابه أفضل عند الله.
ورد عن الإمام الصادق أنه قال: "ما من مسلم أقرض مسلمًا قرضًا حسنًا يريد به وجه الله إلا حسب له أجرها كحساب الصدقة حتى يرجع إليه"[7] ، حتى يعود إليه ماله، حساب القرض يكون عند الله أجره كأجر الصدقة، وعن أبي عبد الله الصادق أنه قال: قال رسول الله : "من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به ميسوره، كان ماله في زكاة وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه إليه"[8] وعن أبي عبد الله الصادق أنه قال: "القرض الواحد بثمانية عشر، وإن مات احتسب بها من الزكاة"[9] ، وفي وصية له كتبها إلى أصحابه قال: "إياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله وهو معسر فإن رسول الله كان يقول: "ليس لمسلم أن يعسر مسلمًا، ومن أنظر معسرًا أظلّه الله يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه"[10] .
هكذا على الإنسان أن يكون حريصاً بأن لا يبقى في ذمته شيء لأحد وإذا كان له في ذمة شخص آخر شيء من المال وكان الآخر معسراً فإنه ينبغي له أن ينظره إلى أن يتمكن من أداء ما عليه ورد في رواية: "يؤتى يوم القيامة بصاحب الدّين يشكو الوحشة فإن كان له حسنات أخذ منه لصاحب الدّين وإن لم يكن له حسنات ألقي عليه من سيئات صاحب الدّين".
في بعض المجتمعات هناك عادة أو سنة حسنة يتأسس صندوق يطلق عليه "صندوق قرض الحسنة"، في إيران هذه الحالة منتشرة وفي العراق أيضًا بدأت تتأسس وفي بعض المجتمعات الأخرى، صحيح أن هناك بنوكاً تقدم القروض، ولكن كما نعلم فإن البنوك تأخذ فوائد على هذه القروض ويقع الإنسان بسببها في الرّبا، وترهق الإنسان لأنه يدفع فيما بعد مبلغاً كبيرًا، أرباح يأخذها منه البنك، من المناسب جداً أن يكون في المجتمع صناديق للقرض الحسنة، تأسست بعض الصناديق لحالات خاصة كحالات الزواج، من يريد أن يتزوج وهو محتاج هناك بعض الصناديق تقرضه وإن كانت هذه الصناديق التي تأسست لمساعدة المحتاجين للزواج. لا تزال في حالة بدائية يعني تقرضه بجزء من حاجته ولا تقرضه بكل ما يحتاج لزواجه ولكنها تبقى أيضًا خطوة طيبة ينبغي أن تتطور...
أيضا هناك أشخاص يعانون من بعض الدّيون وبعضهم قد يسجن بسبب الدّيون التي عليه وبعضهم له حاجات رئيسية في حياته تتعطل لعدم قدرته على القيام بها، ولو أنه لقي مساعدة أو قرض لتيسرت أمور حياته...
ومما يشجع الناس القادرين على الإقراض هو ضمان عودة حقوقهم إليهم. المشكلة في بعض الأحيان لا تكون القوانين مساعدة لعودة الحقوق إلى أصحابها، وأيضا الثقافة السائدة بين الناس لا تكون مشجعة لهذه الحالة، بعض الأشخاص يقترض ولكنه لا يحرص على الوفاء وهذه مشكلة كبيرة، نحن نتلمس أمثال هذه المشاكل في مشاهد عدة:
الإيجار مثلًا: نجد بعض المستأجرين للشقق أو للمنازل لا يؤدي الإيجار في وقته، حيث القانون في كثير من الأحيان ليس لصالح المؤجر، ولكنه لصالح المستأجر، بحيث المؤجر يحتاج معاملة حتى يستطيع إلزام المستأجر بدفع الإيجار، وهذا مشكل شرعاً كيف يجوز للإنسان أن يبقى في مكان من دون رضا مالكه وصاحبه، بدون أن يدفع الإيجار، هذا غصب، صلاته، كل أعماله العبادية، تصرفه، فيه إشكال شرعي، عليه أن يحسب حساباً لذلك.
من ناحية أخرى فإن على المؤجرين أن يُنظروا من كان ذو عسرة كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، حينما تكون عائلة فقيرة، محتاجة، حينما يكون المستأجر محدود الدخل ينبغي للمؤجر أن يكون متسامحًا، حينما يكون الطرف الآخر بالفعل محتاجاً أما إذا كان يلعب، ويتشاطر، هذا بحث آخر أما إذا رأى أنه إنسان وضعه المادي صعب فإن له أجرًا وثوابًا كبيرًا في التسامح معه، في أن يؤجله إلى أن يتمكن وماذا يزعج الإنسان وخاصة إذا كان موسرًا، ماذا يزعجه أن يكون له دّين في ذمم الآخرين، بالعكس هذا ثواب كأنك قد وضعت أموالك في بنك يعطيك نسبة كبيرة من الأرباح هذا ثواب كبير من قبل الله سبحانه وتعالى...
فيما يرتبط بالعمالة الأجنبية تنشر الصحف والجرائد، ونسمع في المجتمع عن بعض العمال كالسائق أو الخادم أو الخادمة في البيت، الذين في الغالب الأعم يأتون من مجتمعات فقيرة، حيث الفقر والحاجة هي التي تدفعهم إلى أن يتغربوا في البلدان البعيدة عن بلادهم، ويقومون بهذه الخدمات المتعبة المجهدة، ولكن مع الأسف الشديد بعض الناس يستغلون هذا الخادم أو الخادمة يرهقونهما أكثر من اللازم، وهذا لا يصح شرعًا، لأنه استغلال وهدر لكرامة الإنسان، ينبغي أن يكون العمل في الحدود المتعارفة، وضمن قوانين العمل، وضمن الاتفاق الذي حصل معه، أما إرهاقه أو إهانته والإساءة إليه، فذلك من أعظم المحرمات الشرعية، ومحل حديثنا إعطاؤه حقه، إعطاؤه أجرته، في بعض الأحيان يبقى بعض هؤلاء لشهور لا تصل إليهم حقوقهم مع أنهم يكدحون وخلفهم عوائل تنتظر منهم، أن يبعثوا لها نفقات حياتهم، هذا من أعظم الحرام على الإنسان أن يكون حساساً في هذا المجال...
مما يناسب ذكره في ذات السياق ما يتعلق بالحج، فإن الفقهاء يفتون أن الإنسان إذا كان مدّيوناً وكان بحيث لو أدى دّينه لنقصت نفقات حجه هنا لا يعتبر مستطيعاً وبالتالي لا يجب عليه الحج، أداء الدّين هو الأولى ولو حج وهو مدّيون في مثل هذه الصورة فإن الفقهاء يقولون لا يسقط عنه حج الإسلام وإنما عليه أن يؤدي الحج متى استطاع وكذلك لو كان مدّيونا ً بالحقوق الشرعية الخمس الشرعي أيضًا أداء الخمس الشرعي أولى من الحج، عليك أن تؤدي الخمس فإن فضل عندك بعد الخمس ما تتمكن به من الحج، كان الحج واجباً عليك، تكون مستطيعًا، وعليك أن تؤدي الحج، بل أن الفقهاء يقولون إذا حان وقت أداء الدّين، دّين حان وقته إما هو حال ليس مؤجلاً أو مؤجل وحان وقته وحان أجله فإنه مقدم على الصلاة ولو صلى في أول الوقت مع مطالبة صاحب الدين بدّينه فصلاته غير صحيحة، صلاته باطلة، يجب أداء الحق المالي ثم أداء الصلاة، لأن الفقهاء يقولون إن الدّين الذي حان وقته يصبح مضيقاً، بينما الصلاة وقتها موسع، تصلي بعد ساعة بالنسبة لصلاة الظهر مثلاً، فيجب عليك أولاً أن تؤدي الدّين الذي حان وقته ثم تقوم إلى أداء الصلاة ولو قدم الصلاة على أداء الدّين في الوقت الموسع للصلاة مع أن الدّين قد حان وقته فصلاته غير صحيحة شرعاً...
يؤكد الدين على مسألة صيانة حقوق الآخرين، وعلى الإنسان إذا كان في ذمته دّين لأحد ولم يؤده، أن يكتبه حتى يؤدى عنه بعد وفاته، وهو أول ما يخرج من تركة الميت بعد كفنه قبل وصيته بأي شيء آخر، وإذا لم يكن له مال يؤدى به دّينه، فإنه ليس على الورثة أن يدفعوا عنه، هو يحاسب ويعاقب يوم القيامة، إلا إذا تبرع أحد الورثة، أما إذا لم يتبرع أحد ورثته بأداء دّينه وكان ليست له تركة فإن الورثة لا يتحملون الدّين عن الشخص المتوفى وهو مدّيون، نعم يمكن من الزكاة من بيت المال أن يدفع عنه فعلى الإنسان أن يهتم بهذا الأمر ولا يتساهل في حقوق الناس، ينبغي أن يبتعد عن الدّين، وإذا اضطر إلى الدّين، عليه أن يوثق ذلك الدّين، وأن يعجل في أدائه وقضائه، وإذا لم يكن قادراً فإن على صاحب الدّين أن يوسع عليه ويتسامح معه، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يخرجون من حقوق الله وحقوق الناس التي في ذمتهم.