التأسيس للتسامح الديني
ينظر كثير من الدينيين للاختلاف الديني بين بني البشر نظرة سطحية ساذجة، حيث يرى كل منتمٍ إلى دين أو مذهب، أن معتقده هو الحق والصواب، وما عداه خطأ وباطل، وهذا الاعتقاد أمر مفهوم؛ لأنه لو لم يعتقد ذلك في دينه ومذهبه لما صح له اتباعه والأخذ به.
لكن السطحية والسذاجة تكمن في تعجبه من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، كيف يأخذون بدين باطل ومذهب فاسد؟
إنه يرى نفسه على الحق الذي لا نقاش فيه، والصواب الذي لا ريب فيه، فلماذا لا يتبعه الآخرون في دينه ومذهبه؟
ويمكن للإنسان أن يتجاوز هذا الشعور الساذج لو التفت إلى أن الآخرين قد يحملون النظرة نفسها تجاهه وتجاه عقيدته، إنهم يرون أنفسهم على الحق والصواب في انتمائهم الديني، وأن ما عداه باطل وضلال، وهم أيضًا يتعجبون ويتساءلون: لماذا لا يتبع هو سبيلهم؟ وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، [سورة الأنعام، الآية: 108].
هذا لا يعني أنه ليس هناك حق ولا حقيقة، فالانتماء الديني قائم على أساس التمسك بالحق ومفارقة الباطل.
لكن ما نريد الإشارة إليه والتأكيد عليه، هو أن المسألة الدينية عند بني البشر تحيط بها الكثير من التعقيدات وعوامل التأثير المختلفة، وهي ليست مسألة سهلة يمكن النظر إليها بسطحية أو يمكن حسمها بمناظرة ونقاش.
إن هذه النظرة السطحية للقضية الدينية هي وراء اندفاع الكثير من الدينيين للتبشير بمعتقداتهم بطرق فجّة ملتوية، لا تتفهم ظروف الآخر، وقد تؤدي إلى الإساءة إليه والاصطدام به.
إن من حق الإنسان أن يفخر بعقيدته ويدعو إليها، لكن عليه أن يدرس حال من تتوجه إليه الدعوة، وأن يتعاطى معه باحترام، ويقرَّ له بحقه في الرفض والقبول، وهذا هو المنهج الإلهي، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾، [سورة النحل، الآية: 125].
والحكمة هي وضع الشيء في مكانه المناسب، فليس كل شخص، ولا كل وقت، ولا كل أسلوب مناسبًا للدعوة. كما لا يصح لك أن تتناقش مع الآخرين المختلفين معك في القضية الدينية، إذا لم تكن مؤهلًا لإدارة الحوار بأفضل أساليبه، يقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، [سورة العنكبوت، الآية: 46].
حيث تشير الفقرة الأخيرة من الآية إلى تجاوز تفاصيل الاختلاف للتأكيد على موارد الاتفاق والاشتراك.
إن القراءة الواعية لآيات القرآن الكثيرة التي تناولت مسألة الاختلاف الديني، تمنح الإنسان بصيرة ورشدًا في التعاطي مع المخالفين له في المعتقد الديني.
إننا نعيش مشكلة على صعيد اختلاف الانتماء المذهبي والفكري في مجتمعاتنا، حيث يسعى الأفراد إلى تكلف طرح الخلاف المذهبي في أي لقاء أو علاقة مع أحد من أتباع المذهب الآخر، والتيار الفكري الآخر.
روى أبو بصير قال: «قلت لأبي جعفر ـ الإمام محمد الباقر ـ: أدعو الناس إلى ما في يدي؟ فقال: لا. قلت: إن استرشدني أحد أرشده؟ قال: نعم، إن استرشدك فأرشده، فإن استزادك فزده، وإن جاحدك فجاحده»[1] .
وعن ثابت أبي سعيد قال: قال لي أبو عبدالله ـ الإمام جعفر الصادق : «يا ثابت، ما لكم وللناس؟ كفّوا عن الناس ولا تدعو أحدًا إلى أمركم، فوالله لو أن أهل السماء وأهل الأرض اجتمعوا على أن يضلّوا عبدًا يريد الله هُداه ما استطاعوا، كفّوا عن الناس، ولا يقول أحدكم: أخي وابن عمّي وجاري، فإن الله عزّ وجلّ إذا أراد بعبد خيرًا طيَّب روحه، فلا يسمع بمعروف إلا عرفه، ولا بمنكر إلا أنكره، ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره»[2] .
إن مثل هذه النصوص تهدف إلى ترشيد التعامل مع المخالفين في المعتقد، وعدم الابتذال والتهور في طرح قضايا الخلاف العقدي مع الآخرين.
كما يكسب الطفل اللغة والعادات وأنماط الحياة من عائلته التي يتربى في أحضانها، كذلك يتشرّب معتقدها الديني، وينشأ على حب ذات الرموز والمقدسات التي تؤمن بها عائلته، ويلتزم مذهبها ومسلكها.
هذا هو واقع الناس الديني في كل الأزمنة والبقاع، وهو السبب الرئيس لبقاء الأديان والمذاهب، حيث تتوارثها الأجيال عن طريق التربية والتنشئة.
فمن يولد ويتربى في عائلة مسيحية كاثوليكية يصبح مسيحيًّا كاثوليكيًّا، وسيكون أرثوذكسيًّا لو ولد من عائلة أرثوذكسية، أو بروتستانتيًا إن تربى في أسرة بروتستانتية..
وكذلك من يولد في أسرة يهودية، يصبح يهوديًّا على مذهب أسرته، والشيء ذاته يحصل لدى العوائل الإسلامية، حيث يكون أبناؤها مسلمين على مذاهب أهلهم، سنة وشيعة وغيرها.
وقد يفارق الإنسان فيما بعد دين أهله ومذهب عائلته، إلى دين ومذهب آخر يقتنع به، لكنها تبقى حالات استثنائية قياسًا إلى واقع الحال العام في مسيرة المجتمعات البشرية..
ذلك الواقع الذي اصطدمت به رسالات الأنبياء عبر التاريخ، فمع ما زوّد الله تعالى به أنبياءه من حق بيّن، ورسالة واضحة، وبراهين صادقة، جاؤوا بها لأقوامهم، إلا أن الانشداد لدين الآباء، وعمق تأثير النشأة والتربية، كان يحول بين معظم أولئك الناس وبين الانقياد للحق، والاستجابة لدين الله تعالى.
يقول تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾، [سورة الزخرف، الآيتان: 22-23].
روى ابن عباس (رضي الله عنه) أن النبي قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه»[3] .. إشارة واضحة إلى هذه الحقيقة الاجتماعية.
ويتداول الجمهور الشيعي بيتين من الشعر في مجال الاعتزاز بالانتماء للمذهب، يتضمنان تأكيدًا على دور التربية والتنشئة في كسب الولاء الديني، وهما:
لا عذب الله أمي أنها شربت وكان لي والد يهوى أبا حسنٍ |
حبّ الوصي وغذتنيه في فصرت من ذا وذي أهوى أبا حسن | اللبن
لا تكاد تجد مجتمعًا بشريًّا في غابر الأزمان وحاضره، إلا وله صبغة وهوية دينية، وعضوية الفرد في مجتمعه تعكس تلك الصبغة الدينية على حياته، بدءًا من الأعراف والتقاليد الاجتماعية في استقباله كمولود جديد، وانتهاءً بمراسيم توديعه وتشييعه بعد مفارقة الحياة، مرورًا بقوانين الزواج، وأحكام الطقوس العبادية، ومقتضيات المناسبات والشعائر الدينية التي تسود مجتمعه.
حيث يجد الإنسان نفسه منساقًا للتفاعل والتكيّف مع أجواء بيته الاجتماعية في بُعْدِها الديني. حتى لو كان غير مقتنع بكلِّ أو بعض تلك التوجهات والممارسات؛ لأنه لا يريد أن يبدو عنصرًا شاذًّا مخالفًا للجو العام، مما قد يعرضه للضغوط، ويجعله منبوذًا في مجتمعه.
إن معظم الناس في مختلف الأديان والمذاهب لا يتعاطون مع المعتقد الديني كمسألة شخصية وقرار فردي، كما هو الواجب عقلًا على الإنسان، بل يتعاطون مع المعتقد كخيار اجتماعي، فيوفّرون على أنفسهم عناء التفكير فيه، ومسؤولية البحث في الخيارات البديلة.
وقديمًا قال الشاعر العربي دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت | غويت وأن ترشد غزية | أرشد
لذلك يشعر أتباع كل دين ومعتقد بالرضا عمَّا هم عليه، وتوحي لهم أجواء التوافق العام في مجتمعهم بالثقة في معتقدهم، خاصة وهم ينشأون على حبِّ وتقديس زعامات وقيادات تأخذ في نفوسهم موقع التأثير والإجلال، ولا يتصورون أنها تسير بهم على خطأ أو توجههم لباطل.
وهذا ما نبّه إليه الإمام جعفر الصادق بعض أتباعه ممن بدا منهم الحماس والاندفاع في دعوة الآخرين إلى المعتقد والمذهب، قال : «لا تخاصموا بدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب ... ذروا الناس، فإن الناس أخذوا عن الناس»[4] .
ثم إن في كل مجتمع مراكز قوى ترى نفسها معنية بالدفاع عن دين المجتمع، وحماية معتقداته ومقدساته، في وجه أيِّ تمرد أو خروج على المعتقد السائد، بدءًا من السلطة السياسية التي قد تستثمر المظهر الديني لتعزيز سلطتها، كما يحدثنا القرآن الكريم عن فرعون حين يرفع لواء الدفاع عن دين المجتمع في مقابل نبي الله موسى ، يقول تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾، [سورة غافر، الآية: 26].
وهناك المؤسسة الدينية في كل المجتمعات، ووظيفتها حراسة العقيدة، والدفاع عنها، والوقوف بحزم أمام أي رأي مخالف.
إضافة إلى سائر القوى الاجتماعية التي لا تتساهل في ردع من تسوّل له نفسه الخروج على المسار الديني للمجتمع.
هذا الحال للبيئة الاجتماعية يصيّرها محضنًا للمعتقد الديني، تنشأ عليه الأجيال، وتلتزم به، وتنشدُّ إليه، ويحصّنها من التأثر بالدعوات المخالفة، والاتجاهات العقدية الأخرى.
وهو ما يفسّر لنا استمرارية الأديان والمذاهب وتوارثها عبر الأجيال، كما يفسّر لنا صعوبة مفارقة الأفراد للتوجهات الدينية السائدة في مجتمعاتهم. تلك الصعوبة التي لا يتحملها إلا من يوطّن نفسه على مواجهة شتى ألوان المعاناة والضغوط، وهم في العادة قلة من أفراد المجتمعات، كما يتحدث القرآن الكريم في سير عدد من الأنبياء، ففي سيرة نبي الله نوح يقول تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾، [سورة هود، الآية: 40].
وفي سيرة نبي الله موسى يقول تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾، [سورة يونس، الآية: 83].
نعم، يسهل الأمر إذا تمكن الاتجاه الآخر والدعوة الجديدة من تكوين مجتمع موازٍ، يوفّر بيئة بديلة تلبِّي الحاجة لانتماء اجتماعي، والشعور بالحماية والأمن.
إن شريحة من الناس يتمسكون بمسلكهم الديني تعصبًا وعنادًا، حتى وإن اتضح لهم الحق والصواب في غيره، وقد ينطلقون في اختيارهم الديني من دوافع المصلحة ونيل المكاسب والمآرب.
وهم بذلك يظلمون أنفسهم قبل أي أحد آخر، ويتحملون مسؤولية موقفهم أمام الله سبحانه وتعالى.
وليس على الأنبياء وأتباعهم المؤمنين تجاههم أي مسؤولية عدا التذكير والتبليغ، ثم تركهم وشأنهم وما اختاروا لأنفسهم.
يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 20].
إن بعض حملة المعتقدات والآراء تبرز لديهم نزعة ذاتية تدفعهم نحو الهيمنة على الطرف الآخر وإخضاعه، متجاوزين بذلك حدود التبشير بمعتقدهم وعرض رأيهم، وهذا ما لم يأذن الله تعالى به لأنبيائه فضلاً عن غيرهم من سائر الناس.
إن من أعظم دلائل صدق القرآن الكريم، واقعية نهجه، وموضوعية تناوله للقضية الدينية في حياة البشر.
فمع تأكيد القرآن الجازم المدعّم بالأدلة والبراهين على حقانية الإسلام، وأنه وحده دين الله، وما عداه لن يقبله الله تعالى، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾، [سورة آل عمران، الآية: 19]، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 85]، إلا أن القرآن يؤكد -إلى جانب ذلك- على حرية الإنسان في هذه الحياة، حيث ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، [سورة البقرة، الآية: 256]، ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾[سورة الكهف، الآية: 29]، ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾، [سورة يونس، الآية: 99].
وتقتصر مهمة الأنبياء في منطق القرآن على التبليغ والتذكير، وليس لأحد منهم ممارسة الفرض والهيمنة على الناس: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾، [سورة الغاشية، الآيتان: 21-22]، ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾، [سورة الشورى، الآية: 6]، ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾، [سورة النساء، الآية: 80].
وعلى النبي ألَّا ينزعج إذا لم يستجب الناس لدعوته، فهم يمارسون حقهم الطبيعي في الاختيار، ويتحملون مسؤولية أنفسهم أمام الله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، [سورة الشعراء، الآية: 3]، ﴿طَه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾، [سورة طه، الآيات: 1-3].
ويعترف القرآن بوجود أتباع الديانات الأخرى، إلى جانب وجود أتباعه المؤمنين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، [سورة الحـج، الآية: 17].
ويوصي القرآن أتباعه بحسن التعامل مع المخالفين لهم في الدين، ما لم يكونوا معتدين: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾، [سورة الممتحنة، الآية: 8].
ويلفت القرآن النظر إلى أن المسألة الدينية لا تخضع عند أبناء البشر في الغالب لمنطق الدليل والبرهان، وإنما تتأثر بالميول والانشدادات، وتعتريها حالات التعصب والعناد. يقول تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾، [سورة البقرة، الآية: 145].
ويروّض القرآن الكريم نفوس المؤمنين ليتعايشوا مع واقع التنوع الديني، فهو قدر البشرية إلى يوم القيامة، فلا يتوهمنّ أحد بإمكانية الفصل والحسم بين الديانات في هذه الحياة الدنيا، إذ إنها مهمة مؤجلة إلى يوم القيامة، وتتم بين يدي الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، [سورة الحج، الآية: 17]، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾، [سورة السجدة، الآية: 25]، ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، [سورة المائدة، الآية: 48].
هذه الرؤية القرآنية تؤسس لنهج التعايش والتسامح بين أبناء البشر على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتحمي أجواء السلم والوئام داخل المجتمعات المتنوعة الانتماءات، وبغياب هذه الرؤية الواقعية تقرع طبول الحروب الدينية، وتتوالى نُذُر صدام الحضارات، وتعاني المجتمعات من التمزق الداخلي والاحتراب المذهبي.
ومن المؤسف جدًّا أن تسود أجواء الصراع المذهبي والنزاع الطائفي في ساحة أمة يتلو أبناؤها مثل هذه الآيات من القرآن الكريم كل صبح ومساء ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟ [سورة محمد، الآية: 24].