جميلة تعلن إفلاسها
«أسمح لنفسي بلفت انتباهك إلى وضعيتي الحرجة، فتقاعدي ومعاشي الضئيل الذي أتقاضاه بسبب حرب التحرير لا يسمحان لي بالعيش الكريم، وكل من البقال والجزار والمحلات التي أتسوق بها يمكنهم أن يشهدوا على القروض التي يمنحونني إياها».
«عليكم أن تراجعوا معاشنا الضئيل، وذلك حتى نُكمل الوقت القليل الباقي لنا في هذه الحياة بما يتناسب مع الحد الأدنى من الكرامة».
بهذه الكلمات المفعمة بروح التحدي وكبرياء الكرامة خاطبت من تعد رمزا من رموز الثورة الجزائرية، حكومة بلادها في 9/12/2009.
لم تستسلم (جميلة بوحريد) بعد لما تعيشه من ضنك العيش وقلة ذات اليد، لكنها تشعر أن الضغط بدأ يثقلها وهي في منتصف السبعينات من عمرها.
لقد أتعبت الصبر بصبرها، فلم يحتمل البقاء معها بعد أن شعرت روحها بجفاء غريب يجتاح حياتها ويتركها ذليلة الحاجة والعوز.
في التاسعة عشرة من عمرها عام 1954 انضمت جميلة إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وبعد أن كانت أولى المتطوعات في زرع القنابل ضد آليات المستعمرين الفرنسيين وجنودهم، أصبحت المطاردة رقم واحد من جيش الاستعمار ومخابراته إلى أن أصيبت برصاصة في كتفها لتكون ـ بعد أن ألقي القبض عليها ـ فريسة سهلة ممتنعة.
كانت فريسة سهلة لأن جسدها في قبضة سجانها، وممتنعة لأن كرامتها وعزتها ترفض أن ينصاع لسانها تحت صعقات التعذيب الكهربائي، أو تحت سياط التعذيب وفنون الألم البشعة التي ابتدعتها عقلية الاستعمار الفرنسي فيدلي بأي معلومة مهما كانت صغيرة في نظرها.
ولأن سجل اعترافاتها نظيف إلا من اعترافها بالحب لبلدها، فقد حكمت عليها المحكمة بالاعدام فواجهت الحكم بأمرين: الأول قولها للقاضي:
«الحقيقة أنني أحب بلدي وأريد له الحرية، ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطني. لكنكم إذ تقتلوننا لا تنسوا أنكم بهذا تقتلون تقاليد الحرية الفرنسية. ولا تنسوا أنكم بهذا تلطّخون شرف بلادكم وتعرّضون مستقبلها للخطر. ولا تنسوا أنكم لن تنجحوا أبداً في منع الجزائر من الحصول على استقلالها».
والثاني : هو ضحكة عالية وعصبية ذكية دفعت القاضي ليصرخ في وجهها قائلاً: «لا تضحكي في موقف الجد».
تلك المرأة التي ضحكت حين نطق القاضي حكمها بالإعدام، لم تستطع الضحك أو لم ترد الضحك حين غفل عنها المجتمع، وضيعتها القوانين التي فرضت لها ما لا يكفي لحياتها وعلاجها، ولذلك اتجهت برسالتها الثانية لشعب الجزائر قائلة: «أجد نفسي اليوم في وضعية جدّ حرجة. مريضة. نصحني الأطباء بإجراء ثلاث عمليات جراحية. صعبة ومكلفة. لكن لا أستطيع تحمّل تكاليفها. منحة التقاعد ومعاش الحرب المتواضع لا يغطيان احتياجات العمليات الجراحية». وكان طلبها الوحيد منهم «مساعدتي ضمن إطار إمكاناتكم».
آه لو كانت جميلة في عالم غير عالمنا العربي والإسلامي إذا لما داهمتها الحاجة وما ضغطها العوز، ولما اضطرت إلى الاقتراض، لكننا عالم له طباعه الخاصة، وهي طباع ليس للمضحين والمجاهدين فيها أي ذنب سوى انتمائهم لهذا العالم أو ذاك المجتمع.
كم هي المفارقة كبيرة ومبكية بين الأفلام التي حكت قصة جميلة وتضحيتها، وكذلك الأشعار والكتابات والاحتفالات التي أقيمت على شرفها كلما حلت في أرض عربية وإسلامية، وبين رسالتيها السابقتين لحكومة بلادها ولشعبها وهي تشكو أوضاعها.
هل فعلا تأكل الثورات أبناءها؟ وهل ينسى الشعب الجزائري تاريخه؟ ما أعرفه أن الشعب الجزائري كريم ومضح، ولا يمكن أن يخذل تاريخه أو ينسى تضحياته، وأعتقد أن ثمة خللا سيسعى المجتمع بفطرته وكرامته لتصحيحه، وإعادة الاعتبار لقيمه وماضيه قبل رد الاعتبار للأشخاص ولتاريخهم، وإن كان فصل الماضي عن حركة هؤلاء الأشخاص يقرب من الاستحالة، لأنهم جزء صانع لذلك التاريخ.